أبي حسنصفحات سورية

في تبني الأقليات لخطاب الأكثرية وثقافتها

null
أبي حسن

ثمة إشكالية, غالباً ما نغض البصر عنها, ألا وهي مسألة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية. بداية لا غضاضة من أن نقرّ بحساسية المسألة ووعورتها. ولئن كانت كذلك إلا أننا في الوقت ذاته نجدها واضحة في الجهود المستميتة التي تبذلها هذه الأقلية أو تلك بغية تأكيد عروبتها تارة أو إسلامها تارة أخرى

وذلك حسب الموضة الرائجة وموقع تلك الأقلية أو هذه من المكوّن الثقافي الغالب الذي تعيش في خضمه, مثال ذلك المحاولات شبه المستمرة من قبل العلويين بغية تثبيت إسلامهم ولهاثهم (سابقاً) للحصول على فتوى من هنا أو هناك(من دون ذكر مصادر الآن) لتأكيد ذلك الإسلام!.

وقبل الولوج في صلب الموضوع تنبغي الإشارة إلى أن مسألة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية ليست حكراً على أبناء شرق المتوسط, إذ هي مسألة عالمية, غير أنها تبدو جلية للعيان في بلدان ما تزال ثقافتها قبلية كحال ثقافة شرق المتوسط.

وأياً يكن الأمر فقد بتنا نشهد, ومنذ أربعينات القرن الماضي, ظهور حركات –في شرق المتوسط- على أساس عرقي (كالتفات الأكراد إلى عرقهم في ردة فعل منهم –كما نعتقد- على تضخم الذات العربية التي كان خير ممثل لها الحقبة الناصرية)أو ديني؛ و عملياً إن ظهور تلك الحركات في الواقع ماهو إلا عبارة عن رفض تلك الأقليات(باللاوعي غالباً) لخطاب الأكثرية. أو بكلمة أكثر دقة عبارة عن رفض لهيمنة خطاب الأكثرية, وهو خطاب من شأنه أن يلغي الخصوصيات الثقافية لهذه الأقلية العرقية أو تلك الأقلية الدينية لصالح هيمنة ثقافة الأكثرية.

بتحديد أكثر نجد أن المسيحيين (أو بعضهم) يحتاجون بين الفترة والأخرى لتأكيد عروبتهم(مع معرفتنا أن أوائل المفكرين الذين نظّروا للعروبة وتغنوا بها ومنذ أواسط القرن التاسع عشر غالبيتهم من خلفية مسيحية!), وبالتالي ولاءهم لخطاب الأكثرية, بمعزل عن إن كانت تلك العروبة عبارة عن عبء حقيقي وعلى الصعد كافة, وتكاد تخلو راهناً من أية مغريات أم لا, على الأقل مغريات معرفية وحضارية راهنة!. لامانع من القول هنا: انه بمعزل عن وضعنا لاحتمال مفاده: انه قد يكون من جملة الأسباب التي دفعت ببعض المفكرين من خلفيات مسيحية تبنى العروبة في القرن التاسع عشر هو الخلاص من الرابطة التي كانت قائمة مع العثمانيين على أساس ديني(إسلامي).

وإذا ما نظرنا للمسألة من وجهة نظر أخرى سنجد إن سعي الأقليات لتأكيد انتماء ما, يشابه أو يماثل انتماء الأكثرية من خلال تبنيها لخطابها, يؤكد على لا إنسانية خطاب الأكثرية(أية أكثرية كانت) قبالة حالة التزلف والكذب التي عادة ما تضطر الأقليات(أية أقليات كانت) للعيش في دوامتها بغية تأمين الحماية المجتمعية والأمانين الذاتي والجمعي, وهذا لا ينفي في مجمله إن الكثيرين من أبناء الأقليات قد يكونون متبنين لخطاب الأكثرية عن رضا وقناعة! والأمثلة في هذا الصدد أكثر من أن تحصى.

من نافل القول إن مثل تلك الظاهرة –ظاهرة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية- تكثر في البلدان المتخلفة تاريخياً على الصعد كافة, كحال البلدان العربية الإسلامية. خاصة البلدان التي لم ينتصر فيها مفهوم المواطن بعدُ. وغني عن البيان انه حال بقينا نتحدث بالأقلية والأكثرية بالمعنى الديني أو العرقي, فنحن أبعد ما نكون عن مفهوم المواطن.

وما سبق ذكره لا يمنعننا من طرح سؤال جوهري, مفاده: ترى هل ثقافة الأكثرية دائما على صواب كي تتبناها الأقليات وتنافح عنها؟ وما هو الدليل على كون تلك الثقافة وخطابها على صواب حتى تدور الأقليات في فلكه؟ وهل الأقليات على خطأ لمجرد كونها أقلية بالمعنى العددي حتى تلغي خصوصيتها متبنية خطاباً قد لا تؤمن به!؟. يمكننا هنا أن نضرب مثالاً مبسطاً مفاده: إن المسلمين هم الأكثرية العددية في السعودية, ترى هل هم على صواب لأنهم أكثرية؟ وحال كان الجواب بنعم ماذا سيكون حال الجالية الإسلامية في بلد كأسبانية؟ ترى هل سيكون أتباعها على صواب لان من يماثلهم في السعودية هم أكثرية؟ أم سيكونون على خطأ كونهم أقلية يعيشون وسط أكثرية مسيحية؟ ومن ثم أي خطاب سيتبنون؟.

أياً يكن الأمر, لامناص من القول انه قد يكون من نتائج فرض الأكثرية لخطابها, بما ينطوي عليه ذلك الخطاب من نمط ثقافي, على هذه الأقلية أو تلك, أن يدفع ببعض الأقليات للتحالف مع خارج ما قد لا يصب في خدمة مصالح الأكثرية, وربما هذا ما يفسّر لنا–في أحد أوجهه- سبب التحالف الذي نشأ في فترة زمنية بين بعض موارنة لبنان ممثلين بحزب الكتائب وإسرائيل, العدو التاريخي للأكثرية العددية بالمعنى العروبي/الإسلاموي, على سبيل المثال لا الحصر. وربما هذا ما يمكّننا من إدراك معنى أن يستهل الرئيس اللبناني الأسبق إميل اده سنة 1940م خطابه في الإذاعة اللبنانية سنتذاك بقوله: “إخواني الفينيقيين, وأبناء بجدتي فرنسا”, ما أثار غضب رشيد عالي الكيلاني, وقد كان معيّناً حديثاً رئيساً للوزراء في العراق سنتذاك, شاناً حملة شعواء على الرئيس إميل اده.

وللتدليل على صحة كلامنا, في ما يخصّ فرض الأكثرية خطابها على الأقلية, يمكننا الاستعانة ببيان المطارنة الموارنة الذي صدر في الأسبوع الأول من تموز 2007, محذراً فيه من “أسلمة لبنان” متهماً حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بالعمل على تلك الأسلمة, والذي عقب عليه الزميل حسام عيتاني, محقاً (“السفير” 11/7/2007), إن الأسلمة تمت ومنذ عقود, ذلك عندما “طالب بطريرك الموارنة بتوسيع رقعة لبنان لتضم الأقضية الأربعة”, مبيناً إن: “ما يخيف المسيحيين اليوم ويتشاركون في خوفهم هذا مع فئات واسعة من المسلمين هو عملية «طلبنة» المسلمين اللبنانيين الذين تنتشر في صفوفهم رؤية عدمية للواقع تنبذ الآخر وتنفي أهمية مشاركته في بناء بلد مركب المكونات مثل لبنان”, إلى أن يوضح: “إن الطلبنة ليست محصورة في أبناء الطائفة السنية, بل هي آفة مشتركة بين جميع الطوائف الرافضة للاعتراف بالآخر…”.

وعلى الرغم من وفرة التحليلات الواقعية والصائبة التي عادة ما تتسم بها رؤية عيتاني غير أنه تغافل إن سبب وجود آفة الطلبنة لدى الطوائف الأخرى في لبنان, تحديداً في وقتنا الراهن, هو هيمنة خطاب من صاروا أكثرية(عددية دينية) على من باتوا أقلية(عددية دينية) في لبنان!. لابل والابتزاز الضمني من قبل من صار أكثرية عددية بالمعنى الديني لمن بات أقلية عددية بالمعنى الديني!.

وإشارة بيان المطارنة إلى “أسلمة لبنان” وان كانت متأخرة جداً, ولا تنسجم إطلاقاً مع الواقع اللبناني من جهة الاختلال الديموغرافي الذي آل إلى مصلحة المسلمين, إلا أن أهميتها تأتي من قرعها جرس الخطر والخوف الحقيقي والجدي من هيمنة خطاب يرتكز في هيمنته هذه على الكثرة العددية بالمعنى الديني لا بالمعنى السياسي!. ولن ننسى هنا الإشارة إلى كيفية سعي بعض الشرائح من سُنّة لبنان للعمل على دمج سُنّة فلسطين بالكيان اللبناني, هذا ما تفسره الوفرة في حالات زواج شبان لبنانيين من فتيات فلسطينيات, ومثل ذلك الزواج والتزاوج ليس بريئاً في مجمله خاصة في مجتمع كالمجتمع اللبناني.

وليس مصادفة أن تجد أصوات كتّاب لبنانيين تفصح عن تعرض الوجود المسيحي في لبنان اليوم “لخطر وشيك جدّي سياسياً واجتماعياً, دون الإعلان عن ذلك. علماً أنها ليست المرة الأولى التي يكون فيها ذلك الوجود مهدداً بملاقاة المصير الذي وصل إليه مسيحيّو الدول المجاورة من فلسطين والعراق” كما عبر عن ذلك نسيب حطيط في “الأخبار” (24/9/2007). ولنا أن نتساءل في أنفسنا إلى أين قد يفضي ذلك القلق, حال لم تزل أسبابه, بلبنان لا بالمسيحيين فحسب!.

عود على بدء, لا مفرّ من القول إنه عندما يصبح خطاب الأكثرية يشكل عامل اضطهاد مزمن على أقلية ما, ستبحث تلك الأقلية مباشرة عن حليف خارجي, وهذا ما رأيناه في علاقة زعماء الأحزاب الكردية العراقية بإسرائيل بعد أن شهدت كردستان العراق حكماً ذاتياً عقب حرب الخليج الثانية, ومن البديهي أن تلك العلاقة لم تكن لتنشأ لولا شعور الأكراد المزمن بالاضطهاد من خطاب الأكثرية, لابل والمتاجرة بذلك الخطاب, إلى درجة أن بعض الأقليات التي تبنته صارت بدورها تتاجر به!.

وأعود وأؤكد أن مسألة تبني الأقليات لخطاب الأكثرية مسألة شديدة التعقيد والحساسية في آن, ويزداد تعقدها (وربما خطورتها) طرداً حال كان خطاب الأكثرية متخلفاً ويشكو من معضلة بنيوية حقيقية.

أُبيّ حسن: ( كلنا شركاء ) 4/2/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى