برهان غليونصفحات العالم

أوباما أمام الضغط الإسرائيلي…هل يتراجع؟

د. برهان غليون
يتردد المحللون في تقديراتهم لحدود الأزمة التي تعصف اليوم بالعلاقات التاريخية بين إسرائيل والولايات المتحدة، بين نظرتين: نظرة متشائمة لا ترى فيها سوى خلاف عرضي بين حليفين استراتيجيين، ونظرة متفائلة تنظر إليها بوصفها بداية مواجهة أميركية إسرائيلية قد تقود إلى انقلاب واشنطن على حليفتها أو على الأقل إكراه تل أبيب على الاصطفاف وراء استراتيجيتها بدل أن تورطها هذه في مواجهة جديدة.
تدعم النظرة الأولى حجج كثيرة، ربما كان أهمها التجربة الماضية، التي تثبت أن إسرائيل غالباً ما نجحت في جر واشنطن وراء خياراتها في الشرق الأوسط. ومنها أيضاً تراجع أوباما عن موقفه أكثر من مرة، وتنازله عن مطالبته بالتجميد الكامل للاستيطان كشرط لبدء مفاوضات سلام جديدة. ومنها كذلك تراجع بترايوس عن تصريحاته السابقة. ومنها أخيراً ما يظهره الكونجرس بشكل دائم، تحت ضغط اللوبي الإسرائيلي من التزام متجدد بإسرائيل ومصالحها، أياً كانت سياستها أو خياراتها الاستراتيجية.
ولا تقل الحجج التي تستند إليها النظرة المتفائلة قوة عن حجج المتشائمين. فمن الصعب أن يتصور المرء أن دولة صغيرة مثل إسرائيل تستطيع بالفعل فرض إرادتها على القوة العظمى العالمية الأولى، إذا لم تكن أهداف هذه الأخيرة متطابقة مع أهداف الأولى. وهذا ما يبرهن عليه نجاح بوش الأب ورئيس دبلوماسيته بيكر، في إجبار إسرائيل على وقف الاستيطان بالفعل عام 1991 عندما أعلن عن تجميد 10 مليارات دولار من المعونات المالية المقدمة لدعم الاستيطان. ويعزز هذه النظرة أيضاً أن إسرائيل، رغم ما تبديه من عنجهية وغطرسة حتى تجاه الأميركيين، ليست سوى دولة صغيرة مدينة للولايات المتحدة في التهرب من الالتزامات الدولية وتجنب قرارات الإدانة الدولية، وبالمعونات المالية السخية. كما أنها مدينة لها في ميادين التعاون العلمي والتقني الذي جعلها أحد أهم الدول المصدرة للسلاح.
وفي واقع الأمر، ليست إسرائيل سيدة خياراتها تماماً، دون أن يعني ذلك أنها تابعة للسياسات الأميركية أيضاً. فالعلاقة بين الطرفين كانت ولا تزال علاقة تعاون وتضامن وتفاهم، تحظى إسرائيل فيها بهامش كبير من المبادرة تجاه واشنطن بسبب ما تحظى به من دعم سياسي لدى قسم كبير من الطبقة السياسية الأميركية ذاتها، بالإضافة إلى اللوبي الإسرائيلي القوي. وللولايات المتحدة استراتيجيتها المستقلة التي تتجاوز إسرائيل من دون شك، حتى لو أخذت مصالح تل أبيب بالحسبان أو اعتبرتها ذات أولوية. فعندما يتعلق الأمر بمصالح استراتيجية أميركية كبرى، لا يبقى هناك مجال للتبعية أو الاستثناء. كل ما في الأمر أن إسرائيل تستطيع، عندما يحصل تناقض واضح بين مصالحها ومصالح حليفها الاستراتيجي وحاميها، أن تفاوض واشنطن على خياراتها السياسية بدل أن تملى عليها.
وما يحصل الآن، بعد أن طلب أوباما إجابات إسرائيلية واضحة على أسئلة جوهرية تتعلق بعملية التسوية، وعدم رد تل أبيب، يشير إلى عمق الخلاف القائم بين خيارات أوباما الاستراتيجية في المنطقة، وخيارات اليمين الإسرائيلي الاستيطاني الحاكم. ومن الواضح أن التناقض العميق بين هذه الخيارات يصعب إمكانية الوصول إلى سياسة مشتركة تضمن مصالح الولايات المتحدة في استعادة دورها الإقليمي، ومن ورائه الدولي، وفي الوقت نفسه ما تسعى إليه تل أبيب اليوم من تهويد متسارع لمدينة القدس في سبيل تكريسها نهائيا كعاصمة لإسرائيل وحرمان الفلسطينيين من النواة الروحية والسياسية لدولتهم المرتقبة.
والواقع أن خيار التهدئة في الشرق الأوسط ليس خيار أوباما الشخصي، وإنما هو خيار استراتيجي أميركي فرضه الانهيار الكامل لخيار الحرب الذي قاده المحافظون الجدد، والذي وضع المنطقة بأكملها، بما تمثله من مصالح استراتيجية أميركية وغربية، على كف عفريت. ولا تستطيع الإدارة الأميركية أن تبني استراتيجية جديدة من دون ترميم ما حصل. وهذا هو مصدر إرادة التسوية الأميركية الراهنة في فلسطين. ثم إن الخيارات السياسية الإسرائيلية القائمة على تسريع الاستيطان وتهويد القدس وتكريس الأمر الواقع وفرض الاعتراف به على الجميع، بما فيهم الحلفاء التاريخيون… تسير في الاتجاه المعاكس تماما لخيار واشنطن الاستراتيجي الجديد. والإسرائيليون الذين انتخبوا نتنياهو وباقي حكومته، كانوا يعيشون ولا يزالون في المناخ الذي خلفه المحافظون الجدد الذين راهنوا على إطلاق العنان لأحلام الإسرائيليين في المشاركة مع واشنطن في سحق العالم العربي والسيطرة الاستعمارية عليه مجدداً.
بهذا المعنى يشكل النزاع بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو امتدادا للصراع بين المقاربتين الاستراتيجيتين الرئيسيتين اللتين حسمتا الانتخابات الرئاسية الأخيرة الأمر بينهما في الولايات المتحدة نفسها. وانتصار نتنياهو أو تمكنه من فرض رأيه وخيارات حكومته على واشنطن يعني هزيمة منكرة لسياسة أوباما ومعسكره الأميركي، بعد أقل من سنتين على تسلمه مقاليد السلطة، وإعلانه عن مشروع إعادة مصالحة الولايات المتحدة، ليس مع العالم العربي والاسلامي فحسب، وإنما مع العالم كله الذي كان قد بدأ يخشى من تهور واشنطن، ويبتعد عنها، ويسحب ثقته منها.
وبالتأكيد، يشوش وجود لوبي إسرائيلي عابر للأحزاب في واشنطن على هذه المعادلة الواضحة، لكنه لا يستطيع إخفاء مضامينها الحقيقية. وقد ينجح نتنياهو في تحدي الرئيس الأميركي وفرض إرادته عليه، لكن النتيجة ستكون انهيار صدقية أوباما، ومن ورائه صدقية الولايات المتحدة ومكانتها العالمية. وسيدفع ذلك العالم، وفي مقدمته الرأي العام العربي، إلى السخرية من الدولة الأعظم التي تسمح لنفسها أن تقاد من قبل تيارات اليمين الديني الإسرائيلي المتطرف. فخضوع أوباما وإدارته لمطالب نتنياهو المعلنة في ضم القدس، لا يعني تراجعه عن وعوده والتزاماته العربية فحسب، ولا قبوله انتهاك القرارات الدولية التي تعتبر القدس مدينة محتلة، ولا حتى رجوعه عن سياسة أسلافه فيما يخص الاستيطان اليهودي، فلا تزال الأموال الأميركية إلى اليوم هي الممول الرئيسي للاستيطان في كل المناطق… إنما سيعني أن أعظم وأقوى دولة في العالم قد قبلت بأن توجه سياستها حفنة من المتطرفين العنصرين الذين يعيشون في عقلية ما قبل التاريخ، ولا مشروع لهم سوى سلب أراضي الغير والاستيطان فيها. ولن يكون ذلك نهاية الولايات المتحدة كدولة عظمى حاملة لمسؤوليات عالمية، وإنما أكثر من ذلك، نهاية أي أمل في بناء سياسة دولية، وتقويض الأسس التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى