صفحات مختارةميشيل كيلو

كيف تتحول الحرية الفردية من ضرورة الى شأن أمني؟

null
ميشيل كيلو
منذ الخمسينيات، كانت الأحزاب القومية والشيوعية تروج للتحرر باعتباره شيئا مختلفا، وفي أحيان كثيرة، متعارضا مع الحرية. التحرر، في مصطلحها وفهمها، كان له معنى وحيد أو رئيسي هو تخليص العرب من الاستعمار الخارجي، وحصولهم على حق تأسيس دول مستقلة خاصة بهم، على أن تلي ذلك مرحلة تتحقق فيها الحرية.
بهذا الفهم، لم يبق من سبيل إلى التحرر غير وحدة وطنية وشعبية داخلية صماء، كتيمة ومطلقة، يصعب على المستعمر النفاذ إليها لتفتيت إرادة الشعب الموحدة، أداته ووسيلته إلى الاستقلال. بما أن الحرية الفردية والشخصية قد تمس بهذه الوحدة، من حيث تمكن المواطن الفرد من العيش وفق قناعاته وعلى هواه، فإن أهميتها احتلت مرتبة تالية بالمقارنة مع أهمية التحرر، فلا بد أن تنضوي فيه وتخدمه، ولا أهمية لغير جوانبها التي من شأنها تأسيس وتوطيد وحدة الشعب والوطن: رافعة الاستقلال وأداة منع الاستعمار من المناورة على أي تناقض قد ينشأ بين حرية الفرد وتحرر شعبه ووطنه.
بهذا، تم التغاضي عن ضرورة الحرية وممارستها باسم تحرر وطني لم يعتبر في أية مرحلة من مراحله مفهوما مركبا، إن تجانست حرية المواطنين الأفراد وتفاعلت في إطاره كان بلوغه أكثر سهولة وخروج المستعمر أيسر منالا. كما فهم التحرر بوصفه حدا جامعا مانعا يقابل ويبطل، ولو إلى حين، حد الحرية، الفردي والتفريقي، الذي يمكن أن يقوض أو يضعف، عند ممارسته، إرادة الجماعة وتاليا فعل التحرر، وأن يخدم المستعمر، فلا ضير في تقييده والحيلولة بينه وبين تهديد مصالح وأهداف النضال العليا، لأنه عندئذ سيلعب دورا لا يمت إلى الحرية الحقيقية بصلة.
ثمة، في خلفية هذا النمط من الفهم، قدر من التضارب بين حرية الفرد / المواطن وحرية الجماعة الوطنية، يسلم بصعوبة، أو استحالة التوفيق بين أهدافه وأهدافها، وبحتمية إعطاء مرحلة التحرر أولية مطلقة، وإن قيدت الحرية كضرورة وجود وحياة للمواطن / الفرد، وأقرت بأنها تصبح شرعية في المرحلة الثانية، التالية لإنجاز التحرر.
ثمة هنا مسألتان تستحقان الاهتمام:
– تعتقد معظم النظم العربية الراهنة أن مرحلة التحرر لم تنته بعد، بسبب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ووجود المشكلة الفلسطينية، والصراع الدائر في المنطقة العربية وعليها بين العرب وقوى أجنبية متنوعة، دولية وإقليمية. بما أن مرحلة التحرر لم تنجز تماما بعد، فإن أوان المرحلة الثانية، مرحلة الحرية، لم يأت أيضا. من هنا، تضمر المطالبة بأوليتها تهديدا جديا للوحدة الوطنية، ينجم عن التباين بين طبيعة التحرر وطبيعة الحرية، وعن ارتباط الأول بالجماعة وقيمها ومصالحها، وبتشكل الشعب والوطن والدولة، والثانية بالفرد ونوازعه الشديدة التباين من شخص لآخر، وبحقه في أن يكون ما يريد، وأن يفعل ما يشاء. هل صحيح أن مرحلة التحرر لم تختتم بعد؟
يكفي تذكير من يقولون هذا من أنصار النظم الحاكمة أنهم كانوا يتباهون إلى ما قبل سنوات قليلة بطرد المستعمر وتحقيق الاستقلال وبناء حياة جديدة تحميها دول مستقلة وحديثة نجحت في اللحاق بالعصر. غير هؤلاء رأيهم، على الأرجح، بسبب هزيمتهم أمام العدو الإسرائيلي في عام 1967، التي تحدت قدراتهم، وعجزوا عن الخروج منها، كما عجزوا عن تحقيق ما كانوا قد وعدوا بإنجازه من مشاريع تحديثية، وخاصة منها مشروع بناء دولة حديثة، عامة وشاملة ومجردة، تكون لكل مواطنيها، يحكمها قانون هو السيد الوحيد فيها، وتعمل على توحيد العرب. هذا الفشل، هل يعيدنا إلى مرحلة التحرر الوطني؟. وهل يجوز أن تكافأ عليه نظم قيدت وأبطلت حرية مواطنيها، أم يجب أن نخرج منه عبر استكمال التحرر بالحرية، وسد الثغرات الكثيرة والكبيرة جدا، التي أنتجتها خيارات وممارسات النظم الفاشلة خلال نصف القرن المنصرم؟.
– لعب التناقض المصطنع بين التحرر والحرية دورا خطيرا في إيصالنا إلى ما نحن فيه، ليس لأن المفهومين غير متناقضين وحسب، بل لأن أحدهما لا ينهض دون الثاني، ما دام التحرر هو حرية الشعب، والحرية هي تحرر المواطن / الفرد من أية عقبات وعوائق تقيد حقوقه وإرادته في إطار الجماعة. إن وضع التحرر في مواجهة الحرية أبطل طابعه، ورؤية الحرية أو ممارستها خارج إطار التحرر قيدها وشوهها وحد من فاعليتها، وينشر بدلا منها فوضى مدمرة في كل مكان. بكلام آخر: إذا كان نجاح مرحلة التحرر العربي يتطلب تهميش الحرية كمفهوم وكممارسة، فهذا يعني أننا نسير اليوم، وسنسير في الغد أيضا، من فشل إلى آخر، على صعيدي التحرر والحرية، وأننا رفضنا تعلم أي شيء من تجربة نصف القرن المنصرم، وتأمل نواقص وثغرات فكر وسياسات النهضة والتنوير، وفهم أن التحرر إما أن يكون محصلة عليا، على صعيد المجتمع والدولة، لحريات المواطنين، أو أن لا يكون هناك أي تحرر على الإطلاق.
قد يعتقد بعض القراء أن هذه مشكلة نظرية مجردة. أذكر في هذا السياق بتجربة ثورية عربية قرر قادتها الميدانيون التخلص من أي منتسب إلى الثورة حظي ببعض التعليم، لاعتقادهم أنه خطر يتهدد الوحدة الوطنية الضرورية للتحرر، بما في نفسه من نزوع نحو الحرية!.
بعد الاستقلال، الذي يفترض أنه كان نتاج التحرر، وقع انتقال خطير في العقل السياسي العربي، الذي وصل إلى السلطة أواخر الخمسينيات، كشف ما في معارضة التحرر بالحرية من شمولية كامنة، حين جعل سلطة الدولة الجديدة ممثلا شرعيا ووحيدا للجماعة الوطنية في طور أول، ثم اعتبرها في طور ثان هذه الجماعة بذاتها ولذاتها، المهددة بالغزو الصهيوني والمخاطر الإمبريالية والمؤامرات الرجعية، فلا بأس عليها إن هي اتخذت، باسم الحفاظ على وحدة الجماعة، مواقف متشددة أو عدائية من مبدأ الحرية، ومن ممارساتها الملموسة، وتعاملت مع الداعين إليها باعتبارهم اختراقا خارجيا يمكنه تقويض وحدة الوطن وتهديد استقلاله، خدمة للعدو بطبيعة الحال. بهذه النقلة، أوجدت السلطة لها عدوا داخليا هو المواطن الحر أو المطالب بحريته، أخذت تطارده وتقمعه وتدفعه إلى خارج السياسة والشأن العام. بمرور الوقت وتكريس هذا الموقف في أيديولوجية قامت على العداء للحرية باعتباره إحدى ضمانات الوحدة الوطنية والاستقرار الداخلي، تحولت الحرية من قضية فلسفية وضرورة سياسية إلى مسألة أمنية، وتحول المناضلون في سبيلها إلى جواسيس لا بد من قمعهم، يتبنون مواقف مناهضة لخيارات سلطة هي الجماعة الوطنية، وبالتالي الوطن، من واجبها الدفاع عنهما بكل ما في أيديها من وسائل.
استفحل هذا الجو وتفاقم خلال السنوات الخمسين الماضية، وحمل طابع سياق تاريخي وضع الجماعة فوق الفرد وفي مواجهته، ورأى فيها كلية شبه مقدسة لا قيمة له بالمقارنة معها، ليس له أي حق غير الالتزام بما تراه، مقابل هوامش شخصية، اجتماعية وأخلاقية، توطد وحدتها وأمنها ولا تلحق أي ضرر بمصالحها. ثمة هنا حرية تقتصر على تماثل الفرد الطوعي مع الجماعة التي ينتمي إليها، وعلى الدفاع عن قيمها ومواقفها، وتقديم روحه، عند الحاجة، في سبيلها. هذه حرية الشخص في أن يلغي فرديته وتاليا إنسانيته، وأن يعطي جماعته أولية مطلقة على ذاته، التي لا يحق له اعتبارها، في أي حال، ذاتا حرة تتعرف خصوصيته كإنسان بها. ليس الفرد شيئا من هذا كله. إنه مجرد عضو في جماعة تتلاشى صفته الإنسانية بقدر ما يتماثل معها، وليس إنسانا يقوم فضاؤه الخاص في ذاته وما يشبهها من ذوات، وليس كذلك فضاء هيئة مجتمعية عامة تتكون من ذوات حرة هي مادة أي تكوين عام، لذلك لها الأولية عليه، خاصة إن كان وجوده ينفي وجودها، وتبلوره ينفي كيانها الإنساني، وتاليا المجتمعي والمدني.
يعتقد معظم الساسة العرب أن المقاومة حق مقدس للشعوب. لكن أغلبهم ينكر أن الحرية حق مقدس للأفراد، وأن تحرر الجماعات الوطنية محال بدونها. من كان يظن في منتصف القرن الماضي أن التحرر لن يحقق الحرية، بل سيقيدها، وأن نظامه سيضع مثل العرب العليا وأهدافهم بعضها في مواجهة بعض، بحيث يبطل كل واحد منها غيره، ويحقق عكس ما يعد بتحقيقه أو يراد منه؟. ومن كان يصدق أننا سننحدر باسم التحرر إلى الدرك الذي نحن فيه؟..

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى