صفحات مختارة

العرب والديموقراطية: بانتظار أعاجيب الثورة الاعلامية والتطرف الديني

سعيد بنسعيد العلوي
من بين النصوص القومية العربية القليلة التي نجد فيها للفظ الديمقراطية ذكراً (إذ هي في الغالب الأعم تختفي وتختنق خلف الخطاب المألوف في الوطن، والقومية، والأمة، واللسان، والوحدة…) تستوقفني هذه الفقرة من “مشروع الميثاق” كما قدمه جمال عبد الناصر: “إن الحرية السياسية أي الديمقراطية، ليست هي نقل واجهات دستورية شكلية… إن واجهة الديمقراطية المزيفة لم تكن تمثل إلا ديمقراطية الرجعية، والرجعية ليست على استعداد لأن تقطع صلتها بالاستعمار أو توقف تعاونها معه.. إن ذلك كله يمزق القناع عن الواجهة المزيفة ويفضح الخديعة الكبرى في ديمقراطية الرجعية ويؤكد عن يقين أنه لا معنى للديمقراطية السياسية أو الحرية في صورتها السياسية من غير الديمقراطية الاقتصادية أو الحرية في صورتها الاجتماعية”.
هذه “الديمقراطية الاجتماعية” سرعان ما تغدو في الخطاب القومي العربي بديلاً عن الديمقراطية، وإن الأمر ليغدو مقايضة بين “ورقة الانتخابات” و”رغيف الخبز”، بين “الحرية في صورتها السياسية” (= هي المقصود بديمقراطية الرجعية في الخطاب الناصري، ذاك الذي يفيد زوال الأحزاب السياسية وإدانة الحزبية ربيب الرجعية… إلخ) وبين المهام المستعجلة في الوحدة، الاشتراكية، مقاومة الرجعية. في عبارة أخرى.. الديمقراطية قضية تقبل الإرجاء دوماً ومن ثَمّ فهي تتحول – برمتها – إلى قضية ثانوية، هامشية.
أما النص الثاني فنقتبسه من مفكر قومي عربي ومن عالم تربوي نابه، شديد الوضوح في فكره، شديد الالتزام بقضيته في التربية والوحدة العربية: “حرية التعبير والتفكير التي ينبغي أن تتاح ضمن المجتمع العربي السائر في طريق الديمقراطية الصحيحة هي الحرية التي لا تتعدى الأهداف الأساسية للديمقراطية ولا تتناقض مع المبادئ الكبرى للحياة القومية (…) ما دامت الحرية الاجتماعية أصلاً وما دام الوجود العربي وجوداً قوامه وحدة أجزائه والعمل لتحقيق التضامن والوحدة بين هذه الأجزاء، فمن الطبيعي أن تكون الحرية المباحة حرية لا تناقض العمل للهدف الاجتماعي الاشتراكي وللهدف القومي العربي. ومعنى هذا بوضوح أن حدود الحرية في مجتمعنا العربي ينبغي أن تكون حدود الدعوة القومية العربية”. يضيق الفكر القومي العربي بالحرية ذرعاً، فهي الخصم اللدود للقومية العربية، وهي كذلك لأنها سند ودعامة “الديمقراطية البورجوازية” – ومفكرنا القومي العربي لا يرى فيها، في نهاية التحليل، إلا “أكبر خديعة تتعرض لها الحرية في بلداننا العربية”.
بين الديمقراطية وبين الوحدة العربية (ومقتضياتها في القومية والاشتراكية ومهامها المستعجلة في مقاومة الرجعية، والاستعمار، والاستعمار الجديد، وإرادة التجزئة، والكيانات القطرية..) تقوم تلك العلاقة التي ينعتها المناطقة بعلاقة الانتفاء المتبادل (وجود أحد الطرفين المتناقضين ينفي وجود الآخر).
لا تكون الديمقراطية، في الخطاب القومي العربي المعاصر، قضية قابلة للتأجيل، هامشية، بل إنها تغدو – بموجب منطق الأشياء – قضية تشوش على المقصد الأسنى: مقصد الوحدة العربية في تصور الأنظمة الشمولية التي تجعل من القومية والوحدة سلاحاً تشهره في وجه خصومها.
والآن، ما الممكن قوله، إجمالاً، عن خطاب الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر في خلاصات ينتهي إليها قولنا في هذا القسم الأول من حديثنا عن العرب والديمقراطية؟
1 – قطب الرحى في الحديث عن الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر هو السلطة التنفيذية المغتصبة في العالم العربي وانعدام شرعية الحكم ومشروعية الدولة فيها. من ثَمّ كان الحديث عن الاستبداد، واضحاً، مباشراً في عصر النهضة أو قل إنه كان كذلك عند مفكر مثل الكواكبي جعل منه مدار تفكيره، مثلما كانت إدانته قوية فهو الحامل لكل أسباب الضعف والفساد في القراءة الماكرة التي قام بها الطهطاوي واللاحقون عليه من الرحالين المعاصرين العرب (التخفي خلف تاريخ الغرب وثوراته لنقد ما كانوا عاجزين عن نقده في أوطانهم، أو لم يكونوا في حال إدراك واع له – في المعنى الذي ينعت فيه عبد الله العروي المفكر العربي السلفي بكونه كان شديد النقد لغيره، شديد السذاجة ثراء ذاته). ثم إن صوته خبا (تحت الرماد – لأسباب معلومة فيما نقدر – عقوداً متصلة) ليعرف ظهوراً جديداً، منذ مطلع الألفية الجديدة خاصة، ولكنه ظهور كان التوسل فيه – ثانية – بالحديث عن الاستبداد فهذا أحد المشاركين في الكتاب الجماعي الذي أشرنا إليه في التمهيد يتحدث عن “الاستبداد الحداثي العربي” والمقصود به “الحالة الاستبدادية التي تؤسس شرعيتها على المدونة السياسية (…) مفادها أن ظاهرة الاستبداد السياسي التي تطبق على العرب أنفاسهم وتحبس حرياتهم إنما تعود إلى ثقل التأثيرات التاريخية وسيطرة الثقافة السياسية التقليدية (…) أو ما يعبر عنه بالاستبداد الشرقي”. يعني ذلك أن الاستبداد لا يزال، في العالم العربي، مفهوماً إجرائياً كما يقول الإبستمولوجيون، أي مفهوماً مناسباً أفضل المناسبة للحديث عن العالم العربي. وبالتالي فإن الديمقراطية يكون الحديث بالتدليل على أكبر مضاداتها (على النحو الذي يتحدث به الفارابي عن مضادات المدينة الفاضلة في كتاب “أراء أهل المدينة الفاضلة” ولربما بكيفية أفضل في كتاب “السياسة المدنية”).
2 – يسكن الخطاب العربي المعاصر (المدون المكتوب – والمتداول في المجامع السياسية والمنتديات الفكرية وفي الكتابة الصحفية على السواء) هم آخر: التداول على السلطة في العالم إمكانه وعوائقه. ولا غرو أن التداول على السلطة التنفيذية وامتلاكها في مقابل وجود معارضة سياسية شرعية تتوافر على بديل جاهز دقيق ومفصل وإجرائي تتربص بالدوائر بالسلطة التنفيذية القائمة وتقوم بانتقادها انطلاقاً مما تعتبره برنامجاً بديلاً أكثر نجاعة وجدوى في خدمة الشأن العام – لا شك أن ذلك هو العلاقة الكبرى على الديمقراطية (وجوداً وعدماً). ثم لا شك أن المثقف العربي، وكذا المناضل السياسي محق في إقرانه الديمقراطية بالتداول على السلطة – لا شك أن لهذا الأمر سبباً سيكولوجياً قوياً ودعامة تاريخية لا سبيل إلى الاعتراض عليها: ذلك أن هنالك رد فعل قوي على معاناة وحرمان اقترنتا بالتعرض لتلقي العنف الدموي وتجريب صنوف من التعذيب والاختفاء القسري ومن التصفية الجسدية حيناً غير قليل. من الطبيعي أن يشكل التداول على السلطة مركز الدائرة في خطاب الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر.
لكن، هل تعني الديمقراطية محض التداول عن السلطة؟ أليست السلطات المضادة الأخرى (Contre pouvoirs) مثل حريات الصحافة، والعمل السياسي، والرأي، والاعتقاد، بعضاً من هذه السلطات المضادة التي تدل، وجوداً وعدماً على الديمقراطية حضوراً وغياباً؟ صحيح أن “الاستبداد” والمنع اللاشرعي العنيف من جعل السلطة التنفيذية أمراً ممكن التداول ضمن الشروط والضمانات القانونية يطال السلطات المضادة عملياً، وإن كان التشدق بوجودها مما لا يخلو منه نظام عربي ولكن جعل خطاب الديمقراطية منصباً كلية على تداول السلطة ينال من معنى الديمقراطية فلا يدرك منها سوى جانب واحد تكون قراءة الوجود برمته من خلاله.
3 – اعتبرت الديمقراطية لفظاً أو ما ورد في معناها مما يدل عليها من الألفاظ التي تنتمي إلى الحقل الدلالي الذي تنتسب إليه (التعددية السياسية، حرية الرأي، المجتمع المدني، الدين والتدين، حقوق الأقليات) إما قضية قابلة للتأجيل (ذاك هو الشأن في الخطاب القومي العربي في تياراته المختلفة)، أو إن معناها ضاق ليغدو منحصراً في الديمقراطية المركزية، أو الشعبية، (والشأن كذلك في الخطاب الماركسي العربي إجمالاً، وهو أكثر ما يكون وضوحاً إذ ينخرط في خطاب النقد اللاذع لليبرالية فهو لا يرى فيها سوى دعامة نظرية للرأسمالية البغيضة وذريعة للاستغلال الطبقي). ناهيك عن خطاب “الخصوصية”، وتهم “الحلول المستوردة” وما في هذا المعنى.
وبالجملة فإن خطاب الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر ظل يشكو دوماً من قصور النظر من جانب أول، والتفريط في المكونات الأساس لصالح مكون وحيد (وإن كان بدوره مكوناً جوهرياً) من جانب ثالث، ومن غياب ديمقراطيين فعليين من جانب ثالث. ومن الطبيعي أن ينتج عن اجتماع الأعراض الثلاثة المذكورة اضطراب في الفكر وتشوش في الرؤية ناهيك، طبعاً، عن الحضور المهيمن لما كان جوهراً وطبعاً ضداً للديمقراطية وخصماً غشوماً لها.
يمكن القول، في كلمة جامعة أو في تحصيل حاصل، إن حديث الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر يشي بحال الديمقراطية في العالم العربي ويخبر عن العلاقة التي أهله معها.
[2 ـ الديمقراطية في أفق المستقبل العربي: تساؤلات وآمال
نود، أول القول في هذا القسم، أن نبدي جملة ملاحظات ننبه بها إلى جملة أراء كاذبة تتعلق بخطاب الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر أحايين عديدة أو لنقل إنها تشكل دعامة خفية لذلك الخطاب أو مكوناً معرفياً لا شعورياً يسكنه. كما نود، بعد ذلك، أن ننبه على جملة إيجابيات نرى أنها ستقبل ضرورة إنها إصلاحات تتخذ صفة الحتمية في الوجود السياسي العربي والاجتماعي في مختلف الأنظمة ولعلنا نوفق إلى تبيين نصيب الوجوب والحتمية فيها. وفي جزء ثالث، أخير، نغامر بالتنبيه على عوامل في الوجود العربي المعاصر – السياسي والاجتماعي أيضاً – نرى أنها مما يحمل على التفاؤل الإيجابي الذي تُدعمه النظرة التاريخية ويجد سنده المنطقي في معطيات يلمسها الناظر في الواقع العيني – وإذن فالأمر، فيما نقدر، يتجاوز التفاؤل الساذج – أي ذاك الذي لا يعدو الوهم الذي يسكن الوجدان أحياناً عديدة. نحن إذن، كما تريد البلاغة العربية ذلك بين تنبيه إلى السلبيات وتنبيه على الإيجابيات.
لنقل، في لغة معاصرة، إننا نقف عند السلبيات باعتبارها عوائق تقوم في وجه المعرفة على النحو الذي يتحدث به غاستون باشلار عن العوائق الإبستيمولوجية.عوائق من أصناف شتى: سيكولوجية، معرفية، تاريخية. كما نقف عندما يدل على الإيجاب ويحمل على الاستبشار.
1 – العائق الأول الذي نريد التنبيه إليه (أو المكون المعرفي اللاشعوري الذي يسكن الفكر العربي العاصر فيشوش على الوعي ويسلمه إلى الوقوع في الخطأ والسقوط فريسة الوهم) عائق ذاتي، سيكولوجي محض. لعل العبارة الأكثر مناسبة في الحديث عن هذا العائق هي جلد الذات. ذلك أننا، إذ نقول إن للاستبداد، في فكرنا العربي المعاصر، جذوراً دينية وأننا ما نفتأ نعيد إنتاج الروابط والآليات التي تكرس وجود الاستبداد، أو نقول إن للاستبداد جذوراً كلامية وفلسفية، بل إن الاستبداد يتجلى في الشعر العربي وبالتالي فإن ثقافتنا ثقافة استبداد. فإننا نمارس عملية جلد الذات.
نحن نقوم بعملية للذات العربية متى كنا نطمئن إلى مثل هذه المطلقات والعموميات، بل نحن نفعل ذلك متى كنا نركن إلى تفسير سيكولوجي اجتماعي يرى في الطاغية المستبد شخصاً سادياً، يجد ذاتها في ممارسة السادية ويرى، بالمقابل، في الإنسان العربي المستبد به إنساناً مريضاً نفسانياً، فهو مازوخي يتلذذ بتلقي الإهانة وتلقي سوط التعذيب فيما هو يلعق حذاء الجلاد فرحاً. متى كنا نركن إلى فرضيات مماثلة وكنا نضرب عرض الحائط بالتاريخ الفعلي، لا الوهمي، ونصرف فكرنا عن السيرورة التي تحرك ذلك التاريخ ونغفل عن إدراك المنطق الذي يحكم تلك السيرورة وكنا نحكم على الكل المتشابك من خلال أحد مظاهره أو كنا نرى الجمود والدوام خلف الحركية والتحول – متى كنا نفعل ذلك فنحن نقوم بعملية تعذيب ذاتي، مرضي، يتعين فيها عرض الإنسان العيني المعاصر على المحلل النفساني لا محاكمة أجداده والهروب إلى المكونات اللاشعورية العميقة. لا شك أن شعباً ما، إذ يستكين إلى العبودية زمناً غير يسير ويكون في حال خضوع مطلق لسلطان شخص واحد فإن صفة الشعب تزول عنه، بمعنى أنه يموت ويندثر، كما يوضح ذلك جان جاك روسو. والعجيب حقاً أن نجد لهذا التفسير السادي ومازوخي لواقع العلاقة بين الإنسان العربي وحاكمه اليوم أثراً قوياً عند عالم نابه من علماء التحليل النفساني المعاصرين العرب ممن يُعتد بعلمهم ويشهد لهم بالمكانة السنية في المنتديات العلمية العالمية.
2 – العائق الثاني مصدره المعرفة الخاطئة أو توهم التوافر على معرفة في حين أنه لا شيء من ذلك. من ذلك ما يقوله البعض ممن يلتمس جذور الاستبداد في الفكر الكلامي والفلسفي العربيين إذ يرى أن لفظ الديمقراطية يغيب في تلك الكتابة كلية. والاحتجاج في ذلك يكون بأبي نصر الفارابي وكتبه في السياسة. قد تكون الكلمة غائبة لفظاً ولكن المفهوم حاضر على كل حال فليس الحكم الديمقراطي شيئاً آخر سوى ما يقصده صاحب “أراء أهل المدينة الفاضلة” إذ يتحدث عن “المدينة الجماعية” “المدينة الجماعية هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحراراً، يعمل كل واحد منهم ما شاء – لا يمنع هواه في شيء أصلاً”. إنها المدينة ذاتها التي يقول في وصفها في مؤلف آخر هو “كتاب السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات”: “فأما المدينة الجماعية فهي المدينة التي كل واحد من أهلها مطلق مخلَّى لنفسه يعمل ما يشاء، وأهلها متساوون، وتكون سنتهم أن لا فضل لإنسان في شيء أصلاً ويكون أهلها أحراراً يعملون ما شاؤوا ولا يكون لأحد على أحد منهم ولا من غيرهم سلطان إلا أن يعمل ما تزول به حريتهم”. وهذا النعت يتوافق كلية مع نظام الحكم الديمقراطي كما يتحدث عنه أرسطو في “السياسيات”. وهل كان أبو نصر الفارابي، إذ يتحدث عن المدينة الفاضلة ومضاداتها (والمدينة الجماعية أحد تلك المضادات) يملك أن يأتي بغير ما أتى به أرسطو، (خارجاً عن آرائه في الأول وفي الرئيس الذي يحتمل أن يكون نبياً أو ما في معناه). قد يلزم، في هذا المقام، أن نذكر – على سبيل المقارنة – أن المترجم العربي لكتاب الأخلاق النيقوماخية (إسحق بن حنين) إذ كان يجهل المسرح تصوراً ووجوداً ولا يعلم شيئاً من أمر الفرجة والمتفرج فإنه يعرب المترجم على النحو الغريب التالي “ومحب النظر إلى الأشياء يلتذ بالنظر”. ولولا خشية الابتعاد عن موضوعنا لوقفنا وقفات عند الماوردي في “تسهيل النظر وتعجيل الظفر” وفي “أدب الدنيا والدين”، وكذلك عند ابن خلدون في “المقدمة” لنرى أشياء قريبة من ذلك في لغة مختلفة وبيان مغاير.
يلزم القول أيضاً، في هذه النقطة التي تتصل بالمعرفة الخاطئة (أو توهم التوافر على معرفة صحيحة في حين أنه لا شيء من ذلك) أن الديمقراطية، في التصور اليوناني لها عند كل من أفلاطون وأرسطو، هي أكثر ما تكون بعداً عن التصور الليبرالي لها، ذلك الذي ترسي الفلسفة السياسية الحديثة أسسه وتقرر قواعده. منطق جلد الذات، في موضوعنا هذا، يبيح لصاحبه أن يكون شديد التساهل مع، شديد القسوة على الذات: أما الفكر الليبرالي فيجد جذوره في الفلسفة السياسية اليونانية، على النحو الذي يكون فيه اليونان آباء الفلسفة الغربية وجذوراً لها. وأما الفكر العربي المعاصر فجذوره تضرب بالاستبداد بعيداً في التراث العربي الإسلامي. من المعلوم أنه ليس أدل على الخطأ والضلال من هذا الاعتقاد، ذلك أن بين الفكر السياسي الليبرالي (على النحو الذي يتشكل به في القرنين 17 و18) وبين التصور السياسي اليوناني قطيعة تامة وهوة سحيقة.
تتصل المعرفة الخاطئة بالعائق السيكولوجي، وفي الارتباط الذي يقوم بينهما يجد خطاب جلد الذات سنداً وعزاءً معاً.
3 – العائق الثالث يتصل بالعائقين المتقدم ذكرهما، ونحسب أن النعت المناسب في الحديث عنه هو نعت عقدة الشعور بالنقص الناتج عن الثقة الكاملة في الخطاب الاستعلائي أو التحقيري الصادر عن جهات عدة من الغرب الأوروبي، قد يكون ظاهر قولها الاختلاف والمغايرة في الرأي بين دعاتها، ولكن طبيعة النتيجة الواحدة التي يكون الانتهاء إليها تشي بغير ذلك تماماً. تقول نظرية العرق الصافي أو الأجناس المختلفة بوجود اختلاف بين العقلية السامية والعقلية الحامية، القول بهذا التمييز هو ما حمل إرنست رونان على إشاعة ما نعلمه من قول في قصور الثقافة العربية وتأخرها عن الثقافة الغربية، وفي عجز العقل العربي عن اللحاق بالنظر الأوروبي. كان كارل ماركس ينظر في الأنماط المختلفة للإنتاج المادي فوجد أن هنالك نمطاً هو نمط الإنتاج العبودي، ونمط الإنتاج الفيودالي، ونمط الإنتاج الرأسمالي، وإذ نظر في العلاقات المادية في دول الشرق الأقصى، وبعض من دول الشرق الأدنى رأى أن الأمر يستوجب صياغة مفهوم مؤقت هو مفهوم نمط الإقطاع الشرقي (despotisme Orientale) – يكون الرجوع إليه قصد استبداله بمفهوم آخر يكون أكثر دقة وعلمية في التعبير عن روابط إنتاج تغاير المألوف في المجتمعات الغربية من وجوه عديدة – ولكن الأمر سقط تحت طائلة المؤقت المستمر الذي يغدو قولاً فصلاً ونظراً نهائياً. وكل الأدبيات الماركسية سارت في هذا الاتجاه. أما الأدبيات الكولونيالية فقد كان مبدأ الثنائية شرق/ غرب، عرب/ غرب قاعدة مقررة عندها وعقيدة راسخة. وكثيرة هي جمهرة الدارسين العرب الذين قاموا باستعادة مقتضيات النظرة الاستعلائية، التحقيرية، وتقبلها قبولاً حسناً يجد سنده العاطفي بما وقر في النفس من شعور بالدونية والنقص كانت التوابل الضرورية والنار المطلوبة لإنضاج الطبق الذي اقتات العربي منه زمناً غير يسير.
4 – يجوز الكلام أخيراً عن عائق يقوم في وجه الإدراك الإيجابي للديمقراطية ومعناها، من حيث إنها جهاد طويل متصل، لا تدرك الأمور فيه دفعة واحدة، ولا يحدث التحول نتيجة ثورة فورية أو خروج في الشارع، ولا يكون – بطبيعة الأمر – عن انقلاب مفاجئ على النحو الذي يتوهمه الخطاب القومي العربي مثلاً. وعلامة هذا الوهم الأخير هو الرأي الذي يقضي بأن الإصلاح السياسي إما أن يكون إصلاحاً فورياً شاملاً أو لا يكون، إما أن يكون الإطاحة المفاجئة بنظام سياسي (هو الملكية غالباً) وإحلال آخر مكانه (هو النظام الجمهوري – أياً كان شكله) أو لا يكون. إنه منطق الكل أو لا شيء، منطق يؤول كل شيء بموجبه إلى المؤسسة السياسية وحدها في حال أشبه ما يكون بالإدراك السحري.
في خمسينات وستينات القرن الماضي انتشر اعتقاد مفاده أن الخير كل الخير يكمن في الجمهوريات، وأن الشر كل الشر يسكن جوف الملكيات أياً كانت فلا يخرج عن هذه القاعدة إلا شذوذ يشفع له ما قد تكون الملكية في بلد عربي ما، في فترة قصيرة، استطاعت أن تقدمها من براهين على شرعيتها ووطنيتها قبل أن يشملها الحكم العام السابق، أو قبل أن تسقط في براثن تناقضاتها الذاتية. هذا التعميم يبدو اليوم قولاً ساذجاً، مرسلاً على عواهنه، بل قد يحمل على الخجل في زمن تحولت فيه الكثير من الأنظمة الجمهورية في الوطن العربي إلى ملكيات مقنعة تفتقر إلى الشرعية وتشكو من ضعف الاستقرار. واقع الحال يكشف عن وهم تَمّ اكتشافه بكيفية متأخرة وليس يقل تمكناً في العقول من وهم آخر يقضي بأن الثورة تكون أشبه ما تكون بالمكنسة الهائلة (متى استخدمنا عبارة هيجل في حديثه عن الثورة الفرنسية)، وهم يرى أن باحثاً تونسياً يوفق في تصويره إذ يتحدث في عبارة واضحة مباشرة عن “شيوع قناعة بين القطاع الأوسع من المثقفين والحركيين السياسيين العرب مفادها أن ظاهرة الاستبداد السياسي التي تطبق على العرب أنفاسهم (…) تعود إلى ثقل التأثيرات التاريخية وسيطرة الثقافة السياسية التقليدية المنحدرة من المواريث الشرقية أو ما يعبر عنه عادة بالاستبداد الشرقي، ومن ثَمّ يكفي الانتقال من العالم التقليدي بهياكله ومؤسساته ووجوه شرعيته السياسية حتى يتم ولوج باب الحداثة السياسية وإحلال الديمقراطية” تماماً كما يجد المستيقظ من نوم مضطرب تملأ الأحلام القبيحة ساحته فيدرك أن الظلام قد ولّى. لذلك كان حديثي، أعلاه، عن حالة أشبه ما تكون بالإدراك السحري.
النقلة المفاجئة الكيفية، الشاملة والمريحة، وهم بطبيعة الأمر والديمقراطية حروب ومعارك متصلة كلما كسب المرء إحداها كان في حاجة إلى أن يكسبها مرة أخرى كما يقول رجال الاستراتيجية العسكرية.
بعد هذه التنبيهات إلى الآراء الكاذبة التي تعلق بالديمقراطية تصوراً (أو من العوائق التي تظل تزاحم خطاب الديمقراطية في الخطاب العربي المعاصر، في ترجمة لما يقطن الوعي ويلازمه) ننتقل الآن إلى الحديث عما نعتقد أنه إيجابيات، بمعنى إصلاحات ستقبل ضرورة، بل وربما حتماً في الوجود السياسي العربي لتكون جسراً وتمهيداً، لانتقال ديمقراطي ممكن. قد تبدو الفكرة غريبة، في نظر البعض تنم عن سذاجة في نظر الكثيرين، وقد يشهر البعض الآخر في وجهنا إحصائيات ومعطيات تحمل على تسفيه الفكرة وتكذيبها، بيد أنا نقول إن الساحة العربية تشهد حركية بطيئة آناً وغلياناً آناً آخر بفعل عوامل وأسباب سنشير بدورنا إلى أهمها في فقرة لاحقة.
تشكو البلدان العربية (مع اختلاف أنظمتها السياسية، وتباين الدخل القومي للفرد فيها، ومع التمايز النسبي في بنياتها الاجتماعية) من الفساد (في مجالات التسيير الإداري، والتسيير المالي، والجهاز القضائي) وهو ما يعبر عنه أيضاً بالحكامة السيئة. وتشكو البلدان العربية من ضعف المنظومة التعليمية وقصورها بل وفسادها أيضاً. كما تشكو تلك البلدان، على نحو متفاوت حيناً وشديد التفاوت أحياناً، من الارتفاع الهائل في نسبة الأمية بين ساكنة الوطن العربي (ما يربو على العشرين في المائة من مجموع تلك الساكنة، إذا ما نظرنا إلى العالم العربي في مجموعه). هذه الأدواء الثلاثة (الفساد أو الحكامة السيئة، المنظومة التعليمية السيئة، نسبة الأمية الخطيرة) بلغت درجة من الشدة أصبحت الإساءة تصيب بها النظم السياسية في عمقها، خارجاً عن وجود أو انعدام الميول الديمقراطية عند المالكين لزمام السلطة السياسية العليا فيها. لنقل، في عبارة أخرى، إن الفساد في تجلياته الثلاثة المذكورة لم يعد قضية أخلاقية، ولا مسألة عدالة اجتماعية، كما أنه لم يعد في إمكان الحاكم التغافل عن هذه الأدواء الثلاثة للكلفة المالية، والسياسية العالية، بل والمتصلة الارتفاع في متوالية هندسية. للفساد (الإداري والمالي والقضائي) مظاهر جلية نذكر منها تفشي الرشوة (دفعاً وتلقياً – الراشي/ المرتشي)، والمحسوبية، والذهنية المهيمنة على التسيير في المجالات المذكورة. غير أن للفساد، فضلاً عن ذلك، أسباباً تقنية موضوعية. ذلك أن مختلف المساطير الإدارية، والقضائية، والمالية أصبحت عاجزة، فهي تتهدد المجالات المذكورة بالشلل التام، ومن ثَمّ فهي تدعو إلى الإصلاح. هل في الإمكان إصلاح النظم والمؤسسات دون إصلاح القائمين على شؤونها؟ هل يمكن ذلك دون تغيير الذهنية المهيمنة؟ سؤالان وجيهان ولا شك في ذلك، بيد أننا نكتفي بمقابلتهما بسؤالين آخرين: أليس من الجائز القول إن الفساد قد سار بالأمور إلى درجة من الإنضاج سيكون عنها انفجار شامل؟ أليس من شأن الإصلاحات التقنية في النظم المالية والإدارية والقضائية يخلق ديناميكية جديدة؟ قد يلزم أن ندفع بالصراحة في القول خطوة أخرى إلى الأمام فنتساءل: ما الشأن في الضغوط المتصلة التي تمارسها مراكز النفوذ العالمي المالي (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) من أجل القيام بإصلاحات تقنية على الأقل يكون من شأنها أن تضيق من دائرة الفساد؟
إذا كنا نرى في إصلاح المنظومة التعليمية في العالم العربي (بالنظر إلى الكلفة الباهظة الثمن للمنظومة الحالية في مقابل مردوديتها السيئة) حتمية تبررها ضرورات شتى، وكنا نرى في محاربة الفساد أو الحكامة السيئة ضرورات لا تتعلق بالميول الديمقراطية عند الحاكم ولا تتصل باستجابته لمطالب مشروعة في العدالة الاجتماعية، الرأي نفسه في محاربة الأمية – إذا كنا نرى ذلك فإن الأمر سينتهي إلى حال الحتمية وإن عوامل أخرى، بجانبها، تعد عندنا من الأمور التي تحمل على التفاؤل الإيجابي، أي ذاك الذي لا تعوزه الأسس المنطقية والمبررات المعقولة. عوامل عديدة، من أصناف شتى ولكنها تقبل الانتظام في عناصر كبرى ثلاثة.
1 – العنصر الأول يكمن في الثورة الإعلامية الشمولية التي ما يفتأ العالم يشهدها، والثورة هذه تشمل المحطات التلفزية، والفضائيات الدولية الكبرى، فضلاً عن الإنترنيت والتلفون النقال مما يجعل تناقل الأخبار بالصور والمشاهدات اليومية سهلة، فورية، وللرخص المتنافي في الأجهزة ووسائل الاستقبال المختلفة، وللانتشار الجبار لشبكة الإنترنيت والتطور المتصل في التقنيات المتصلة، لهذه كلها فضل تمكين الطبقات الأكثر شعبية في العالم العربي من استحضار العالم الفسيح في الشاشة الصغيرة، والعالم الضمني الأبعد مدى. قبل سنوات نشرت مجلة “المستقبل العربي” (مركز دراسات الوحدة العربية) ترجمة لبحث طريف للباحث الأميركي ديل إيكلمان في موضوع التعليم العالي الجماهيري في الوطن العربي – وأذكر من الطرائف الواردة فيه قوله إن الذي اخترع الفاكس والإنترنيت والهاتف النقال أحال “البصاصين” على التقاعد، بل وربما أدخلهم إلى المتحف لتعزيز الذاكرة الثقافية للشعوب.
في العالم العربي، كما هو الشأن في العديد من دول العالم، تفعل الثورة الإعلامية الشمولية فعلها العجيب ليس في تسريع تلقي الأخبار والمعارف وتداولها فحسب بل، أبعد من ذلك غوراً، في إحداث خلخلة في نمط الإدراك وصناعة الوعي.
2 – العنصر الثاني يتصل بحركية المجتمع المدني في بلدان عربية نذكر منها لبنان وفلسطين، اليمن، الأردن، مصر، دول الخليج العربي، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا. وفي بلاد عربية أخرى جهود أقل بروزاً وقدرة ضعيفة على الفعل ولكن ناراً تثوى خلف، بل لعلها تنذر بنقلة كيفية قد تكون مفاجئة. وفي الحالين معاً فإن هنالك علاقة أكيدة بين المجتمع المدني في الوطن العربي وبين آفاق تحول ممكن على درب الديمقراطية وآفاقها.
3 – أما العنصر الثالث والأخير فيكمن في الدينامية التي تخلفها في الوجود السياسي العربي، دون إرادة منها، حركات التطرف الديني. أيّاً كانت القراءة التي نقوم بها لواقع تلك الحركات (أسباب نشأتها، قدرتها على التغلغل في أوساط فئات شتى من مكونات المجتمع العربي، استقطابها لأشكال عديدة من الاحتجاج السياسي والرفض الاجتماعي…) فإن ظهورها يحدث في تفاعل مع اضطراب الحياة السياسية السليمة، وتعثر في مسيرة الديمقراطية في أحسن الأحوال وأقلها، وتعبير عن غياب الديمقراطية. ومن حيث هي كذلك فإنها تقوم بعمل التنبيه إلى الأزمة والتعبير عنها فما كانت لتكون لها حظوظ قوية في الميلاد والنمو في ظل حياة سليمة – ولذلك فنحن لا نرى غرابة في تبين أن حركات الاحتجاج السياسي (في الأغلب الأعم من الأحوال) نشأت في جوف الأنظمة الشمولية العربية. (إعدام الشيخ سيد قطب توقيع لعقد ميلاد الاحتجاج السياسي – السيكولوجي العنيف باسم الدين الإسلامي). وإذ تقوم بعمل التنبيه فهو يدق ناقوس الخطر، خطر الفراغ السياسي وانعدام الحياة الديمقراطية السليمة.
يمكن القول، متى استوعبنا المنطق الذي يحكم القضية السابقة، إن حركات الإسلام السياسي تقوم بعمل تحريك الماء الآسن في بركة الوجود السياسي العربي وتحمل إلى الالتجاء من الرعب المطلق أو الفوضى العارمة في كنف حياة سياسية سليمة. كذلك يكون في إمكان أشد خصوم الديمقراطية شراسة أن يدل على الديمقراطية ويرص الحجارة التي تدل عليها.
هي ملاحظات وتنبيهات، ولكنها في الوقت ذاته، انتظارات وآمال. غني عن البيان أن الشرط الضروري والكافي في إمكانها ثم تحققها هو التوافر على الإرادة الحق وكما يقول إيليا حريق “الديمقراطية دعوة، والدعوة مسألة التزام بقيم وسلوك معين، وهي طريقة في الحكم مرغوب في ذاتها، بغض النظر عن أصلها وفصلها: تطلب لذاتها أو ترفض لذاتها”(1). لا نملك إلا أن نقرر قاعدة مقررة وأن نحصل حاصلاً كما يقول المناطقة، غير أنه لابد من قوله إعلاناً وشهادة على وجود: لا ديمقراطية دون ديمقراطيين.
[ مقتطف من بحث قدم الى مؤتمر “العروبة في القرن الواحد والعشرين” الذي نظمه “تيار المستقبل” في بيروت (25 28 شباط 2009)
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى