صفحات ثقافية

لاهوت التحرير ولاهوت السلطة

null

الياس خوري

بدأت الحكاية مع “الكنيسة غير المرئية”، وهو الاسم الذي اطلقه العبيد في اميركا على كنيستهم التي كانت تناضل من اجل حريتهم. “الكنيسة غير المرئية”، كانت وسيلة الاسلاف للتخلص من رقابة الرجل الأبيض على الصلاة. فلقد فرض السيد الابيض رقابة مشددة على الكنائس السوداء، خوفا من ان يستخدم العبيد لغة الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد وسيلة للتحرر، فهرب السود من كنائس الرجل الأبيض الى الغابات حيث اسسوا كنيستهم السرية.

جذور لاهوت التحرير الأسود تعود الى ذلك الزمن، لكنها تطورت لتصل في الستينات من القرن المنصرم الى المزاوجة بين مارتن لوثر كينغ ومالكوم اكس. “اخذنا المسيحية من مارتن، والهوية من مالكوم اكس”، يقول احد مؤسسي لاهوت التحرير الأسود في الولايات المتحدة جيمز كون.

ضمن هذا الاطار يجب ان نقرأ الضجة الاعلامية التي تُثار حول القس جرميا رايت، من كنيسة الثالوث المتحد في شيكاغو، والذي كان المرشد الروحي لباراك اوباما، المرشح الذي تنعقد حوله الآمال في اميركا، والذي نجح في صوغ حلم التغيير، متجاوزا الاعتبارات العرقية.

المعركة التي يبرع الاعلام الاميركي اليوم في تصويرها، هي، على عكس ما يُظنّ، اكثر عمقا من مماحكات العمليات الانتخابية وفضائحها. صحيح ان عائلة كلينتون تسعى الى الاستفادة من المسألة الى الحد الأقصى، لإزاحة هذا الخصم غير المتوقع ومنعه من سد الطريق أمام عودة العائلة الى البيت الأبيض. وصحيح ايضا ان المحافظين يستخدمون كلام القس لاخافة الاميركيين من احتمال فوز الديموقراطيين. غير ان المسألة تعود في جذورها الى “التبييض” المحافظ للتاريخ الاميركي، بحيث صارت ذاكرة الستينات التي كانت مليئة بالأمل، عبئا على اصحابها. ألم يسقط جون كاري امام بوش منذ اربع سنوات بضربة انه نزع اوسمته العسكرية عندما كان شاباً، احتجاجا على الحرب الأميركية في فيتنام؟

المصيبة، ان ما يقوله القس رايت صحيح في مجمله، لكننا لا نجرؤ على اعلان ذلك”، قال صديقي الأميركي الذي يعمل استاذا في جامعة “نيو سكول” في نيويورك. “هذا هو مأزق اوباما ومأزقنا”، قال، “وسنُضرَب في المكان الوحيد الذي يفخر به جيلنا”. كان محدّثي يروي عن تجربة احتلال الطلاب لجامعة كولومبيا في المدينة، وعن بروز تيارات اليسار المتطرف التي دفعت بجان جينيه الى كتابة مسرحيته الرائعة عن الزنوج، وعن مرحلة البحث عن قواسم مشتركة مع التيارات الراديكالية التي انتجت حركة الفهود السود.

من يستمع الى القس جرميا رايت يخال نفسه امام احد انبياء العهد القديم. لكنه نبي متلفز، لذا تبدو لغته فاقعة، وحماسته اقرب الى التهريج. اغلب الظن ان باراك اوباما لم يكن يملك سوى خيار الابتعاد عن الرجل بعد بث مقاطع من خطبه على شبكة الانترنت وفي التلفزيون.

انصار القس يقولون ان المقاطع التي بُثّت مجتزأة، وان الرجل ليس سوى استكمال للاهوت التحرير، وانه يقول الحقيقة ويعنّف شعبه، مثلما فعل موسى عندما عبد اليهود العجل الذهبي. هذا كلام صحيح، على رغم ان القس شطح قليلا وذهب الى حد اتهام اميركا بتصنيع فيروس الأيدز من اجل ابادة السود! هذا التضخيم، إن لم نقل التزوير، آتٍ من زمن العبودية المتوحش في العالم الجديد، يجيبون، وعلينا ان نفهم غضب القس، وثورته على تلميذه السابق باراك اوباما، الذي انكره قبل صياح الديك!

ما قاله القس جرميا رايت يشبه كلام حركات التحرر في العالم بأسره، وهو في قراءته العاطفية والمنفعلة لاحداث الحادي عشر من ايلول كان اقل قسوة من الفيلسوف الفرنسي ما بعد الحداثي بودريار، ومع ذلك فإن كلام القس المتداول في الكثير من كنائس السود يصير اشبه بالفضيحة حين ينتقل من الحيز الاثني الخاص الى الحيز العام. رايت يقول انه في ادانته لارهاب اميركا يشبه انبياء العهد القديم، وان موقفه ضد الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين وضد غزو العراق نابع من ايمانه والتزامه القيم التي بشّر بها يسوع الناصري.

تصل الأمور بالقس الاسود الى استبدال الشعار الشعبي الاميركي: “بارك الله اميركا”، بشعاره: “لعن الله اميركا“.

ازمة اوباما في الانتخابات الرئاسية بدأت تتشكل من خلال علاقته بالقس الذي يبشّر باللاهوت الأسود، لكنها تطاول مجمل الخطاب الليبيرالي اليساري في الولايات المتحدة، الذي يجد نفسه مضطرا الى استبدال لاهوت التحرير بلاهوت السلطة، والى التصرف كأنه غير قادر على تقويم ماضيه، والانطلاق من الخطاب القديم الذي صنعته الستينات الى خطاب جديد.

من الواضح ان القس لا يزال اسير خطاب الماضي، وان لغته القديمة واداءه المسرحي يعبّران عن حقيقة ان المسألة السوداء لا تزال ثقيلة الوطأة، لكن الضجة الاعلامية التي تحاول حرق مرشح التغيير باللاهوت قد تدفع ابن المهاجر الكيني المسلم الى الارتماء في احضان عجل السلطة الذي لا يعبد سوى نفسه.

كان اوباما مرتبكا وهو يعلن القطيعة مع القس الذي عمّد اولاده، وبدا ارتباكه اكبر حين ادّعى انه لم يسمع من القس “النبوي” كلاما شبيها بالذي تداولته وسائل الاعلام الاميركية حديثاً، مما يدفع الى التساؤل لماذا لم يعلن المرشح الذي يسحر الآن ملايين القلوب ان الخطاب القديم الذي صنع تجربة اميركا الأخرى غير المرئية، يتخذ اليوم شكلا جديدا عبر برنامج انتخابي تقدّمي يسعى الى حل المسألة الاجتماعية والى اقفال الباب الذي فتحه المحافظون على الجنون الذي قاد الى حرب العراق؟

أم أن لاهوت السلطة أقوى من كل لاهوت، وأقوى من النيات الحسنة؟

دم سمير قصير

وسط الأزمة السياسية الطاحنة، ووسط الهول الذي يهددنا به النظام السوري، ويتطوع الحلفاء المحليون لبلورته على شكل اجهزة لمراقبة المطار، او شبكة اتصالات سرية تمتد من الجنوب الى الشمال، كتب صحافي كويتي عن حكاية مزورة حول اغتيال شهيدنا سمير قصير، ما لبثت ان ترددت اصداؤها في تلفزيون “المنار“.

الحكاية قديمة، ولا تهدف الا الى تلويث الدم المراق، وتحطيم القيم التي عاش سمير قصير وجورج حاوي وقُتلا دفاعا عنها. قيم الحرية والتحرير، قيم الاستقلال والديموقراطية والنضال ضد الاحتلال الاسرائيلي. انهم يحاولون اليوم تلويث دمنا بعدما اهرقوه، وحوّلوا الوطن الصغير ملعبا للجريمة المتمادية.

الاعتداء على ذكرى سمير قصير وجورج حاوي، يشير الى عمق الكراهية والحقد والضعة التي تسيطر على عقول القتلة واتباعهم. يريدون اجتثاث الفكرة العلمانية وتحطيم الأمل الذي صنعه الفكر العربي منذ عصر النهضة.

الذين يحاولون اليوم اغتيال ذكرى سمير قصير يريدون قتل ذاكرتنا النهضوية العلمانية من الشدياق الى شبلي الشميل، ومن جبران الى طه حسين.

فوق ذلك، يريدون اعطاءنا دروسا في المقاومة. النظام السوري الذي صنع تل الزعتر مع الاسرائيليين، اسألوا بن اليعازر (فؤاد) وزير الدفاع الاسرائيلي السابق، الذي فضحه شارون بعيد مجزرة شاتيلا وصبرا، يلقي علينا عظات المقاومة. والذين طاردوا المقاومة، واطلقوا اسم فلسطين على جهاز الرعب المخابراتي، صاوا اليوم مدافعين عن الشعب الفلسطيني! اما ابطال حرب المخيمات، وقتلة قادة المقاومة الوطنية، فهم وحدهم من قاوم، وهم احرار في رهن البلاد لمن يشاؤون.

سمير قصير الذي كتب عن شقاء العرب، كان يعلم ان معركة النهضة والحرية طويلة وصعبة، لكنه يفاجأ اليوم، مثلما فوجئ لحظة اغتياله، بالكلام الأسود الذي تفبركه مصانع “الشخص” اياه، التي لم تتوقف عن العمل، حتى بعد عزل الضباط وسجنهم.

الكلام الأسود الذي تصنعه عصابات القتلة، لن يغيّر من حقيقة سمير قصير ومن موقعه في ذاكرة النهضة العربية. انه الشهيد الذي غسل دمه لبنان وارض العرب، كي يكون لنا حرية وثقافة ووطن.

ا. خ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى