صفحات العالمميشيل كيلو

ديمقراطية أمريكا

null
ميشيل كيلو
من الصعوبة بمكان الحديث عن الديمقراطية في أمريكا، ليس لأن لها بنى وسمات خاصة تميزها عن بقية بلدان الرأسمالية/ الغربية وحسب، بل كذلك لاختلاف ممارسات مواطني أمريكا عن مواطني هذه البلدان، وتباين علاقاتهم مع الدولة والمؤسسات السياسية، المختلفة بدورها عن مثيلتها الأوروبية، سواء في هياكلها أو في وظائفها .
يقوم نظام الحكم الأمريكي على ركيزتين توازن كل واحدة منهما الأخرى هما: السلطة التشريعية ممثلة في مجلسي النواب والشيوخ، والسلطة التنفيذية، المتركزة حول الرئاسة . أما المبدأ الناظم لعلاقات السلطتين فهو الرغبة في تقييد السلطة التنفيذية وضبط جموحها المحتمل في بلد عملاق يملك إمكانات هائلة . هذا التقييد هو ما تعلمته أمريكا من تجربة روما القديمة، ودول أوروبا الحديثة، وخاصة تجربة الثورتين البريطانية والفرنسية، على ما بينهما من تباين وفروق . يدير الرئيس الأمريكي النظام بالتعاون مع الكونجرس، السلطة الموازية والموازنة، التي تملك من الصلاحيات ما يتيح لها ضبطه، في حين يملك هو قدرات دستورية وعملية تمكنه من تحقيق ما يريد، ضمن علاقة مع الكونجرس تتسم بالتنازع والتوافق في معظم الأحيان والحالات . يكتسب الرئيس وزنه من كونه، مثله مثل الكونجرس، منتخباً من الشعب أيضاً، فهو يستمد الشرعية من الجهة التي تضفيها على السلطة التشريعية . وفي حين يمتلك الرئيس أجهزة مساعدة ذات نفوذ ودور مقررين في إدارة وحفظ الدولة، كالجيش والشرطة والبيروقراطية، يمتلك الكونجرس صلاحيات تمنحه سلطات تجعل منه مرجعية الدولة في مسائل مهمة كإعلان الحرب والتوصل إلى السلام، رغم وجود مواصفات عملية وقانونية متنوعة تقيد حريته حتى لا يتحول إلى مصدر للاستبداد التشريعي، وتمكن الرئيس من تفاديه أو القفز من فوقه، وخوض الحرب من دون إعلان، خاصة إن كانت له أغلبية حزبية فيه،  إذ خاضت أمريكا حرب فيتنام من دون إعلان رسمي، ومن دون موافقة مسبقة من الكونجرس .
عندما تنظر إلى الدولة الأمريكية تظن أنه لا يوجد في أمريكا مجتمع، وعندما ترى المجتمع تعتقد أنه لا توجد فيها دولة . هذا القول لماركس يعطي فكرة عن نمط ثان من التوازن هو التوازن في أمريكا بين الدولة والمجتمع . تتمركز السلطة الأمريكية حول الرئيس، فهي جد مركزية، وتتصل حصرا بمصالح وشؤون الاتحاد، الذي يجب على الرئاسة الحفاظ عليه وإدارة أموره والتوفيق بينها . أما إدارة المجتمع، وخاصة شؤون الولايات المحلية، فهي غير مركزية، بما أن أمريكا دولة اتحادية، مكونة من مجموعة ولايات/ دول، يختار المجتمع حكامها، إلى جانب دوره المهم في إدارة شؤونه المباشرة وتقرير نمط وشكل حياته .
هناك، أخيراً، نمط ثالث من التوازن، يقوم بين الفرد من جهة وبين الدولة والمجتمع من جهة مقابلة . أمريكا بلد ديمقراطي منضبط من فوق، تراقب حركاته وسكناته أجهزة جبارة وقادرة، تضبط كل شيء في الأوضاع العادية، وتتدخل بطرق عنيفة في مراحل التوتر الاجتماعي والأزمات الاقتصادية . لكنها أيضا بلد حريات فردية وشخصية تكاد تكون بلا قيود، خاصة في حالات السلام والتوازن الاجتماعي والاقتصادي . ثمة، في أمريكا، فضاء داخلي مفتوح وواسع يتحرك الفرد فيه بحرية تحت أعين أجهزة تسهر على تصرفاته، التي غالباً ما تكون شرعية، إن هي اتفقت مع القانون، وغير شرعية إن تعارضت معه . في الحالة الأخيرة، تكون يد السلطة شديدة، علماً بأن العلاقات مع جهات تنفيذية وتشريعية، مركزية ومحلية، وجو الحرية الواسع يشجع على مخالفة القانون وفتح ثغرات فيه، كما يشهد على ذلك نشاط وتاريخ الشركات الكبرى والمافيا . عند الالتزام بالقانون، لا تتدخل الدولة في شؤون الفرد، حتى ليظن المرء أنها غير قائمة في أمريكا، بينما يفسح المجتمع مجالاً واسعاً للحراك الفردي، فلا يرتطم الأفراد داخل فضائهم الخاص ارتطاماً عدائياً بعضهم مع بعض أو مع المجتمع والدولة، ويحافظون على السلامة العامة، وهي مفهوم يحتل مكانة مميزة من عقل أمريكا كمجتمع مهاجرين يخشى خطر التصدع . هذه الحرية الفردية والشخصية مقدسة في نظر الأمريكي، ومع أنه تم تقييد جوانب منها لبعض الوقت، خلال حقب معينة، فإنها حامل الحياة العامة الأمريكية، القائمة على الحرية في كل شيء، بما في ذلك أكثر الأمور غرابة وخطورة كتشكيل منظمات مسلحة بأسلحة ثقيلة وسيطرة المافيا والعصابات المسلحة على أحياء ومدن بكاملها . ومع أن الدولة قد تتدخل لحجب الحرية عن قطاعات أو أشخاص بعينهم، فإنها لا تقوض أسس الحرية المتعارف عليها، وإن كانت قد بدأت تضيق حرية بعض الفئات، بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 . بالمقابل، تشوب ديمقراطية أمريكا عيوب ونواقص متنوعة منها:
وجود قوى مؤثرة جداً في المجتمع الأمريكي، تتصرف بمقدرات اقتصادية هائلة الحجم وتمارس دورا مقررا بالنسبة إلى مجمل النظام، كما تؤخذ مصالحها بعين الاعتبار في كل تدبير أو قرار، مع أنها لا تكاد تخضع لأية رقابة، بسبب سيطرتها العميقة على مفاتيح ومراكز الحياة العامة من مدارس وجامعات ووسائل إعلام ولجان نيابية ومؤسسات صناعية ومرافق عسكرية ومراكز أبحاث وابتكار . هذه القوى تعمل خارج النظام، رغم أنها فاعلة فيه، وتقرر، بما لها من قدرات، مصالحه العليا . إنها الشركات الرأسمالية عابرة الأمم والبلدان، التي تحد من مجال حركة ونفوذ الدول القومية في مناطق عديدة من العالم، وتلعب أدواراً كانت بالأصل من اختصاص الدولة، لكنها لا تنضوي، كقوى، ضمن النظام الديمقراطي، ولا تخضع بالضرورة لمعاييره الداخلية وللقوى الفاعلة فيه، بل هي فوقها أو خارجها .
إلى جانب هذه القوى، توجد في أمريكا مصالح وتكوينات تقوم إلى جانب المصالح والتكوينات القانونية والشرعية، الممسكة بمفاصل الحياة العامة والشخصية . هذه القوى والتكوينات “الفرعية” تفيد من هوامش الحريات الواسعة، ومن الثغرات القانونية، ونقاط الضعف الإدارية، وتناقضات وتوازنات المؤسسات التنفيذية والتشريعية، والتهافت على الثروة والثراء، وتلعب دورا مؤثرا في الحياة العامة، بما في ذلك خلال اختيار كبار ممثليها وقادتها وانتخابات الرئاسة، لتمارس دورها خارج القانون، أو للإفادة من عيوبه وثغراته .
من الصعب نقل تجربة أمريكا الديمقراطية إلى خارج الولايات المتحدة، باستثناء ما يتصل منها بالحرية الفردية والشخصية . إنها تجربة تقوم على توازنات تتطلب مهارة خاصة في إدارتها، كثيرا ما تكون لحظية وتختلف من حالة لأخرى . وبالنظر إلى صعوبة أو استحالة إعادة إنتاج هذه التوازنات خارج أمريكا، فإن التجربة الأمريكية تبقى خاصة ببلدها وفريدة في نوعها، فلا معنى إطلاقا لاتهام أنصار الديمقراطيين العرب بالرغبة في استنساخ هذه التجربة في بلدانهم، لاستحالة ذلك .
ليست أمريكا بلداً ديمقراطياً بمعنى الكلمة . إنها بلد حريات واسعة وتعقيدات سياسية وإدارية تتم معالجتها بصورة علنية وقانونية غالباً، بما يعزز التوازنات داخل دولة قوية القبضة، وبينها وبين مجتمعها المستقل نسبيا عنها والمفتوح، وبين هذا وبين الفرد الحر . إنها خلطة من ديمقراطية أثينا الحرية الفردية وروما الحكم القوي وفرنسا الثورية المجتمع المدني الحر . يفسر هذا سر قوتها، ويبين نقاط ضعفها، ويجعلها تجربة فريدة وغنية ووطيدة، أكثر من أية تجربة أخرى عرفتها الديمقراطية الحديثة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى