صفحات الحوار

جمانة مصطفى لـ”الرأي”: أكتبُ الشعر بتقنيّات النحت

null
بيروت – حسين بن حمزة: منذ ديوانها الأول “غبطة برية” الصادر منذ عامين، قدمت الشاعرة الأردنية جمانة مصطفى قصيدة مكتوبة وفق تأمل داخلي منفتح على التجربة الشخصية ونثريات الحياة اليومية ومشهدياتها العابرة. قصيدة مكثفة تتجاهل الثرثرة والاسترسال المجاني وتذهب إلى الخلاصات والتصورات المكثفة. تجنب السردية جعل هذه القصيدة منشغلة باصطياد الصور والاستعارات، حتى إن بعض نصوص ديوانها كان مؤلفاً من سطور قليلة أو مجرد صورة شعرية واحدة.
هذه التقنيات والمشاغل ترسّخت أكثر في ديوانها الثاني “عشر نساء”، وبدت جمانة مصطفى أكثر بحثاً عن حساسية وصوت ومزاج.
الشغف بالشعر، كتابته وقراءته، أدخل جمانة مصطفى منذ عامين في مشروع جدي بعنوان “شعر في مسرح” يتم فيه تقديم الشعر على الخشبة بالتزامن مع مهرجان أيام عمان المسرحية، ولكن الخشبة هنا لا تعني العودة إلى منبرية قديمة.
“الرأي” سألت جمانة مصطفى حول تجربتها ومشروع “شعر في مسرح” وكان هذا الحوار:
* ديوانك الأول “غبطة برية” خلا تقريباً من عثرات البواكير الشعرية. كان هناك نضج مبكر في النبرة والتجربة. ماذا عن بدايتك والمؤثرات الأولى ولماذا الشعر وليس وسيلة تعبير أخرى؟
– سأبدأ من نهاية السؤال، الشعر وليس وسيلة أخرى ليس خيارا، ولو كنت سأختار – بالفرض الساقط – لم أكن لأختار سوى الشعر، القصيدة لم تطرأ علي ولم أطرأ عليها، تعرفت على ذاتي في الشعر، ولطالما سحرني وقع الكلمة في القصيدة، فكنت ألمح الذكاء هنا، والمدهش هناك، حتى تربت ذائقتي مبكرا كما أدعي، على التلذذ بالقصيدة إلى أبعد حد، وبالتالي يطيب لي القول إنها البدايات تفسر الطريق كله.
هل هناك نضج مبكر فعلا ؟؟ هذا أمر لا أدعيه وهو متروك لمن يطلع على الديوان، إنما وللحقيقة كان هنالك ثلاثة دواوين سبقت هذا الكتاب وكان قدرها أن تحرق، واحد منها ضم القصيدة العامودية، ولن أخفي سعادتي الآن أني لم أنشره، ولم اضطر لفعل التبرؤ كما فعل العديد من الشعراء.
حاليا.. لا أنكر أنني مهووسة بصنعة النحت، القصيدة تكتب في دقائق والنحت يستغرق شهورا وربما أعواما دون أدنى مبالغة، وهذا يقودني إلى السؤال الذي طالما أرقني، هل هم الفنان الحقيقي أن يقدم للحياة أفضل ما لديه، أم أفضل ما هو موجود؟ هو ليس أكثر من سؤال، سيكون من السذاجة الإجابة عليه.
أما البدايات، فكانت مكتبة والدي، وما ضمته من كنوز الشعر العربي على امتداد المراحل من فترة ما قبل الإسلام، وحتى مجموعات ابراهيم طوقان وأحمد شوقي، الغريب أن معجمي الأول لم يتعرف على قصيدة النثر، فقد جاءت هذه المعرفة متأخرة جدا.

* هناك حضور واضح للحياة اليومية والتجربة الشخصية في قصائدك. إلى حد تصلح هذه الخلطة في امتلاك بصمة خاصة وسط إقبال أغلب الشعراء الجدد على كتابة اليومي والشخصي؟
– أصنِّف هذا السؤال في خانة الأسئلة الخبيثة، حين تقول أن أغلب الشعراء الجدد مقبلون على اليومي والشخصي، فهذا كلام دقيق ومنصف، التجربة الذاتية هي المنهل الأساسي لكل فنان، وليس فقط الشاعر، لكن إذا خصصنا هذا الجواب للشعر، فسينبع اختلافك من اختلاف حياتك ذاتها، واختلاف تجربتك، وتفاصيلك اليومية، هل أنت حر أم متحرر، هل أنت مجنون أم تفتعل الجنون، وللشاعرات تحديدا هل خضت حربك الحقيقة في المجتمع أم طحنتها إلى معارك صغيرة وسهلة، إجابة كل شاعر على حدى على أسئلة من هذا النوع بينه وبين نفسه هي برأيي ما يفرز البصمة الخاصة وسط جيل من الشعراء، ذاهب بمجمله إلى تأريخ اليومي والشخصي.
لكن.. لماذا الشخصي والذاتي وليس القضايا الكبرى، نحن هنا نتحدث عن جيل كامل من الشعراء ظهر بعد انحسار المد اليساري وما حمله من رومانسية وحريات وأفكار عظيمة، حيث أمست (فكرة الحشد الواحد) التي تمدك بالإحساس بعظمة المبدأ في الفعل الماضي، لم تعد هناك أحلام كبيرة، الأحلام السابقة وقد تحققت اتضح أن الواقع أضفى عليها لونا باهتا، الحريات تمارس على الانترنت يا سيدي، المظاهرات إذا خرجت تكون إما بتنظيم من أصولي، أو في فورة غضب مؤقتة هدفها إراحة الضمير، وسرعان ما تخبو وتعود الحياة إلى مسارها، ماذا تبقى للشعراء من جيلي ليكتبوا عنه سوى التجربة الذاتية والحدث اليومي، لكن.. حين تمسي حرفة الشعر هي استخلاص السحر من العادي، فأنت لا تتحدث عن شيء آني، بل باقٍ، أو على الأقل هذا ما أتمناه.

* تبدين مشغولة بالاقتضاب والكثافة والتأمل الداخلي واصطياد الصور والاستعارات. ماذا يعكس هذا بالنسبة لكِ. هل هي استراتيجية ذاتية للنجاة من السرد والثرثرة والاستطراد. هل على الشعر أن يُكتب بالممحاة كما يُقال؟
– نعم، أنا أبحث عن المدهش لكن ليس الصادم، ولا تهمني الثرثرة، ولا المكرور، وتسحرني تماما أي صورة جديدة في القصيدة، هل أعطي الجواب هنا أهمية أكبر من حجم السؤال؟؟ على الأغلب نعم، وسأروي لك القصة إلتي نبعت منها هذه الإستراتيجية الذاتية كما أسميتها. في الثانوية العامة أطلعت أستاذ اللغة العربية على تجربتي، وقتها طلب مني أن أتوقف عن قراءة الشعر لعشرة أعوام كيلا أتأثر بأي أسلوب، وبالفعل استثنيت الشعر من قراءاتي، ربما طاب لي حينها أن أضفي طابع الخطورة والأهمية على النصيحة، فكنت كلما أمسكت ديوانا، أتصفح غلافه الخلفي وأتركه، وكأنني قطعت قسما مقدسا أو شيء من هذا القبيل، تضحكني هذه القصة الآن، ولا أدري كيف صمدت طوال هذه المدة، لكن للحقيقة حين استأنفت قراءة الشعر وتحديدا قصيدة النثر، قدرت أهمية النصيحة التي لم تكن عبثية.

* ما الذي تغير في ديوانك الثاني “عشر نساء”. يلمس القارئ سعياً إلى نقلة أسلوبية وتعبيرية، وحفراً في الموضع السابق أيضاً. هل يبدأ الشاعر بلغة ما وتظل ملتصقة به وتتحول إلى علامة وتوقيع؟
– لا أحد يطالب الشاعر بأن يصنع نقلة نوعية في كل ديوان. لكنني أؤمن أن قصيدة واحدة كاملة الجمال، وأضع خطين تحت كلمة كاملة، تكفي الشاعر في حياته لكي يسمى شاعرا، حتى لو عنى هذا الأمر أن يصف هو بنفسه بقية منتجه بالمحاولات.

* هل تشعرين أنك تنتمين إلى جيل أو لديك أقران في الشعر الأردني الراهن. ما هي خصوصية هذا الجيل؟
– لا أنتمي إلى أي زمان ومكان، ما أطمح له فقط أن أنتمي إلى الشعر وحسب، وألا يشوب إخلاصي وتزمتي له أي شائبة، أما موضوع الأقران، فليس لدي أقران، ولا أعتقد أن تصنيف الشعراء كفريق كرة القدم هو أمر صحيح، ففي الشعر تحديدا لكل صوته ولكل قصيدته، وما من أنداد، أما خصوصية الجيل فهي ذاتها التي تحدثنا عنها في السؤال السابق في تأريخ الذاتي واليومي، وهي ليست حكرا على الأردن، وأتحدث تحديدا عن قصيدة النثر وليس العامودية، لأني لا أقرأ ما ينتج منها وليس لدي أدنى اطلاع عما يحدث هناك.

* لنتحدث عن تجربة “شعر في مسرح” التي بدأت بتنظيمها منذ عامين في عمّان. ما الهدف منها. هل تطمحين إلى خلق صداقة من نوع مختلف بين الشاعر والمتلقي من خلال وضع الشعر غير المنبري في حالة “منبرية” تناسبه.
– الخشبة ليست منبرا، وظيفة المنبر هي تأدية رسالة مباشرة كمنابر الجوامع.
“شعر في مسرح” هي أيام شعرية تقام تحت مظلة مهرجان أيام عمان المسرحية، ودورة العام 2010 هي الثالثة، حيث نقوم بتقديم الشعر والشاعر في إطار مخرج مسرحيا، بالاستعانة بالأدوات الجمالية المساعدة من سينوغرافيا وموسيقى، وكلاهما يصمم للقصيدة بل ويستخرج منها، قد أكون راديكالية لكني أعتقد أن زمن المنابر ولّى، وأطمح لأن يعود الشعر إلى رحمه الأول، المسرح بدأ شعراً، وولادة المسرح الحقيقية كانت أشعارا إغريقية قديمة تمجد الآلهة، حتى أن أول من بحث في موضوعة الدراما هو أرسطو في كتابه “فن الشعر”، وإلى هذه البدايات أنسب فضل نجاح التجربة وهذا الانسجام الفطري الذي ظهر بين الشعراء والخشبة، وكما أشرت من قبل، إنها البدايات تفسر الطريق كله.
الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى