ميشيل كيلو

سورية: هل يمكن استنساخ حزب البعث؟


            ميشيل كيلو

في المرة الأولي، أوائل فترة السبعينيات، نجحت السلطة السورية، التي كانت قد صححت نفسها قبل قليل، في استنساخ حزب البعث العربي الاشتراكي، عندما أقامت الجبهة الوطنية التقدمية من أحزاب تشبهه أو صارت شبيهة به مع الأيام، أقنعتها بضرورة انتهاج سياسات واحدة في القضيتين الوطنية (القومية والاجتماعية) الاقتصادية. آنذاك، عبّر العمل العام عن نفسه في حقيقتين مهمتين هما: توهم كل واحد من الأحزاب الداخلة في الجبهة بقدرته علي جر السلطة إلي نهجه وخطه وسياساته وعلاقاته العربية والدولية،

 

وإيمان قيادة التصحيح بقدرتها علي احتوائها جميعا، كل حسب أوهامه، وبأن قيادات هذه الأحزاب لا تدرك معني قيام الجبهة بالنسبة إلي استقلالها التنظيمي والأيديولوجي وآفاق العمل العام في البلد، التي كانت توضع أكثر فأكثر آنذاك تحت إشراف وتصرف النظام الأمني العتيد، الذي أكل بعد حين الأخضر واليابس، وقتل الحياة السياسية والحزبية، ومن جملتها أحزاب الجبهة البائسة، التي تعرضت لعمليات شق كثيرة، أو أعيدت صياغتها، فظهر من بين صفوفها من هم أكثر بعثية من البعث، وأكثر التحاقا بالأمن من معظم الجنرالات المنضوين فيه.

لم يتعب الرفاق كثيرا عند إجراء عملية الاستنساخ، فقد تعاملوا مع أحزاب هي هياكل بلا مضامين، يركبها إحساس طاغ بأنها بلغت من العمر أرزله، وأنه لم يعد لديها وظيفة خاصة أو مستقلة وليس لها مستقبل في النظام الشمولي، الذي كان يتوطد، فقررت الالتحاق به تحت أي ظرف وثمن، عدا حزب وحيد كان يتزعمه الراحل جمال الأتاسي، صاحب المشروع القومي والوطني، الذي ما لبث أن كشف اللعبة وغادر المسرح العبثي، الذي كانت عملية الاستنساخ تدور فوق منصته. واليوم، عندما ينظر السوريون إلي أحزاب الجبهة، فإنهم يهزون أكتافهم بعدم اكتراث ونزق، بل انهم يشعرون بالخيبة والخديعة، مع أن أمرها لا يعنيهم من قريب أو بعيد، ولماذا لا يشعرون بالخيبة، إذا كانت لم تقدم لهم أي شيء يذكر، بينما قدمت للسلطة خدمات لم يتصور أحد أنه كان بوسعها تقديمها، أهمها قاطبة تسليمها البلد وقضاياه علي طبق من تنك، مقابل مغانم وامتيازات تافهة، تمثلت في سيارة هنا وكم لوح خشب أو قضيب حديد هناك، وبعض البروظة علي التلفاز أو في الجرائد في مناسبات القدح والمدح الرسمية، وما أكثرها.

ومن يقرأ ميثاق الاستنساخ، الذي سموه ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، سيعجب لحجم الاحتقار الذاتي، الذي مارسته هذه الأحزاب علي الشعب وعلي نفسها، فقد رضيت بأقل القليل، وألزمت نفسها بكل ما أراده النظام دون أن تطلب مقابلا له غير بعض الطبطبة علي الظهر واجترار بعض الشعارات، التي بقيت دون تطبيق. ومع الأيام، زادت القلة المتناقصة، التي بقيت في هذه الأحزاب من التصاقها بالسلطة، التي انقلبت من جانبها إلي سلطة أمنية صرف، غطت الجبهة جميع تدابيرها وسياساتها، بما فيها تلك التي أثارت أشد الاعتراض بين صفوف الشعب وداخل البعث، حتي أن المواطن السوري، الذي يتأمل اليوم ما حدث، يدهش للسهولة التي تم احتواؤها بها، ولا يجد تفسيرا غير القول بعمالة أمنائها العامين للنظام والسلطة، واتفاقهم معهما علي تسليمهم أتباعهم بالجملة والمفرق.

بما أن أحزاب الجبهة عملت طيلة ثلث قرن دون قانون، فإنها كانت خارج القانون: أحزابا غير شرعية، وتاليا ممنوعة. وبما أن النظام يفكر في إعادة تصحيح نفسه في حاضنة تختلف اختلافا جذريا عن فترة السبعينيات، عندما كان يملك وعودا وخططا تعد بالمن والسلوي فيجد من يصدقه، وكان الاتحاد السوفييتي العظيم جاهزا لدعم كل من هب ودب بمجرد أن يبيعه كلمتين تقدميتين في خطبه أو وسائل إعلامه، فإنه يكثر في سورية اليوم الحديث عن قانون أحزاب، يراد به تكرار ما حققه ميثاق الجبهة عام 1972: استنساخ أحزاب تشبه البعث، يعزز انضمامها إليه مواقفه ومواقعه المتراجعة، في الداخل والخارج، انطلاقا من مبدأ السبعينيات، الذي جعل من السلطة الجهة الوحيدة التي تقرر كل شيء: الأسس التي سيتم بفضلها تأسيس الأحزاب أو الاعتراف بما هو موجود منها، والمبادئ التي يجب أن تحكم عملها وطرق اتخاذ القرار فيها، والحدود المتاحة لها في العمل العام، ونوعها وهويتها وجمهورها وأنصارها وأعضائها وتحالفاتها وعلاقاتها مع الشعب… الخ. المشكلة أن من يتطلع إلي تكرار التجربة في الشرط المختلف، عنيت السلطة، صارت هي نفسها، كما صار حزبها، في ورطة لا تعرف كيف تخرج منها، تتراكب فيها أزمات متنوعة سببتها سياساتها، من المؤكد أنها تفتقر إلي القدرة علي حلها في ظرف تحول عاصف وشرط دولي وعربي وداخلي متبدل، بينما أفلست أيديولوجيتها القومية/الاشتراكية، وتقادمت وسائلها وأساليبها في الحكم والإدارة، وتفاقمت أزمات الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة علي يديها، وتعززت الأزمة الوطنية بالعجز عن مواجهة الاحتلال سلما أو حربا، وتحولت الإدارة من مكان يعالج الأزمات إلي موقع ينتجها، في حين وصل جيش العاطلين عن العمل من الشباب وحدهم إلي حوالي المليون، وانهارت دخول الناس، واشتد التناقض بين الغني والفقر، وفسد القضاء وتراجع التعليم وتدهورت الخدمات، ودخلت البلاد في حقبة يطالب فيها الجميع ببديل، بينما تكونت أحزاب معارضة التقت في إعلان دمشق، بعد أن بلورت رؤية استراتيجية للتغيير والإصلاح يصعب التلاعب بها أو احتواؤها، تقوم علي الربط بين الديمقراطية وإعادة إنتاج مشروع نهضة عربي جديد، كان النظام قد لعب دورا خطيرا في تفكيك الأرضية التي تستطيع حمله ، وصار يجد صعوبة جدية في تبرئة نفسه من السياسات التي أودت به، حتي ليمكن القول: إن قوي المعارضة هي اليوم الجهة الوحيدة في البلاد، التي تملك بديلا سياسيا، وإن السلطة لا تملك مشروعا قابلا للتجديد، بل إنها لم تعد قادرة علي إدارة أزمتها، بدلالة ما نراه من تهافت في حياة الدولة، وتناقض بين أقوال وأفعال المسؤولين، وما تنطق به الأحداث الغامضة، التي أخذت تتكاثر في الآونة الأخيرة داخل صفوف السلطة وبين ممثليها… الخ، دون نسيان التطورات الخطيرة في الجوار، وخاصة في العراق وفلسطين، والعزلة التي تعيشها السلطة، وكانت وراء تباهي الصحافة يوم أمس بزيارة موراتينوس وزير خارجية إسبانيا إلي دمشق، التي اعترفت إنه أول وزير خارجية أجنبي يزور سورية منذ عام!.

باختصار: لا تساعد هذه الأحوال السلطة السورية علي تكرار تجربة الاستنساخ الأولي، فهي لم تعد الجهة التي يعمل البلد بدلالتها، ويمكن لرؤيتها أن تلزم غيرها، لسبب بسيط سبق ذكره هو أنه ليست لديها رؤية، وأن البلد لا يريد شيئا غير التخلص من المآزق التي أنتجتها، رغم إيمانه بأنها أشد عجزا من أن تستطيع إخراجه منها.

لكن السلطة تبدو كمن لا يدرك حقيقة وضعه، ومن يقرأ المسودة، التي نشرتها المنظمة الحزبية في مجلس الشعب ، وقيل إنه تم التخلي عنها، سيجدها خالية من أية أسس ديمقراطية للعمل العام، وأنها لا تعترف بالأحزاب كهيئات اعتبارية تقوم علي الطوعية واختيار أعضائها الحر، من الضروري إتاحة الفرصة أمامها كي تعمل في فضاء مفتوح وقانوني تضمن ندية ومساواة أطرافه جميعها، بغض النظر عن هوية المنتسبين إليها أو قوميتهم أو دينهم. بدل تحديد الأسس التي يجب أن تقوم عليها الأحزاب، وتتصل بمصالح المجتمع والدولة العليا وحقوق وحرية المواطنين أفرادا وجماعات، يركز المشروع علي هوية من يحق لهم تأسيس أحزاب، منطلقا في نظرته من التقييد لا الإباحة، والمنع والحجر وليس السماح والتسهيل، لذلك جعلت عنوان إحدي مقالاتي عنه قانون لمنع الأحزاب ، لكن السلطة قررت التخلي عنه من أجل قانون بديل، يستهدف استنساخ البعث باعتباره الوجه الآخر لمنع الأحزاب.

لن تنجح السلطة في سعيها. ولن يكون بمقدورها تمرير مشروعها. ولن يقبل أحد أية قيود توضع علي حقوق المواطنين في تأسيس الأحزاب التي يريدونها شرعية وتحت سقف القانون والمصالح الوطنية العليا للدولة والمجتمع، التي لم يعد يربطها في حالات كثيرة أي رابط مع مصالح النظام القائم.

لقد تغيرت الأزمنة، وتغير البشر، وتغيرت الأجواء، ومن لا يريد الاعتراف بحتمية التغيير ويعتقد أن بوسعه الضحك من جديد علي ذقون العباد واستنساخ حزبه ونظامه، سيندم كثيرا، لأنه سيرتكب أخطاء قاتلة في مسألة الأحزاب والحريات تضاف إلي الأخطاء القاتلة، التي دأب علي اقترافها في جميع المسائل الأخري، في الداخل والخارج.

سورية بحاجة إلي أحزاب حقيقية، لأنها تحتاج إلي بداية جديدة تختلف عن ثورة الثامن من آذار، بداية ديمقراطية لن يستطيع إرجاء قدومها في أيامنا حزب يحاول استنساخ نفسه، في زمن لم يعد زمنه !.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى