صفحات مختارةمحمد ديبو

عن حرية التفكير في الله ..رحلة البحث عنه : من السؤال إلى اللا سؤال

محمد ديبو
إلى أبو الهرطقات : جورج طرابيشي
بداية, كلما فكرت في الكتابة عن الله تحضرني حادثة حصلت معي منذ عشر سنوات وربما أكثر, إذ بينما كنت أدرّس ابنة أختي الصغيرة مادة “التربية الإسلامية الدينية” المقررة في المدرسة رفعت رأسها وسألتني سؤالا مازال يربكني حتى اللحظة, مفاده : خالو أليس الله من خلق الديانة ؟
– نعم
– لماذا إذن يكتب على كتاب الديانة من تأليف” دار البعث”؟؟!!
لا أعرف ما أجبتها به يومها, ولكن ما أعرفه أن الحادثة بقيت تحكم وتعيد تفكيري بالله كمفهوم, باحثا عن كيفية احتلاله لكافة منظومتنا العقلية دون تفكير أو تمحيص أو خيار إرادي , مفهوم احتل وعينا بفعل القوة التي يفرضها حضوره اليومي في الثقافة التي نعيش في خضمها.
ابنة أختي اليوم لم تعد تسأل أية أسئلة لها علاقة بهكذا أمر بعد أن كبرت, وكلما حاولت تذكيرها بالأمر تنظر إليه من باب دعابات الطفولة وتخيلاتها, دون قدرة ولو لثانية واحدة على التفكير في الأمر كحقيقة يمكن الانطلاق منها نحو مناقشة كيفية استيطان” مفهوم الله ” لعقولنا عبر عملية غسل دماغ طويلة ومبرمجة دون أن يكون لنا يد فيها, ودون قدرة على مقاومة قوة تأثيرها.
سؤال ابنة أختي يرافقه أسئلة أخرى كنت أسألها في طفولتي لكل شخص يبدي اهتماما بي وبأسئلتي الطفولية, أسئلة ربما سألها كل طفل لأهله وما يزال يسألها أطفال اليوم,ومنها : من خلق الله؟ وكيف خلق؟ ولماذا يريد حرقنا بالنار وتعذيبنا ؟ وإذا كان الله خلق أدم وحواء فقط , ثم تزوج أدم وحواء وأنجبوا أولادا هم أخوة ؟ كيف تزوج هؤلاء الأخوة والزواج بين الأخوة محرم دينا وشرعا ؟ هل نحن كلنا في النهاية أبناء زنا محارم ؟؟
الملفت هنا ليس الأسئلة بحد ذاتها, بل اختفاء هذه الأسئلة وضمورها بعد الكبر والدخول في مرحلة الوعي , الأمر الذي يعكس تناقضا عجيبا, إذ يفترض أن تزداد هذه الأسئلة ويزداد التفكير فيها بعد وعي الانسان وبلوغه الإدراك والوعي الذي يسمح له بمقاربة هذه الأسئلة بعيدا عن براءة الطفولة, ولكن الذي يحصل يجعلنا نفكر بأنفسنا وكأننا نرتد بوعينا إلى الوراء, تختفي تلك الأسئلة من حياتنا, ولا نعود نسألها إلا ضمن نطاق ضيق وضمن دائرة معرفية نثق بها جدا, الأمر الذي يجعلنا نتساءل من يدجن أسئلة الطفل فينا ويخنقها ؟ لماذا نضعف أمام مناقشة الله كفكرة؟ ولم يرتد وعينا ويصبح يعمل بمفعول عكسي عند مقاربة الله إلى درجة تجعل أي سؤال يشكك بماهيته وبوجوده تجديف وجنون في حين أن عدم التفكير به وبوجوده بطريقة نقدية حتى من وجهة نظر دينية هو الجنون والكفر بذاته !!
ربما هذه الرحلة من السؤال عنه في الطفولة إلى اللا سؤال عنه في الكبر, تعكس الوعي المأزوم بالله وطريقة علاقتنا به القائمة على الخوف والخنوع والذل أكثر مما هي قائمة على المعرفة والوضوح والوعي به, فما الذي يحصل خلال هذه الرحلة؟
يولد الطفل ويجد نفسه محاط بعالم يحيل كل ما فيه إلى الله, كل سؤال يرده الأهل إلى مفهوم غيبي اسمه الله, كائن موجود في السماء يرانا ولا نراه , يحبنا ويراقبنا ويحاسبنا على أي فعل, ولأن الطفل يمتلك دماغا أبيضا صافيا لم يلوث بعد بخرافات الأهل والمحيط , عقل مازال على فطرته الحقيقية فطرة السؤال والشك والبحث والتنقيب فإنه يسأل أسئلته الأولى الطبيعية ويلح عليها بحثا عن إجابة, ولكن اصطدام أسئلته بحائط الوعي المزيف وعدم حصوله على أجوبة شافية ستجعله ينكفئ ويخبأ أسئلته بانتظار أن يكبر, خاصة أن أغلب الأجوبة ستكون بمثابة مسكن كي يرتاح الأهل من أسئلة غير قادرين على البحث والخوض فيها, أسئلة  لم يفكروا في البحث عن أجوبة لها مذ غادروا طفولتهم.
هكذا تختبئ أسئلة الطفل الذي يكبر في وسط يتربى به على الخوف من “الدخيلو ” (كلمة عامية تقال لله أو كل ما هو مقدس)  لينشأ الخوف الأول من رقيب يزرع في داخلنا يجعل الله مكونا داخليا من مكونات حياتنا دون أن نراه أو نؤمن به حتى.. هذا ما يسميه المؤمنون فطرة الله الموجودة الحياة , وما يسميه الملحدون إكراهات المحيط التي تجبر المرء على اللحاق بسرب القطيع عبر التدجين المستمر من آلاف الأعوام.
يلتحق الطفل بعدها بالمدرسة التي تعلمه أن الله هو الله, هكذا دون مقدمات, كائن متعالي, جالس فوق, دون أن نعرف عن أي فوق يتحدثون, فوق السماء أم فوق الغيوم!!
نتعلم في المدرسة أن الانسان لا يسأل عن الله بل يعبده ويسجد له ويخافه لأن “الما بيخاف الله خاف منو “, هكذا يصبح الله مقياس لمدى تقييمنا للبشر وحكمنا عليهم, وهنا يرتبط بوعينا منذ الطفولة أن كل من يرفض فكرة الله كائن يستدعي الشك ويمكنه أن يفعل أي شيء, مما يجعل الريب الداخلي المزروع في داخلنا يزاد رقابة وصرامة في التعامل مع الأمر بحزم, خاصة أن المنهاج المدرسي المتعلق بمادة التربية الدينية هو منهاج قائم على التلقين والحفظ الذي يبث في نفوس الأطفال الرعب من الله أكثر مما يعلمهم حبه والتعامل معه كصديق أبدي في رحلة الحياة, فكل معلم يعجز على فهم شيء يسأله إياها طلابه يحيله إلى الله والقدر, وكل معلمة تعلم طلابها القيم لأنه الله يريد ذلك , وليس لأن القيم بحد ذاتها هي قيم نحتاجها في حياتنا اليومية سواء كنا مؤمنين بالله أم غير مؤمنين.
ولدى سؤال الطفل أي سؤال من الأسئلة الكبرى المذكورة أعلاه ستكون الإجابة عليه بأن هذه الأسئلة لا تسأل وأنه لا يمكن لنا أن نسأل الخالق من خلقه؟لماذا ؟ لأن الخالق خالق والمخلوق مخلوق ! ومن أين للمخلوق أن يسأل خالقه؟
أما إذا تمادى الطفل وسأل : ما الدليل على أن الله خلقنا ؟ فأنا خلقت من فرج أمي والأدلة على ذلك واضحة وأراها رؤي العين أكثر من رؤيتي لخلق الله لي؟
هنا تستنفر المدرسة والجهاز التعليمي وتحمر عيون الطلبة, وتصبح لهجة المدرسين أكثر حزما, مما يعني أنك دخلت دائرة لا يمكن لك أن تدخلها..
هنا يفهم الطفل وكل طفل أن هذا الشيء محرم وغير محبب سؤاله دون أن يفهم ذلك, فيضطر إلى الخجل والانزواء مخبئا أسئلته لزمن آخر أغلب الظن أنه لن يجيء بعد هذه اللحظة.
أي تعمل المدرسة كنظام على الإجهاز على ما فلت من نظام الأسرة, فتخدره وتعيده إلى دائرة القطيع.
هذه اللحظة كما أرى , لحظة مفارقة في حياة كل إنسان في علاقته مع الله, إذ تنكسر هنا ثقة الطفل بنفسه وبأسئلته الحقيقية التي تشكل جوهر الانسان الحقيقي وبأهم مؤسستين(الأسرة والمدرسة) خلقتا لتعليمه السؤال والحرية, فعلمتاه اللاسؤال والتحريم والخنوع و الرقابة على الذات وأسئلتها قبل أي شيء آخر.
بعد هذه اللحظة سيكون الطفل قد تعلم درسه وعرف ما لا يمكن السؤال عنه, وهكذا تستمر علاقته مع الله قائمة على التعالي المطلق , هو في السماء والإنسان في الأرض, (دون أن نعرف من قرر أن الله يسكن السماء أصلا ؟) الله هو الله, دون معرفة من هو ؟ وماذا يشكل؟ أي يستمر الله كفكرة بقوة الخوف والجهل,وفق مبدأ أن الانسان عدو ما يجهل, أكثر مما هو حقيقة نتلمسها ونخضعها لمقتضيات التفكير العقلاني.

يستمر الله في حياتنا كفكرة نتوارثها كما نتوارث المتاع والطائفة والدين الذي نولد عليه أكثر مما يستمر كوجود حقيقي.
يوميا نردد : “الحمد لله” ردا على سؤال الآخرين : كيف حالك؟
أو “بإذن الله, و إذا راد الله, و إن شاء الله” وغيرها من التعابير التي نرددها في حياتنا اليومية وتحيل إلى كائن متعالي مفارق اسمه الله.

هل قولنا  هذه المفرادت وتكرارنا إياها ناتج عن إيمان بالله دون شعور منا, أم هو مجرد استمرار لثقافة تفرض نفسها وتخنق خياراتنا وتشكلنا كما تشاء !!
موقع ألف الالكتروني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى