صفحات سوريةميشيل كيلو

في مديح الأزمات!

null
ميشيل كيلو
وقف المحاضر في كلامه عن الاقتصاد عند ما أسماه أربع أزمات تلف عالمنا اليوم، وقال: قبل أي حديث عن موضوعنا الاقتصادي المباشر، أحب لفت أنظاركم إلى هذه الأزمات، التي يعد وجودها حدثاً فريداً في التاريخ المعاصر.
تساءلت، وأنا أستمع إلى هذه الكلمات: هل سبق للعالم أن عرف مرحلة أو حقبة بلا أزمات، حتى نعتبر أزماته الراهنة حدثاً فريداً في تاريخه؟ حاولت تمرير حقب التاريخ المختلفة في ذاكرتي، علني أعثر على حقبة خلت من الأزمات، فلم أجد. بدا تاريخ العالم سلسلة مترابطة من أزمات مختلفة الأنواع والأحجام والدرجات، ما إن يتخلص من بعضها حتى يظهر غيرها، بما يتطلبه التصدي لها من سبل معالجه وحلول خاصة، مبتكرة وجديدة، وهكذا دواليك.
لست من الذين يرون في الأزمات «حالات غير طبيعية تفضي إلى تعطيل تطور أو وضع أو نسق ما، كلياً أو جزئياً». ولطالما تساءلت في سري: ترى، لو لم يكن هناك أزمات تفصح عن معوقات تعترض سير الأشياء وتبين نقاط ضعف الواقع القائم وسلبياته، هل كان للتطور أن يحدث أصلا؟ شجعني على هذا السؤال ما لاحظته دوماً من تلازم الأزمات مع كل تفصيل من تفاصيل الحياة، وكل جانب من جوانبها، وتوطنها في أي جهد بشري، فكرياً كان أم مادياً، وفي أي نظام إنساني، اجتماعياً كان أم سياسياً، وأية منظومة فكرية، ثقافية كانت أم أيديولوجية.
ما هي الأزمة؟ إنها في اعتقادي «مشكلة لم يوجد لها حل بعد». أما المشكلة التي لها حل، والتي دأبت لغتنا السياسية والإعلامية على إطلاق صفة الأزمة عليها، فليست أزمة، بل هي شيء أقل من الأزمة بكثير. إنها مجرد مشكلة. ومن يراقب «الأزمة» المالية العالمية، ويتابع كيف وبأية سرعة وجدت الحلول التي أدت إلى السيطرة على جوانبها الرئيسة، فسيجد أنها مشكلة عالمية ضاربة، لكنها ليست أزمة، فالأزمة مشكلة لم يوجد لها حل بعد، أو ليس لها أي حل على الإطلاق، مثلما كانت أزمة النظام الاشتراكي، ومثلما هي أزمة النظام العربي الراهن، على سبيل المثال.
من الضروري إذاً التفريق بين المشكلات والأزمات، وتحاشى الخلط بينها والإقرار بأنها تختلف عن بعضها بعضاً باختلاف الحاضنة العامة التي تنجبها، ودرجة نضجها الذاتي، وحدتها، وقابليتها للعلاج. إذا ما تأملنا الأزمات، لاحظنا مثلا أن بعضها يحتجز الواقع عند وضع معين ويحول دون خروجه منه، مثلما هو حال «الثورة العربية»، التي وصلت أزماتها إلى درجة من النضج والحدة جعلتها عاجزة عن تجديد شروط نموّها والخروج من مأزقها الراهن. هناك أيضاً أزمات يفشل من تصيبهم في إيجاد حلول توقف أو تحد من قدرتها على سحبهم إلى حيث لا يريدون، كأزمات بلدان وشعوب العرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية… الخ الراهنة. بالمقابل، هناك مشكلات نموّ درجنا على اعتبارها أزمات، تعبر عن مصاعب وقتية قد تكون معقدة وصعبة، يتعرض لها قوم يمر في حالة ازدهار وتقدم، فتنقله من وضع أدنى إلى وضع أعلى، كبعض مشكلات الصين اليوم. وهناك أزمات بنيوية تكون دائمة وتفعل فعلها في واقع يعجز عن تجاوزها، فيتعايش معها ويعيد إنتاج نفسه في إطارها، مثلما هي أزمة الرأسمالية وبعض أزمات الحكم في العالم النامي. ثمة، فضلا عن ذلك، مشكلات عارضة تصيب قطاعاً جزئياً، سياسياً أو اقتصادياً أو مجتمعياً، ومشكلات وأزمات لها أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، ومشكلات وأزمات موروثة وأخرى وليدة، جديدة وتقليدية ومألوفة… الخ. وللأسف، فإن عقلنا ينتمي إلى مدرسة أيديولوجية تخلط بين المشكلة والأزمة، تزعم أن لدينا مشكلات (مصاعب قابلة للحل)، بينما يغرق خصومنا في الأزمات (المشكلات التي لا حل لها). هذه المدرسة تهون من أزماتنا وتبالغ في تضخيم مشكلات غيرنا، وتتجاهل أن أزماتنا بدأت كمشكلات نماها الإهمال أو الجهل وأبقاها غير مرئية، مع أنها كانت ملموسة داخل هذا النظام أو القطاع أو النسق الاجتماعي أو السياسي أو ذاك، وهذه الممارسة أو تلك، فصار تحولها إلى أزمات حتمياً. هذه المشكلات، وهي إذاً مكوّن ينشأ في بنية، فإن لم يعالج غداً جزءاً أصيلاً منها، تكشف نقاط قوة وضعف وضع من الأوضاع أو نسق من الأنساق، وتنبه إلى ما يجب فعله للحيلولة بينها وبين احتجاز الوضع أو النسق وتعطيله، أو جعله مصدر خطر على البنية القائمة برمتها. بذلك، تمارس المشكلات ثم الأزمات وظيفة الكشف المبكر عن الأمراض اللصيقة بوضع أو حالة أو نسق، ويعد الإقرار بوجودها علامة على واقعية وعقلانية النخب، ومقياساً لدرجة نضجها أو فواتها، ولطبيعة علاقاتها مع الواقع. إذا كانت النخب لا ترى المشكلات ولا تقر بوجودها، فهذا لا يعني انتفاءها، كما تعتقد بعض النخب العربية الحاكمة، بل يعني فوات هذه النخب وتفويت فرص معالجة المشكلات في طورها الأول، طور كمونها، الذي تنمو وتتعاظم وتتفاقم بعده، قبل أن تصير أزمة تفرض تغييرات تطاول البنية القائمة بأسرها، أو أساليب التعاطي معها، أو الأفكار التي تحملها، أو أدوار البشر فيها.
ليس إقرار النخب بوجود مشكلات وأزمات أمراً معيباً. وليست المشكلات بحد ذاتها علامة على الفشل، الذي يتأكد في حالتين: إن بقيت النخب سلبية خلال تحول المشكلة إلى أزمة، وعجزت عن إيجاد وسائل تخطيها: كمشكلة ثم كأزمة. المشكلات والأزمات تحد يطرحه الواقع على نفسه وعلى النخب التي تتولى إدارته، ليزيل عقبات تحول دون تطوره ونموه. إنها وجه الواقع الآخر، الذي يشكل وحدة جدلية معه تجعل من تنافيهما، طبيعياً كان أم بإرادة البشر الواعية، طريق تقدم الإنسانية. وقد شقت البشرية طريقها دوماً عبر مشكلات وأزمات لازمتها في مختلف مراحل وجودها، حتى ليمكن القول إن تاريخها هو أيضاً تاريخ نجاحها وفشلها في التغلب على مشكلاتها وأزماتها.
في عقل أيديولوجي سائد، تعد المشكلات والأزمات ضرباً من العيب ودليلاً على الفشل. لذلك تراه ينكر وجود أية أزمات عندنا، وإن اعترف من حين لآخر بوجود مشكلات صغيرة يهون منها ويؤكد أنها تحت السيطرة، متجاهلاً العلاقة العضوية بين المشكلات والأزمات، وجاهلاً أن الثانية تنجم عن الفشل في إيقاف نمو الأولى، وإن تخطي المشكلات بالسكوت عليها هو الذي يؤدي إلى الأزمات، التي لا يمكن إخفاؤها، لأن الأزمة ليست من طبيعة خفية كالمشكلة، بل هي تنفجر كالبركان وتحدث آثاراً في حياة الناس اليومية يصعب إنكارها أو حجبها، علماً بأن الحدود بين المشكلات والأزمات تكون دوماً غائمة، لذلك لا يتمكن من يتجاهل مشكلة ما من التحكم فيها ومنع تحولها إلى أزمة، بعد حد معين من تفاقمها ونضجها. في هذا العقل، تعتبر الأزمات مشكلات صغيرة وحسب، في طور نموّها الأول، فلا داعي للخوف منها، فإن حولت إلى أزمة، حُلّت في إطار سياسي، مهما كان نوعها، وأجبر ضحاياها من الناس على دفع الثمن الذي يتطلبه حلها. وفي هذا العقل، تفتقر الأزمات إلى أي طابع إيجابي، تحفيزي، وتعد عيباً صرفاً ونقصاً خالصاً، أفضل حل له هو السكوت عنه. وبما أن العقل الأيديولوجي ينظر إلى أعماله بعين الكمال لا النقص، فإنه يرفض أن يكون منتج مشكلات أو منجب أزمات، وينكر أنه يتأثر بمفاعيلها. هنا، إذا كان ثمة من أزمات، فهي دوماً لدى الغير، الذي يتنوع بتنوع الخصومات والعداوات. أليست هذه النظرة أحد أسباب عجزنا عن مواجهة أزماتنا، مع أنها ملموسة وتحتجز فكرنا وممارساتنا وواقعنا ووجودنا ذاته؟
بإنكار وجود مشكلات، ونفي إمكانية تبلور أزمات، تتاح لخصومنا وأعدائنا قدرة غير محدودة على إدارة أزماتنا، المتنوعة والمستعصية، ويصير لهم مصلحة في منعنا من مغادرة عقلنا السائد، ومن الإقرار بوجود المشكلات والأزمات ومعالجتها. يدير العالم أزماتنا، ويستغل إحجامنا عن التصدي لها، فيوجهها ضدنا، ويفيد منها في صراعه معنا!
إذا لم نقر بأن المشكلات والأزمات تلازمنا كما لازمت وتلازم غيرنا، ولم نعمل على قراءتها بصورة صحيحة ترى فيها علامة تشير إلى نقاط ضعفنا، ترشدنا إلى سبل وأدوات التخلص منها وتنمية جوانب قوتنا، وإذا واصلنا التعايش باطمئنان مع مشكلاتنا التي غدا معظمها أزمات مستعصية، فإن أحوالنا ستزداد سوءاً على سوء، وسنفتقر افتقاراً متعاظماً إلى الأدوات والأفكار والسياسات الضرورية لتحقيق أي هدف من أهدافنا أو مصلحة من مصالحنا، وسيدير أعداؤنا صراعاتهم ضدنا بوسائل أهمها استغلال مشكلاتنا وأزماتنا، التي مكنتهم من هزيمتنا طيلة قرون.
هناك رأي تتبناه بعض النخب الحاكمة يرى أن مشكلاتنا تحل بالسكوت عليها، وأزماتنا تعالج بتجاهلها. في هذا الرأي، السائد والشائع، تكمن واحدة من أخطر أزماتنا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى