صفحات الناس

الغلاء والفقر في سوريا الغنية!! ….. لماذا؟

null

حزب العمل الشيوعي في سورية

لا يمكن للعين أن لا تلحظ التغيرات الواسعة والعميقة التي تصيب المجتمع في سوريا في السنوات الأخيرة. فالأسواق باتت دائماً غنية بتنوع ووفرة كبيرة من السلع. وفي شوارع المدن تتزاحم السيارات الحديثة من كل صنف ولون, حتى تكاد تعجز عن السير في أوقات الذروة.

وثمة الكثير من المحلات التجارية البراقة, والمطاعم الفاخرة, والفنادق الفخمة, والبنوك , والمدارس الخاصة العالية المستوى, والجامعات والمعاهد الخاصة الباهظة التكاليف. ولا ننسى المشافي الخاصة ذات الأسعار المميزة, والمراكز التجارية الكبرى المترفة. بل وبات في سوريا شركات طيران خاصة, وشركات أمنية خاصة لمن يحتاج لخدماتها ….. وكل هذا في بحر من اللوحات الإعلانية الشديدة التنوع, والتي تضيء شوارع المدن الرئيسية بأنوارها الباهرة. وفي مواقع منتقاة في المدن وجوارها, ينهض حشد متزاحم من المشاريع السكنية المترفة التي يفضل تسعيرها بالدولار وليس بالليرة, والتي تقدم من ضمن ماتقدمه لزبائنها خدمات تسويقية وترفيهية من مستوى عالمي. (عديدة هي المشاريع التي يبلغ ثمن الشقة أو المسكن فيها عدة ملايين من الدولارات.)

يشير كل هذا إلى أن ثمة ثروات كبيرة في سوريا, وثمة سوريين يملكون من الأموال الكثير الكثير. فما دامت الخدمات والمظاهر المعروضة آنفاً موجودة, فلابد أن ثمة من ينشئها بأمواله, وثمة من يشتريها ويتمتع بها, بل ويطلب منها المزيد. فلماذا تكثر الأحاديث عن أزمة غلاء وفقر خطرة في البلاد إذاً؟

***

ماذا تقول الأرقام؟

لنلق نظرة سريعة على ماتقوله الأرقام عن الاقتصاد السوري, مع التحفظ الأكيد على دقتها ومصداقيتها, فمشكلة سرية المعطيات الحقيقية عن الاقتصاد (وغيره) في بلادنا معروفة, واحتمالات (تجميل الصورة) عبر تعديل المعطيات والأرقام أكثر من واردة.

بلغ الناتج المحلي الإجمالي عام 2006, (بالأسعار الثابتة لعام 2000) ما قيمته 1,192,820 مليون ليرة, بمعدل نمو بلغ 6,5 % عن عام 2006.

ورغم أن معدلات النمو المذكورة تقل عن المخطط له في الخطة الخمسية العاشرة, فهي معدلات عالية نسبياً, وتحقق كما يفترض تحسناً في مستوى المعيشة للسوريين وفي فرص العمل المتاحة لهم. لا سيما أن تزايد السكان يقل عنها بصورة واضحة (2,35 % نسبة التزايد السكاني السنوي).

ووفق الأرقام السابقة زادت حصة الفرد الواحد من الناتج بمقدار /2500/ ليرة تقريباً بالأسعار الثابتة، وبمقدار /12,500/ بالأسعار الجارية. أي من حوالي 63 ألفاً إلى 65500 بالأسعار الثابتة, ومن حوالي 90 ألفاً إلى 102,500 ألفاً بالأسعار الجارية. (هذه الحصة هي مسألة تجريدية غير حقيقية, وتحسب على افتراض توزيع الناتج المحلي على المواطنين بالتساوي).

ونشير هنا في السياق, أن معظم النمو المحقق تم بفضل نمو قطاعات الخدمات (زادت مساهمته في الناتج من 13,5 % إلى 14,7 %) والمال والتأمين (من 4.9 % إلى 6.5 %) والبناء والتشييد (من 3.3 % إلى 4.1 %).

أما قطاعات الإنتاج المادي, فقد حافظ بعضها على نسبة مساهمته في الناتج, وتراجع بعضها الأخر عن تلك النسبة. (إنتاج النفط من 15.2 % إلى 12.9 % , الصناعة التحويلية حافظت على نسبة 7.6 % , الزراعة تراجعت مساهمتها من 24.5 % إلى 22.7 %).

ولابد أن نشير إلى أن مايعرف باقتصاد الظل, أي غير الرسمي وغير المسجل, يبلغ حوالي 50 % من الاقتصاد السوري, وفق التقديرات شبه الرسمية, وهو غير متضمن في الأرقام السابقة جميعها, وفي حال تنظيمه وإدراجه فإن المعطيات السابقة ستتغير كثيراً, وربما جذرياً, سواء لجهة قيمة إجمالي الناتج المحلي, أو لجهة نسب مساهمة كل قطاع اقتصادي فيه.

ماذا تقول الأرقام والمعطيات السابقة؟

إنها تقول الكثير، وسنأخذ هنا ما يتعلق بموضوعنا فحسب:

أولاً: إن الاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصاد السوري تتفاقم, بدل أن تجري معالجتها من قبل السلطة, مما يجعل مجمل البنية معرضة لانهيارات حادة, تبعاً للظروف السياسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية. ويكفي هنا أن نسوق مثالاً واحداً, حيث تتركز نسبة كبرى من الاستثمارات في قطاع الخدمات ولاسيما السياحة (فنادق- مطاعم- شاليهات- عقارات من مستوى مترف) مما يضعها تحت رحمة المناخات والقرارات السياسية الإقليمية والدولية, طالما أنها معدة أصلاً لغير السوريين, وحجمها وتكاليفها تفوق إمكانات وطلب السوق السورية الداخلية كثيراً, ولنتائج اختلالات هيكلية الاقتصاد على الاستقرار الاجتماعي والاستقلال السياسي وقدرة البلد على الممانعة أو المقاومة أو تحمل نتائج الحصار والحروب بحث خاص لسنا بصدده هنا. لكن يمكننا القول بإيجاز بأن هذا النمط من النمو/ التنمية, في القطاعات الموصوفة, يُزيد ارتهان القرار السياسي للمحيط الإقليمي والدولي, مالم يترافق مع نمو/ تنمية أكبر منه في قطاعات الإنتاج المادي, لاسيما في الصناعة التحويلية والزراعة ذات الأهمية الاستراتيجية.

ثانياً. إن معدلات النمو المحققة, مقارنة بنسبة تزايد السكان توفر مايكفي من الثروة لتحسين مطرد في مستوى معيشة السوريين, ومستوى الخدمات العامة التي يتعين على سياسات الدولة أن تحرص على تأمينها لهم في شتى مرافق الحياة. لكن هذا لايحدث.

إذ يتركز التحسن بل ويكاد ينحصر في معيشة وخدمات الطبقة والشرائح العليا من المجتمع. وهو ما يلقي الضوء على أسباب المظاهر التي عرضناها في بداية هذا المقال, كما يلقي الضوء على أسباب المظاهر المناقضة والقاتمة التي سنعرضها لاحقاً, في الوقت نفسه.

ثالثاً. ويزيد في وضوح أسباب المظاهر البراقة المذكورة آنفاً, أن النمو المحقق يعود إلى قطاع الخدمات والمال والبناء, إذ تصب نسبة كبرى من الاستثمارات فيه. وهو بدوره موجه لمتطلبات الأثرياء من سوريين وعرب وسياح, في حين تكاد تقتصر على الضرورات القصوى وبأدنى الحدود خدمات الإسكان والاستشفاء والترفيه المصممة لحاجات الطبقات الشعبية. هذا في حين تتراجع أو ترواح في مكانها نسبة مساهمة قطاعات الزراعة والصناعة في الناتج المحلي.

***

هل يكفي ماسبق, لتفسير أو تبرير الأحاديث والقلق المتزايد عن أزمة غلاء وفقر في بلادنا, وعن اتجاهات تطور تنذر بمزيد من الغلاء والفقر بشكل لم تعرفه سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي؟

إذا عرف السبب …..

تكمن المشكلة الكبرى التي تولد القلق ومشاعر الأزمة المتفاقمة عند عموم أبناء الشعب في مكان آخر يفوق أهمية كل ماسبق, إنه في كيفية توزع الثروة الاجتماعية في المجتمع السوري, واتجاه تطور هذا التوزع.

أولاً. فالحد الأدنى للأجور, والذي لا يصل إلى خمسة ألاف ليرة (حتى نهاية عام 2007 الذي أُخذت الأرقام السابقة فيه) والذي تتقاضاه شريحة واسعة من العاملين, ويتقاضى أقل منه شريحة أوسع من العمال والموظفين في (اقتصاد الظل), هذا الحد هو على درجة من البؤس بحيث أن عمل ثماني ساعات يومياً لايوفر للعامل دخلاً يسمح له بتجديد قوة عمله بالاعتماد على نفسه فقط, حتى بأشد معايير الفقر بؤساً (طعام, لباس, مواصلات, سكن, طبابة… وكل هذا بأرخص سعر متاح). ناهيك عما إذا كان للعامل أسرة من فرد آخر أو أثنين عليه إعالتهما, مما يضطره حكماً للبحث عن مورد ثانٍ أياً تكن طبيعته, أو يكرهه على دفع زوجته بصرف النظر عن مؤهلاتها إلى سوق العمل, وكثيرون يدفعون بأطفالهم إلى السوق, أياً تكن القسوة أو الشروط التي ستتحكم فيهم هناك.

ثانياً: إذا تجاوزنا شريحة العاملين بالحد الأدنى للأجور, إلى الشريحة التي تتقاضى أجراً يعادل ضعف هذا الحد (نحو عشرة آلاف ليرة شهرياً) والتي تضم عمالا وموظفين ذوي خبرة, أمضوا مابين /5-10/ سنوات في العمل, وهم مثبتين في وظائفهم ومسجلين في الضمان الاجتماعي. فإننا سنواجه هنا الشريحة الأوسع من العاملين بأجر في شروط مستقرة. وهنا, لن نجد تغيراً مهماً في شروط العيش عن الشريحة السابقة (شريحة الحد الأدنى للأجور), سوى أن درجة الفقر أقل قليلاً, ولابد من عمل ثان في الأسرة, لتلبية حاجات الحد الأدنى من الحياة (متوسط الأسرة السورية 5.6), ونحن هنا نتحدث عن حاجات الكفاف بحدها الأدنى, وبصرف النظر عن النوعية إطلاقاً.

تمثل الشريحتان سابقتا الذكر القطاع الأوسع من العاملين بأجر في شروط قانونية: معظم العمال وصغار الموظفين والعسكريين الأفراد ومعلمي الابتدائي ومعظم المتقاعدين.

ثالثاً: يبقى سائر العاملين بأجر, وهم النسبة الكبرى من الشرائح والطبقات الشعبية: عمال القطاع الخاص الذي ينتج 65% من الناتج المحلي والذين يعمل معظمهم بلاعقود عمل قانونية, وبالتالي بلا ضمانات لحقوقه إلا مايتكرم به رب العمل. وكذلك نسبة ملحوظة من العاملين في الدولة بعقود عمل مؤقتة, تحت الاختبار (وهذا احتيال صريح على حقوقهم يلجأ له مدراء الشركات لخفض الأجور, وتتواطأ معه جهات الدولة الأخرى بمافيها القضاء, وقد مضى على عمل كثيرين منهم سنوات عديدة دون أن يتم تثبيتهم في العمل), ومضافاً إلى هؤلاء جميعاً العاملون (في اقتصاد الظل), كل العاملين في العمل غير الموصوف, وحشود البطالة المقنعة, والعمال القاصرين, والأطفال العاملين, والعمال المياومين والعمال الموسميين.

هذه الفئات والشرائح جميعها تعيش القلق اليومي لعدم استقرار العمل, وعدم استقرار الأجر, ومحدودية أو انعدام الضمان الاجتماعي والصحي, ناهيك عن الطول المفرط لوقت العمل وما يجره من إرهاق شديد. وتعيش القلق اليومي على تأمين الكفاية من لقمة العيش وحاجات الحياة الأشد بساطة والأكثر ضرورة. وتعيش الخوف الدائم من التعرض للمرض أو الحوادث التي قد تعطلها عن العمل لبعض الوقت, ناهيك عن عدم وجود أي احتياط مالي لتغطية تكاليف العلاج حين يستحيل الشفاء بدونه … ونحن هنا لانتحدث عن حاجات تأمين سكن أفضل, أو حلم المسكن الخاص, أو حاجت تأسيس الأسرة بالنسبة لمن هم في سن الزواج … إلخ … إنما نتحدث عن الحاجات اليومية الأشد ضرورة بالمعنى الحصري للكلمة, ويكفي أن نعلم أن نسبة كبيرة من هذه الشرائح تعمل بأجر يقل عن الحد الأدنى للأجور المحدد قانوناً, ويتدنى في حالات كثيرة إلى حوالي ألفي ليرة سورية في الشهر, … هذا إذا كان العمل مستقراً نسبياً! ولاغرابة بالتالي أن نجد كثيرين في هذه الشرائح يعتبرون أن العاملين بالحد الأدنى للأجور. ولكن بوضع قانوني ثابت, محظوظون!

رابعاً: ولاتكتمل لوحة الحياة الاجتماعية للشرائح السابقة الذكر جميعها, مالم نسلط الضوء على عامل رئيسي آخر يزيدهم فقراً باستمرار, ويسلبهم جزءاً من مستوى معيشتهم عاماً وراء عام، إنه التضخم.

تقول الأرقام التي سبق عرضها, إن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام /2007, بلغت حوالي 65.500 ليرة بالأسعار الثابتة. في حين بلغت بالأسعار الجارية مبلغ /102/ ألف ليرة. يعني هذا أن ماكانت تشتريه مائة ليرة في العام /2000/ وهو عام القياس/ بات يستلزم مائة وخمس وخمسين ليرة لشرائه في العام /2007/. أي أن التضخم المعترف به يزيد عن 55 % خلال سبع سنوات (والحقيقة أنه أكبر من هذا بلا ريب).

كم بلغت زيادات الرواتب والأجور, خلال الفترة نفسها؟ إن مجموعها يكاد يغطي نسبة التضخم المعترف بها. هذا بالنسبة لعمال وموظفي الدولة والقطاع الخاص المثبتين في أعمالهم بعقود نظامية. وهم يشكلون الفئات (المحظوظة!) من بين سائر أبناء الطبقات الشعبية, لأن زيادات دخولهم مكنتهم (نظرياً) من الحفاظ على مستوى معيشتهم دون أي تحسن يتناسب مع معدلات النمو الاقتصادي الرسمية! بل الأقرب للحقيقة القول بأن مستوى معيشتهم قد انخفض قليلاً وما فعلته زيادات الرواتب والأجور خلال سبع سنوات إنما كان إبطاء سرعة انخفاض مستوى المعيشة, وليس الحيلولة دونه!

أما سائر الفئات والشرائح (الأقل حظاً), ممن جرى تصنيفهم تحت البند /3/ سابقاً, وهم نسبة كبرى من أبناء الشعب, فهؤلاء هم الضحايا الأبرز للتضخم, وهم من يدفع بهم وحش الغلاء إلى أوضاع أشد بؤساً وأكثر فقراً وقلقاً وسوءاً يوماً وراء يوم. فهؤلاء ليس لم يستفيدوا من النمو الاقتصادي المحقق فحسب, بل ولم يستفيدوا أيضاً من الزيادات الرسمية على الأجور, في حين أن كل مايحتاجونه ويتوجب شراؤه من السوق قد زادت تكاليفه بوسطي لايقل عن 155 % خلال سبع سنوات, وفي حين تناقص دخلهم في حالات كثيرة (بالقيمة المطلقة) بسبب تزايد العاطلين عن العمل وتزايد المنافسة على كل فرصة عمل بالتالي, وهو ما أفاد منه أرباب العمل بطبيعة الحال بعرض العمل على من يقبل بأقل أجر!

كل ماسبق يقول حقيقة صريحة وواضحة, بماهو معاش وملحوظ, ووفق الأرقام الرسمية أيضاً, إن الطبقات الشعبية في بلادنا: بكامل طبقتها العاملة تقريباً وبكامل صغار الموظفين والعسكريين, وبكل صغار الفلاحين والشرائح الدنيا غير المستقرة من البرجوازية الصغيرة, لم تستفد من النمو الاقتصادي الذي تتحدث عنه الأرقام الإحصائية الرسمية, في تحسين مستوى معيشتها, بل إن النسبة الكبرى منها قد تدهور مستوى معيشتها بصورة واضحة, وهبطت أجزاء مهمة منها إلى عالم الفقر والفاقة والقلق العميق على مستقبل الحياة.

خامساً. ويأتي أخيراً قرار رفع الدعم عن المازوت, بنسبة 350 % (ماعدا مازوت الأفران, ومازوت التدفئة للأسر, حيث رفع هذا الأخير بنسبة 30 % فقط!), ليفتح الأبواب أمام جائحة غلاء يستحيل التنبوء بحدودها مسبقاً. فرفع سعر المازوت الفاحش هذا يعني زيادة كبرى في تكاليف الصناعة والزراعة والنقل, (وقد رفعت أجور النقل فوراً بنسبة تترواح بين 60-100 %), وبالتالي زيادة كبرى في أسعار كل ماينتج وكل ماينقل….. أي في كل شيء! وستظهر النتائج الكارثية لهذا خلال الأشهر القادمة, مما سيدفع بالملايين من السوريين, ولاسيما من الطبقات الشعبية نحو إفقار أشد وأكثر قسوة من كل ماعرف حتى اليوم في سوريا, وعلى امتداد نصف القرن الماضي تقريباً. هذا رغم زيادة الأجور بنسبة 25 % (للمحظوظين؟) المثبتين في أعمالهم, ورغم نسب النمو المسجلة في إحصاءات الدولة!

سادساً. يفسر ماسبق عرضه, طغيان الوجه الآخر للوحة السورية, لوحة الازدهار والثراء في مراكز المدن وبعض الأحياء ومناطق الاصطياف والمنتجعات المرفهة. ويفسر القلق العميق والأحاديث عن الأزمة والغلاء والفقر ….

ولنحدد بعبارات ملامح هذا (الوجه الآخر) لمظاهر الازدهار البراقة:

سكن عشوائي غير صحي ومكتظ لملايين السوريين في أحزمة المدن, لاسيما دمشق وحلب. خدمات بالغة السوء والتخلف (كهرباء, ماء, طرقات, قذارة شوارع وتلوث بيئة شديد .. إلخ.) عمل شاق طويل يستهلك 10 – 12 ساعة يومياً على الأقل من حياة العامل يومياً ولايتركه إلامنهكاً ومستنفذ القوى. بطالة واسعة (وهجرة لمن يسعفه الحظ !) غلاء فاحش في تكاليف الحياة بمختلف الميادين تدفع المواطن للتخلي عن كثير من الخدمات الضرورية للحياة, بما فيها الخدمات الصحية, مالم تكن إجبارية ومهددة للحياة. تدهور مستمر في المدارس الرسمية وتزايد مطرد في نسبة التسرب منها قبل إتمام التعليم الأساسي للنزول إلى سوق العمل. انعدام خدمات الاستجمام والترفيه الشعبية بحيث بات التلفزيون يشكل التسلية الوحيدة المتاحة … إلخ …. إلخ.

هذا هو المناخ الذي يعيشه الملايين من أبناء الطبقات الشعبية السورية, وهو مناخ لاتخفيه, بل تبرزه أكثر في الحقيقة مظاهر الثراء والخدمات المترفة والأضواء البراقة في جزر محدودة من البلاد.

أين تذهب الثروات الناتجة عن النمو الاقتصادي؟

لاتوجد معطيات موثوقة عن توزع الثروة في المجتمع السوري. ولانملك إلا القياس على المجتمعات الشبيهة بمجتمعنا وظروفه لنقول: في تلك المجتمعات, يحظى عشرون بالمائة من السكان بحصة تتراوح حول ثمانين بالمائة من الثروة, في حين تتوزع العشرون بالمائة المتبقية من الثروة على 80 % من السكان، وطالما بيّنا أن جزءاً فحسب من الطبقات الشعبية تمكّن من الحفاظ على مستوى معيشته خلال السنوات الماضية, في حين لم يتمكن الجزء الأكبر من هذا وبات أشد فقراً وحاجة مما كان عليه. مما يعني أن كل من نذكرهم هنا لم يستفيدوا من النمو الاقتصادي في تحسين مستوى معيشتهم, بل إن كثيرين منهم باتوا يعملون بأجور أقل … فلابد أذاً أن النمو المحقق في الاقتصاد قد صب في مصالح وخزائن الفئات المتبقية من المجتمع (20 %) وليس بالتساوي طبعاً, حيث يرجح أن ربع هؤلاء (5 % من السكان), قد فازوا بالحصة الأكبر مما راكمه النمو, كما هي العادة دائماً في المجتمعات الرأسمالية, وهو مايمكّنهم من إنشاء كل مظاهر الازدهار التي وصفناها, ويمكّنهم مع بقية الطبقات العليا للمجتمع (برجوازية كبيرة ومتوسطة والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة) من الإفادة منها والتمتع بخدماتها!

هكذا تتضح ملامح التمايز الطبقي المتسارع في المجتمع السوري, فتكثر مظاهر الثراء والترف والحياة المزدهرة في قطب. في حين تزداد مظاهر الفقر وتتسارع مع متطلبات إتفاقية التجارة الدولية, وشروط صندوق النقد الدولي, والتأزم والحياة البائسة في القطب الآخر الذي يضم نحو ثلثي المجتمع وأكثر, وهو تمايز تزيده تسارعاً سياسات (تحرير السوق), وتقليص دور الدولة التدخلي (رغم مزاعم نظام السوق الاجتماعي), في تجاوب منهجي ف عموماً بالعولمة.

يقول منظرو السلطة, وكل مؤيدي اللبرلة الاقتصادية: لايوجد خيار آخر! نحن مجبرون على هذه السياسات, وإلا فسنتخلف ويزداد فقرنا ويتدهور اقتصادنا, وسنصير (جزيرة معزولة) إذا اخترنا خيارات أخرى, في عالم يزداد (انفتاحاً واندماجاً… كذا!)

ولكن لا. فهذه السياسة هي بالضبط مايزيد تشوه هيكلية الاقتصاد السوري ويجعله أكثر انكشافاً وهشاشة وتبعية للخارج, وهي بالضبط مايزيد فقر الشعب, ويجعلكم مع الطبقة البرجوازية السورية ككل, أكثر ثراء وبشكل فاحش, على حساب العمال والفلاحين وعموم أبناء الشعب. بل وعلى حساب لقمة عيشهم بالمعنى الحرفي للكلمة في هذه المرحلة وماسيليها.

ثمة سياسات أخرى بديلة, تصحح الاختلالات الهيكلية, وتحقق التنمية الحقيقية المستدامة للبلد وللشعب, وتزيد الثروة العامة بصورة أفضل كثيراً مما تفعلون, حتى في ظل النظام الرأسمالي والتنمية الرأسمالية عموماً. بحيث تزدهر حياة الشعب حقاً, ولايثرى جزء منه بشكل فاحش على حساب بقيته. وتزداد البلاد منعة وقوة أيضاً.

بلادنا غنية فعلاً:

غنية أولاً بثروتها البشرية, بالإنسان الماهر المجد والطموح والمبتكر, وبأعداد كبرى من الكفاءات العلمية والفنية والإدارية.

وغنية ثانياً بثرواتها الطبيعية المتنوعة رغم صغر مساحتها.

وغنية ثالثاً بإمكاناتها الصناعية الكامنة التي لا يتيح نظامكم وسياساتكم إلا لجزء صغير منها أن يتحقق على الأرض.

وغنية رابعاً بإمكاناتها السياحية الهائلة وغير المحدودة.

وغنية خامساً بموقعها الجغرافي الشديد الأهمية للسياسة وللاقتصاد والتجارة.

أما كيف نستفيد من هذه الثروات, وكيف ينال الشعب حقه الطبيعي في الإفادة منها … فهذا حديث يطول, سيكون له وقته ومكانه.

** * * * **

هيئة تحرير نشرة الآن العدد 51 أيار 2008

خاص – صفحات سورية –


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى