سلامة كيلةصفحات العالم

ما سرّ هذا «التمرّد» الإسرائيلي؟

سلامة كيلة *
ما حدث مع نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن خلال زيارته الدولة الصهيونية، وما حدث مكرّراً مع باراك أوباما وهو يلتقي بنيامين نتنياهو، لافت. فقد فوجئ الأوّل بالإعلان عن 1600 وحدة استيطانية جديدة، وربّما فوجئ الثاني بالإعلان عن 20 وحدة استيطانية جديدة.
لقد كانت مسألة وقف الاستيطان هي «الأزمة» التي تلفّ العلاقات الأميركية ــــ الإسرائيلية منذ وصول أوباما إلى الرئاسة، حين «قرر» وقف الاستيطان لبدء مفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعدما عيّن جورج ميتشل موفداً شخصياً له. وكرر ذلك في «خطاب القاهرة» الشهير، الذي أقنع بعض العرب بجديته في حل «النزاع الفلسطيني الإسرائيلي». لكن حينها فرضت الحكومة الصهيونية قرارها باستمرار الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وتراجع أوباما. واستمرت «الأزمة» قائمة كما بدا، أو توهم البعض. وحين فجرت الحكومة الصهيونية مفاجأتها خلال زيارة بايدن، قرّر أوباما التشدّد، فوضع شروطاً يجب أن تلتزم بها الحكومة الصهيونية، وأساسها وقف الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وتحدد لقاء بين نتنياهو وأوباما لكي «يُسمع هذا الأخير نتنياهو القرار الحاسم»، وما حدث خلال وجود نتنياهو في أميركا يثير السخرية، إذ كرّر كل مواقفه بشأن الاستيطان، مع إعلان القرار بإنشاء وحدات جديدة.

هل هو «تمرّد إسرائيلي» على أميركا؟

في المقابل، إذا كانت المراهنات على أوباما قد خفتت بعد فترة وجيزة من تسلّمه مقاليد الرئاسة، إذ اتّضح أنّه لم يغيّر شيئاً مهمّاً، وأنّه خضع للسياسات الإسرائيليّة في ما يتعلّق بالصراع العربي الصهيوني، فقد ظلّ الميل الذاتي للاقتناع بأن السياسة الأميركية ستتغيّر لـ«مصلحتنا»، هو المهيمن. لهذا، كان يُلتقَط كل لحظة موقف ما، أو يهوّل من ميل ما، للعودة إلى القول إن السياسة الأميركية تتغير، وإنها باتت تريد إنهاء «النزاع الفلسطيني الإسرائيلي»، وهي جادة في ذلك، لأن مصالحها باتت تفرض عليها التخلص من عبء هذا الصراع الذي بات يهدد مصالحها، أو الذي بات يعيق إقامة تحالف ضد إيران، «العدو الرئيسي» لها.
لهذا شاع في الفترة الأخيرة هذا التحليل، وعاد القول بسياسة أميركية جديدة سوف تحقق حل «الدولتين». وكان «تصريح» لجو بايدن خلال زيارته، ثم لدايفيد بترايوس قائد القيادة الأميركية الوسطى أمام لجنة في الكونغرس، يقول: «إنكم تعرّضون أرواح جنودنا في المنطقة للخطر»، هو المدخل لكل هذه العودة إلى المراهنة على أميركا. وهذا ما بدأ يردده عدد من الكتاب وكأنه أمر حتمي. والمفجع هنا هو أن هؤلاء لم يروا في احتلال العراق وكل التدمير الذي أحدثه فيه سبباً لـ«الخطر على أرواح الجنود»، وكأن إنهاء «النزاع» هنا سيوقف الصراع في العراق، ويحوّل الجنود هناك إلى «قوة حفظ سلام». وأيضاً كأن الموقف من أميركا نابع من «دعمها المستمر لإسرائيل» لا من مجمل سياساتها الإمبريالية في كل المنطقة. وكأن أميركا محرجة من النظم العربية، الأمر الذي يدفعها إلى «فرض حل» على إسرائيل. وبالتالي كأن الدولة الصهيونية هي «حليف مزعج» بات من الضروري ضبطه إرضاءً للعرب.
باتت الرأسمالية الحاكمة في الدولة الصهيونية جزءاً من مجمل الطبقة الرأسمالية الأميركية

إن كل المحطات التي تُظهر تبايناً بين الدولة الصهيونية وأميركا هي المحطات التي تشعل «الحلم» برضى أميركي ينعكس على «إنصاف» العرب. وهذا ما يُظهر كم أن هذه العلاقة بين الدولة الصهيونية وأميركا (وكل البلدان الرأسمالية) ملتبسة، وغائمة. أو أن «العقل العربي» غير قادر على استيعاب نمط علاقة غير تقليدية كالتي بين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية. وكذلك كم أن الحاجة إلى «الارتباط» بالولايات المتحدة تفرض «الحلم» بإنهاء «الإزعاج» الصهيوني، حتى وإن فرض الحل قبول دولة فلسطينية دون سيادة أو حدود. لكن الولايات المتحدة لا تخشى النظم العربية لأنها نظم تابعة ومهيمن عليها، وتُفرض عليها السياسات التي تريدها. ما أقصده هو أنه ليس هذا ما يفرض على الولايات المتحدة حل «النزاع الفلسطيني الإسرائيلي»، وفي كل الأحوال لن يدخل في الحساب الأميركي. ما يدخل في الحساب الأميركي هو طبيعة العلاقة مع الدولة الصهيونية أساساً، وطبيعة الموقع الذي تضع الدولة الصهيونية فيه ضمن استراتيجيتها العامة. ولهذا، رغم كل الخلاف الذي ظهر، كان التأكيد المستمر على «الرابط الوثيق»، والرباط الحاسم معها. و«التحالف الراسخ غير القابل للفصل بين البلدين، والالتزام الأميركي الثابت والمطلق بأمن إسرائيل».
هنا، ولكي نفهم سبب «التمرد» الإسرائيلي، يجب أن نفهم بعمق طبيعة هذا الرابط. حيث إن العلاقة بينهما ليست علاقة دولة ودولة، كما مع بريطانيا مثلاً، أو ما يقوم بين مجمل الدول الرأسمالية، بل إنها أعمق من ذلك لأنها علاقة عضوية. ويعني ذلك أن حاجة الولايات المتحدة (وكل الرأسمالية) للدولة الصهيونية هي حاجة مركزية من أجل السيطرة على الوطن العربي. فهي بالنسبة لها قاعدة عسكرية محاطة بمجتمع يموّهها، ويعطيها «الشرعية». وحروبها ضد حركة التحرر كانت عبر هذه الدولة. وحتى حينما قررت الحضور العسكري المباشر على شكل قواعد عسكرية، ثم عبر احتلال العراق، كانت تكمل ما تأسس عبر الدولة الصهيونية ولم تكن تبحث عن بديل. ولهذا باتت هذه الدولة جزءاً من المنظومة الأمنية الأميركية في المنطقة (مخزن أسلحة، ومرتكز الدرع الصاروخية، إضافة إلى دورها العسكري المباشر). وفي الواقع، فإنها ترى هذا الوجود البشري الاستيطاني أساساً لتفكيك المنطقة وتكريس تجزئتها، وبالتالي تضييع صيرورة تطورها الموحدة.
وهي كذلك قاعدة وجود الشركات الاحتكارية الأميركية المستقبلي، لسوق واسعة، بتكاليف نقل قليلة وأيد عاملة رخيصة. ولهذا يجب ألا نفصل الاقتصادي عن العسكري عن الجيوسياسي، لأنها كلها ما يمثّل الاستراتيجية الأميركية في الوطن العربي.
من جهة أخرى، فإن وجود الدولة الصهيونية مرتبط ارتباطاً حاسماً بالدعم الرأسمالي، فهي نتيجة طبيعة وجودها لا تستطيع الاستقلال وتحقيق التطور الذاتي، حيث إنها بحاجة إلى معيل مستمر، لسببين: الأول، هو أن وجودها «الشاذ» يفرض الحاجة إلى استثمار عسكري ضخم، وخصوصاً أن دورها يتعلق بمواجهة كل المنطقة. وهذا ما لا يستطيعه ناتجها «الوطني». والثاني، لأنها قائمة على الاستيطان، فإن كلفة البنية التحتية هي أضخم مما يستطيعه ناتجها «الوطني». لهذا سيتّضح أن مجمل استثمارها الاقتصادي والعسكري يقتطع نسبة كبرى من هذا الناتج. وسنلمس أيضاً أن نسبة هائلة من هذا الناتج هي نتيجة المساعدات المباشرة وغير المباشرة من الولايات المتحدة (والدول الرأسمالية الأخرى). وهذا الوضع هو الذي يجعل مركز القرار بيد الإدارة الأميركية في نهاية المطاف.

لماذا «تتمرّد»؟

إن هذه الوضعية جعلت العلاقة عضوية، ولأنها عضوية أسست لتداخل مصالح رأس المال. وبالتالي باتت الرأسمالية الحاكمة في الدولة الصهيونية جزءاً من مجمل الطبقة الرأسمالية الأميركية. وهنا يصبح الخلاف والصراع هو بين شرائح للطبقة ذاتها وليس صراعاً أو خلافاً بين دولتين. لهذا يجب أن نفهم الصراع الدائر في الولايات المتحدة بين شرائح الرأسمالية هناك من أجل فهم هذا «التمرد». ولكن أساساً من أجل فهم حدود الدور الذي تقوم به الدولة الصهيونية، والذي سيبدو كدور للرأسمالية الأميركية مباشرة.
ويمكن الإشارة إلى أن المسألة في جوهرها لا تتعلق بميل شريحة لإنهاء الصراع العربي الصهيوني ورفض أخرى، بل إن الأمر يتعلق بالوتيرة التي يجب أن تسير بها الأمور. بمعنى أن العلنية الفظة التي باتت تمارسها الدولة الصهيونية في فرض الوقائع هي التي أفشلت المرونة في التعاطي مع الوضع في المنطقة، وخصوصاً أن الأزمة المالية تفرض «عدم إحراج» بلدان الخليج لضمان السيطرة على أموالهم من جهة، ولأن ترتيب المواجهة مع إيران يفترض «بعض الهدوء» على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية، من جهة أخرى. فقد كان الاستيطان مستمراً حين كانت المفاوضات مستمرة دون إرباكات. وكذلك كان ترتيب «تحالف المعتدلين» قائماً مع استمرار الاستيطان، كما كانت خطوات كسر المقاطعة العربية قائمة، حيث كانت العلاقات مع الدولة الصهيونية تتطور على مهل، ولكن باستمرار. كما أنّ أميركا لم تتراجع عن ميلها للحرب. على العكس من ذلك، فإن الأزمة المالية تفرض استمرار الحرب كشكل من أشكال إدارتها.
لهذا، يمكن القول إن التمرد الإسرائيلي هو من «فعل أميركي»، وأقصد أن تناقضاً بات ينشأ بين أوباما والاحتكارات (أو بعضها على الأقل) بسبب قانون الضمان الصحي الذي أقرّ، لكن أساساً بسبب المقترح الذي قدمه من أجل إصلاح قطاع المال الأميركي، والذي يهدف إلى فرض ضريبة مرتفعة على البنوك، وتفكيك المؤسسات المالية البالغة الضخامة. فهذا يعني الصدام مع الطغم المالية، التي هي الطغم الأقوى، والمهيمنة على مجمل الاقتصاد. وبالتالي، إنّه تمرد يستند إلى قاعدة طبقية مؤثرة، تسعى إلى «مسخ» أوباما، ربما في طريق ترحيله إذا استمر في سياساته الداخلية، التي تمس مركز رأس المال. وأوباما هو الأضعف في كل الأحوال. ولقد اتضح في السنة الأولى من ولايته أنه يستمر في سياسات جورج بوش في ما يتعلق بالوضع العالمي، فيوسع الحرب في أفغانستان، ويمدها إلى اليمن، ويحضر في أميركا اللاتينية، ويتوعد إيران. وربما كانت الأزمة المالية هي التي فرضت على الناخب الأميركي أن يصوّت له، وليس لأن الاحتكارات كانت تريده. وشهدت السنة الأولى من حكمه عملية تطويع كاملة من أجل تفشيل كل ما يخالف سياسات الاحتكارات هذه.
وفي فلسطين، لم يكن يريد سوى «ريتم» هادئ لمفاوضات لا معنى لها، تغطي على الصراع، وتفتح الأفق لإكمال ترتيب العلاقة بين النظم العربية والدولة الصهيونية، في سياق حسم «المسألة الإيرانية». فهو ملتزم بالرؤية الأميركية العامة بشأن دور الدولة الصهيونية وطابعها.
لكن ما تفعله الدولة الصهيونية يعني أنها باتت طليقة اليد في التنفيذ العلني، بالقوة، لمشروعها الهادف إكمال السيطرة على الضفة الغربية، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ذاتية لسكان يقيمون على «أرض إسرائيل». وكذلك استمرار التحضير لحرب في المنطقة، وهي حرب إسرائيلية أميركية في كل الأحوال.
* كاتب عربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى