قضية فلسطين

مذبحة على الهواء

ساطع نور الدين
غزة تستغيث. نساؤها وأطفالها وكهولها يذبحون. الإسرائيليون داخل المدينة المنكوبة التي توشك ان تدخل التاريخ بوصفها المذبحة الفلسطينية الاكبر، من بين المذابح التي تعرض لها الشعب الفلسطيني طوال الاعوام الستين الماضية.
تخطت الارقام كل ما حفظته الذاكرة الفلسطينية من شهداء حتى اليوم. صار هناك قياس جديد، وعلامة فارقة اضافية، تبدو معها مذابح التأسيس الاولى للدولة العبرية مجرد لعب اطفال يهود كانوا يلهون بجثث الفلسطينيين ودمائهم، فباتوا اليوم ينظمون الحملات العسكرية والسياسية التي تحظى بالإجماع، وتنتهي بحصيلة لم يسبق لها مثيل.
طويت او ستطوى قريبا ذكريات مذابح فلسطينية مروعة نفذها الاسرائيليون بأنفسهم ، او استعانوا بآخرين لتنفيذها.. لكنها كانت كلها وليدة اللحظة، او نتيجة المواجهة المباشرة. مذبحة غزة هي الاولى من نوعها التي تخرج اليها الدولة العبرية بكامل وعيها وتصميمها وتخطيطها، ومن دون ان يرف لها جفن، أو يثار جدل، ولو مصطنعا، بين يمين او يسار، او بين نخبة وبين عامة. الهستيريا الاسرائيلية جماعية. وهي حالة استثنائية مرعبة ليس لها شبيه حتى في الاعوام التي سبقت قيام دولة اسرائيل.
للأسف، الاستغاثة الفلسطينية ليست الاولى من نوعها. لكنها ربما الاولى التي تصل مباشرة من نساء وأطفال وكهول، يصرخون في الكاميرات ثم يمضون بعد دقائق او ثوان نحو الموت المحتم، الذي يحظى هذه المرة بتغطية حية: أجساد تنتفض بدمائها ثم تسلم الروح. مذبحة على الهواء. الشاشة تصفع، الصوت يجرح، والذهول يتحول الى دموع، ثم الى ترقب للمشهد التالي، او اللقطة الاخرى علها تأتي بجديد!
التلفزيون يغادر وظيفته الاصلية في ترسيخ البلاهة، وتعميم الجهالة. يحاول التعبئة، يتعمد الإثارة التي لم تعد تحتاج الى جهد كبير. لكن الصورة لا تحفر مكانها، والصوت يتلاشى بسرعة، ويتحول الى فاصل موسيقي مؤثر يسبق نشرات الأخبار او يعقبها. عدد الشهداء يتضاعف، وكذا عدد المشاهدين.. الذين استقروا على هذا الدور المستقطع، من زمن المذبحة الفلسطينية التي حظيت بما لم تحظ به كل المذابح السابقة.
ما قبل غزة ٢٠٠٩ يختلف عن كل ما بعدها. لكن فقط في تلك التغطية المباشرة التي ساهمت في التعبير عن الرأي الذي كان مكتوما، وفي تظهير ذلك التواطؤ الشامل بين الجمهور وبين الحاكم في جميع الدول العربية والإسلامية من دون استثناء، وفي تضخيم تلك الخلافات التقليدية بين الزعماء العرب، او في الانحياز بين هذا المحور العربي او ذاك، او بين هذا المسؤول العربي او ذاك.
الصراع على القمم العربية يبدو سخيفا، بل مشينا لتلك اللحظات التي يمضيها المشاهد العربي امام الشاشة بحثا عن وقائع وصور جديدة من المذبحة، فإذا به يتنقل بين الدوحة والقاهرة ودمشق وعمان ورام الله، ليرى وجوها لا يليق عرضها على اي تلفزيون، ولا يجوز الالتفات الى وفاقها ولا الى خلافها حول سبل تلبية نداء غزة، التي تستغيث على الهواء مباشرة.. من دون ان تسمع جوابا، لا في القصر ولا حتى في الشارع.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى