صفحات مختارة

الوجه الآخر من الإصلاح

null
سليمان تقي الدين
نحن الآن في القرن الواحد والعشرين بالحساب العالمي. لهذا الزمن التاريخي دلالة حاسمة. الإنجاز العلمي الحديث يختصر المكان والزمان. نستطيع الآن في اللحظة ذاتها أن نشاهد الأحداث التي تقع في أي مكان من الكرة الأرضية. هذا هو الفارق بين زماننا والزمن الذي كانت فيه وسائل الاتصال والانتقال مقصورة على الحمام الزاجل أو الجمل أو الحصان. هذه واحدة من الأمثلة التي يمكن إيرادها من زاوية رمزية على معنى الزمن الذي نحن فيه. هناك ملايين الأمثلة الأخرى.
الغرب أو العالم الصناعي أو العالم المتقدم كيفما شئنا تسميته قطع هذه المسافة الزمنية في نمط حياته ووعيه بشكل عام. هو يعيش في الزمن الحاضر بكل تبعاته. لا شيء من الماضي يمنعه عن ذلك.
نحن العرب المسلمين تحديداً لا زالت لدينا مشكلة مع فكرة الزمن هذه. فئات واسعة اليوم من جمهرة المسلمين ونتيجة لوعيها الديني الخاص تريد أن تعيش في الماضي. إنها لا تريد الاعتراف بمجرى الزمن وتحولاته. من الأخطاء الشائعة أن نسمي هذه الفئة بالأصولية. هناك ظواهر أصولية في كل مكان من العالم وفي كل ثقافة، لكن ما نحن بصدده في مجتمعنا هو هذه الظاهرة المتناقضة من حركة المجيء بالماضي إلى الحاضر، وأخذ الحاضر إلى الماضي مادياً ونفسياً. هذه الحركات أو التيارات التي تدّعي أن مرجعها ديني هي مناقضة لفكرة الزمن الديني. في الوعي الديني هناك زمن يتحرك ويتقدم إلى غايات كبرى حاملاً معه تغيّرات في الوعي والمعاش. ثمة حركة نمو واكتمال وفقاً لأسطورة معينة بالمعنى الإيجابي للأسطورة.
فالدين، كل دين، هو في وجه أساسي منه رجاء مستقبلي، وعد يأتي بما هو غير الماضي وغير الحاضر، هو صنو الحركة لا صنو الركود والسكينة والموت. هو ولادة جديدة تأتي لتوافق فكرة من الطوبى والخيال اللذين يلهمان البشر للعبادة والعمل في آن واحد.
ينتج الدين في كل زمان ومكان ظاهرات شعبوية متفاوتة ومختلفة بدواعي التفاوت والاختلاف في الوعي. فالأمانة الكبرى التي حملها الإنسان عن سواه من المخلوقات وهي العقل وحدها تنتج أشكال الوعي المتعددة. من هنا جاءت المذاهب والفرق الدينية والتيارات والتفسيرات وأحياناً الثورة الدينية. واحدة من نقائصنا التاريخية كمسلمين عرب أننا لم ننجز ثورتنا الدينية أو إصلاحنا الديني. لقد تراكمت حول الدين عندنا ثقافات شعبية فرعية كادت تلغي الجذر الأصلي وتنحيه عن صدارته لمصلحة مدارس وأفكار فقهية هي ذاتها لم تخضع لغربال العقل النقدي والتاريخي. لقد صارت كثرة من الناس تعبد آراء الفقهاء والعلماء وتأويلاتهم ومأثوراتهم الشعبية وهي منتج عقلي وتاريخي وليست أو لا يجب أن تكون هي المقدس أصلاً. لا يختلف المسلمون عملياً في الكتاب بل في الخلافة والإمامة وما يتفرع عنهما. يختلف المسلمون في الزمني الذي نشأ عن الديني أو انبثق منه. أي الذي انبثق عملياً من عقول المسلمين وقراءاتهم المختلفة للنص الديني. هذا المعطى التاريخي يمكن التعامل معه بروح تاريخانية، ليس بإلغاء الجدل حول بل بالحسنى.
ما يعيق هذا الأمر هو الموروث العصبي أو القبلي. فإذا كنت ممن لا يكرهون الناس في دينهم فعليك ألا تكرههم بشتى أشكال الإكراه بما في ذلك الخطاب والفعل المعنوي. غير أن الواقع هو غير ذلك من أشكال «التكفير». والتكفير في الرأي هو الإكراه بعينه. وها نحن نجد الكثير من العلماء الذين يناهضون سياسة التكفير، وهذا بدء الإصلاح المنشود. لكن هذا وحده لا يكفي لمعالجة مسألة جاوزت الألف والأربعمئة سنة من التاريخ المتراكم من النزاع وما يلحق به من مأثور شعبي وكراهية وأحقاد وكيد وكل ما له علاقة بالعواطف السلبية. قد لا تنجح سياسة التوحيد أو التقريب بين المذاهب في الإسلام، لكن من غير المعقول ألا تنجح سياسة «المعاهدة» بين المسلمين على إعمال الجدل العقلي المنطقي الراقي البعيد عن غوغاء الشارع وتراثه البغيض. مفجع ما بات يحصل في ديار المسلمين من انحطاط في الخطاب الديني وانعكاس ذلك على عيش الجماعات الاندماجي الذي أخذ يتفكك الآن في العائلة الواحدة. لقد بتنا نعجز عن تفسير ظواهر التقاتل بين أبناء العشيرة الواحدة باسم هذا الانقسام الفقهي فيمتنع الزوج عن زوجته والولد عن خاله أو صهره وما إلى ذلك.
لا نظن أن هناك جاهلية حقيقية أكثر من هذه الجاهلية التي يُسأل عنها علماء المسلمين قبل عامتهم. لا يجوز أن نستهين بحجم هذا «الإحياء» الوثني ـ الصنمي ـ القبلي لماضٍ لم تعد له نتائج عملية. الآن على مستوى ما يمكن وصفه بالحق التاريخي. إن المسلمين يصنعون تاريخهم اليوم بوعيهم للحاضر ومتطلبات المستقبل. وهم لا يستطيعون ذلك إلا بأدوات العصر التي يسعون إلى امتلاكها وامتلاك الوعي الذي أنتجها والشروط التي من خلالها تكون لها فعالية بين أيديهم.
مفجع، مفجع، إذا لم يتحرك علماء المسلمين ونخبتهم المدنية أيضاً للقيام بحركة إصلاح لأحوالهم قبل الادعاء بتغيير العالم. لن يتقدم المسلمون طالما ليست لهم كلمة في المستقبل بل لديهم فقط كلمات من الماضي. ولا نظن عالماً يستحق هذه الصفة إذا كان لا يملك إلا لغة التحريض على وقائع تاريخية كادت أن تكون نسياً منسياً لوقت قريب ثم صار إحياؤها في حمأة الصراع السياسي.
على المواطنين البسطاء، على الشبان المتحمسين أن يسألوا فرسان المنابر إلى أين يأخذهم هؤلاء، ما نمط الحياة الذي يريدونه، ما هي المعايير التي يحاكمون بها حياتنا اليومية وما المثل التي يريدونها لحكامنا، للسلطة وكيف تدير مجتمعنا، للدولة وما هي مقوماتها، وما العلاقة بين الوعي الديني وممارسات الفريق السياسي الذي يؤيدون؟ على النخب السياسية ولا سيما الثقافية أن تفسر لنا موقعها من الخطاب الديني ـ السياسي في ثوبه التحريضي الفئوي، وفي نكوصه الخطير عن مجابهة التحديات المعاصرة. لا يمكن بحال من الأحوال أن يحالف التقدم أثقال الماضي كلها على هذا النحو. لا يمكن التعايش الهادئ بغير ما قلق وبغير ما أسئلة بين ادعاءات الليبرالية والتحرر من كوابيس الاستبداد والاتكاء على هذه أو تلك من قلاع الاستبداد والتخلف والرجعية. ثمة حد من النزاهة الفكرية والوجدانية نحتاج إليه في كل عمل سياسي وإلا وقعنا في انحطاط السياسة كما هو حالنا اليوم.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى