صفحات ثقافيةميشيل كيلو

عن الموقف من المثقفين

null
ميشيل كيلو
لأسباب كثيرة، اتهم المثقفون، خلال تاريخ أوروبا الحديث، بالزئبقية والتذبذب بين الطبقات الاجتماعية ومواقفها وأيديولوجياتها ومصالحها .
قال نقاد المثقفين إن هؤلاء لا يمثلون طبقة اجتماعية ثابتة ولا ينتسبون إلى أحد قطبي المجتمع الحديث: قوى رأس المال من جانب، والعمل من جانب آخر، لذلك تراهم وسطيين يتأرجحون بلا توقف بين هذين الطرفين المتصارعين، دون أن يثبتوا، في الغالب، على رأي أو موقف، أو يحددوا سمتاً واضحاً لحركتهم، فهم قريبون من العمال هنا، ومن رأس المال هناك، وهم يبتعدون عن الاثنين وينعزلون دونما سبب واضح عن الصراع الاجتماعي والفكري، أو يخوضون صراعات مزيفة مفتعلة هي بديل ما كان عليهم فعله، لو كانوا من أصحاب الانتماء الطبقي الواضح .
هذا الرأي أدى إلى نتيجتين مهمتين، فقد تعاملت الحركات العمالية مع المثقفين بالنبذ والاحتقار، ورفضت ضمهم إلى صفوفها كتكوين مجتمعي مستقل نسبيا، حتى غدا لقب المثقف شتيمة، وصارت الثقافة مذمومة، وانتشر قبول واسع لضرورة إخضاع الفكر والمعرفة (أي الثقافة) لضرورات التكتيك السياسي، ووضع المثقف تحت سلطان الكادر الحزبي، بحجة أنه ليس للثقافة هوية طبقية ثورية، وأنها تضلل العمال وتنشر أيديولوجيا ضارة في صفوفهم، تبلبلهم وتشوش عواطفهم وأفكارهم، فلا مفر من نبذها والقضاء عليها .
بنبذ المثقفين، انحطت قيمة الثقافة وانحدر دورها في حياة المجتمع وعلاقات أطرافه بعضها ببعض، وحدث تقسيم عمل محدد جعلها في جانب، والعمال بما هم قوة مجتمعية صاعدة في جانب مقابل، وهذا أدى إلى إبعاد الثقافة عن قطاعات الشعب الواسعة، ووضعها، من دون رغبة من المثقفين وضد إرادتهم غالبا، في صف من اعتبروا أعداءها من قوى برجوازية ورجعية ومحافظة . في أجواء كهذه، كان من السهل أن تنتشر أسطورة “خيانات المثقفين”، وأن يروج الحديث عن المثقفين كخونة للقوى العاملة والمحرومة من الشعب، وأن تصير الثقافة مسبة وتهمة، ويظهر من يمجد العفوية على حساب الوعي، ويرى في الأولى فطرة إنسانية سليمة تدفع إلى موقف طبقي صحيح، والثانية تشويها يضلل من يبتلى به . كما وضع الالتزام في مرتبة أعلى بكثير من مرتبة حرية الفكر، التي اعتبرت ضربا من مرض برجوازي غير إنساني .
وعلى الرغم من أن قيادات الحركة العمالية الأوروبية كانوا في معظمهم من الطبقة الوسطى ومثقفين، فإن أحدا لم يفكر بتغيير نظرته إلى حملة الثقافة، وقيل في تبرير هذه المفارقة إن من انضموا إلى الحركة العمالية حددوا مواقفهم وانتماءاتهم وأيديولوجيتهم كعمال، ولم يعودوا مثقفين، فلا بد من التعامل معهم بصفتهم الجديدة كعمال . بذلك تحول رأسمالي مثل فريدريك إنجلز، صديق ماركس، إلى عامل، وصار لينين بدوره عاملا بالاختيار . تلك كانت حقبة تقديس العامل وتخوين المثقف، الذي ليس له ما يمكن أن ينجيه غير تغيير جلده والانتساب إلى العمال والدخول في فردوسهم . لم يكن مؤسس ما سمي في ما بعد “الاشتراكية العلمية” عاملين، بل كانا من أبرز مثقفي عصرهما وربما التاريخ، ومع ذلك، فقد تم تخوين المثقفين وإخراجهم من ملكوت التقدم والثورة باسم نظريتهما، التي قيل إنها ترتقي بمعتنقها إلى مستوى من وعي الواقع يضعه خارج وفوق شرطه الذاتي والموضوعي، يقيه التحول من عامل إلى مثقف، ويجعل منه كادرا، أي تقني ثورات وحركات اجتماعية، يختلف عن المثقف اختلاف الأرض عن السماء . هذه مفارقة عاشت إلى أمس قريب، شهد مهازل مبدئية أوهمت العمال والفلاحين وبقية صنوف الكادحين أن جهلهم خير من ثقافة المثقف، لأنه لا يحول بينهم وبين الإسهام المباشر في معرفة  الواقع وتغيير مسار التاريخ، بينما المثقف تائه محتار، انتهازي يتربص بحركة الواقع كي يحدد موقفه منها، بعد أن تكون قد اكتملت، فيسارع إلى الانخراط فيها، ويغير جلده في الوقت المناسب، وينقلب، قبل فوات الأوان، إلى كادر يجمع بين الثقافة والعمل الميداني، ويعرف كيف يحول الرأي إلى قوة مادية، عبر ربطه بالجماهير ووضعه في خدمتها .
تغيرت النظرة إلى المثقف، مع تبدل استراتيجيات الثورة والصراع في المجتمعات المتقدمة والحديثة، والقول بإمكانية الانتقال السلمي إلى الاشتراكية، منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وفشل الثورات الاشتراكية والأحزاب الشيوعية في الغرب، وتهافت الاعتقاد بصحة وصواب نظرية الطبقتين المتواجهتين/ المتجابهتين حتما في كل مجتمع، وحلول نظرية الطبقات الثلاث محلها، التي اعتبرت الفئات البينية لاعبا له دور هائل في تقرير مصير الصراع الاجتماعي، كما بينت تجربة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا على سبيل المثال لا الحصر، فلا بد من كسبها أو تحييدها عبر كسب أو تحييد مثقفيها، أو ضمهم إلى الحركة العمالية، حتى لا يذهبوا في الاتجاه الآخر ويصيروا ضدها، هي التي كانت انقساماتها قد أضعفتها وأجبرتها على البحث عن حلفاء يعززون مواقعها . مع القول بإمكانية الانتقال السلمي إلى الاشتراكية، وتزايد انتقاد السياسات العمالية على يد مثقفي العمال العضويين أنفسهم (جرامشي مثلا)، اقتربت الحركة العمالية من المثقفين، وأخذت ترى فيهم “إنتلجنسيا” تقدمية، إن انحازت إلى العمال  مكنتهم من تعويض بعض ضعفهم واختراق الخصم بالأسلحة الثقافية / المعرفية، التي لطالما أتقن استخدامها ضدهم .
سقطت التحفظات ضد المثقفين مع تعاظم الثورة العلمية / التقنية، واتضاح دور الفكر في كشف أسرار الواقع، وتخلص الرأسمالية من بعض جوانب أزمتها وتجديد نفسها، وتعثر تجربة الاشتراكية السوفييتية وافتضاح أمر الطرق التي سحقت بواسطتها المثقفين، وانتصار ثورة العالم الثالث على الاستعمار الغربي، الذي لعب المثقفون الدور الأول فيه . . . أخيرا، مع الانتباه الفائق والاهتمام الاستثنائي، الذي أولته الدول الغربية المتقدمة للثقافة والمثقفين، وترجم نفسه في عشرات آلاف المؤلفات والكتب والدراسات عنهم أو بأقلامهم، استعاد المثقفون مكانتهم تدريجيا، ووسعوا دائرة حضورهم ونفوذهم، وأصبحوا ضربا من فرسان يخوضون معارك نبيلة بالنيابة عن، وباسم، جيش من المقاتلين لم يتم بعد تجهيزه وتدريبه للنزال الأخير، ويعدون العقول والنفوس لتحقيق الانتصار العملي، الذي سيلي انتصارهم النظري، فهم إذن جزء طليعي من الثورة، يرتبط نجاحها بنجاحه، ما دامت تتكون من طور أول هم محاربوه، أسلحته ثقافية أساساً، يستخدمها المثقف بكل عزيمة ومضاء، ليدك حصون العدو الأيديولوجية والفكرية بمعاولها، يليه طور ثان ستكمل الطبقة العاملة خلاله مهمة المثقف، بالاستيلاء على السلطة وإنجاز الانقلاب الحاسم . في هذا الطور أيضا، يلعب المثقفون دورا لا يقل أهمية عن دورهم في الطور الأول، فهم من يقود الحركة في طوري الثورة، وعليهم يتوقف الاستيلاء على الحكم واستمرار ونجاح الثورة .
انقلبت النظرة إلى المثقفين من النقيض إلى النقيض، وتحول المثقف من خائن ذميم إلى مناضل ثوري هو رافعة العمل السياسي والنضالي والفكري، تتوقف على نشاطه التبشيري والتوعوي أقدار المجتمعات والدول، فهو الفاعل الرئيس في الشأن العام، وصاحب المشروع الثوري وحامله في طوريه، ومنتج الفكر الضروري للانتصار، الذي يتوقف عليه كل أمر آخر .
باكتشاف المثقف والاعتراف بدوره، صار صاحب الكلمة خصم النظم، وخاصة المستبدة منها، والمدافع عن حقوق الشعب، وداعية المجتمع المدني، فأقلعت الطبقات الشعبية عن الحديث حول “خياناته”، بينما تبنت النظم الخطاب العمالي السابق، وأخذت تحرض الشعب عليه، لعلمها أن تغلغل الثقافة والفكر إلى رؤوس المواطنين يحولهم قولا وفعلا إلى قوة مادية يصعب قهرها . لم يعد المثقف خائنا بل صار بالأحرى محررا .
هل يقوم المثقف العربي بهذا الدور، كي يخرج العرب من مأساتهم الراهنة؟ هذا هو السؤال، الذي ستقرر الإجابة عليه أشياء كثيرة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى