صفحات مختارةوائل السواح

التفسير العلمي للأحاديث النبوية إساءة للحديث وليس تصديقا له

دراسة حالة
وائل السواح
في متابعة لما بدأناه  من ضرورة ربط السنّة النبوية بالعقل والمنطق قبل الأخذ بها على عواهنها، نتابع هنا بدراسة حالة أخرى لحديث نبويّ يثير جدلا بين المتابعين والدارسين لأحاديث النبيّ.
روى البخاري ومسلم وغيرهما حديثا عن النبيّ بروايات مختلفة ومضمون واحد، وأكثرها شيوعا في الكتب الإسلامية، هي الرواية التالية: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : إذا سمعتم أصوات الديكة فاسألوا الله من فضله فإنّها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوّذوا بالله من الشيطان فإنّها رأت شيطانا.” وصنّفه الجميع حديثا صحيحا”. (راجع الجامع الصغير للسيوطى حديث رقم 4259 صحيح).
نحن هنا أمام حديث غريب لنبيّ أسّس دينا عظيما يدين به اليوم أكثر من مليار بشري. ولسوف يكون من الصعب أن نتخيّل مجلسا كان به النبيّ، فسمع نهيق حمار قريب، فشعر بالانزعاج، ثمّ استعاذ بالله وأمر أصحابه بالاستعاذة لأنّ الحمار ما نهق إلا لأنّه رأى شيطانا، وبرواية البزاز : أنّ سبب الحديث أنّ النبيّ كان في مجلس، فصاح ديك، فلعنه رجل، فأنَّبه النبيّ وقال: “إذا سمعتم أصوات الديكة فاسألوا الله من فضله فإنّها رأت ملكا”. لو كنتَ في مجلس النبيّ لاستغربت قوله، فها هو رجل عظيم رزين وعاقل، كان يحكِّم بين قبائل العرب في الجاهلية فيقبل الجميع حكمه (1)، ولكنه لا يمتنع أن يقول إنّ الديك يصيح لأنه يرى الملائكة. ولكنتَ استهجنتَ أكثر ربط نهيق الحمار بصياح الديك، بهذا الشكل المفتعل. فلنتصوّر أنفسنا في مجلس يتصدّره رجل عظيم كالنبيّ، ويدور الحديث فيه عن قضايا الأمّة والدين والمجتمع، ثم ها هو ديك يصيح، فينزعج رجل من الحاضرين منه فيلعنه، فيستفزّ النبيّ الكريم، ويوبّخ الرجل مانعا إياه من لعن الديك، قائلا إنّ الديك إنّما يصيح ابتهاجا لأنّه رأى ملاكا. ولأنّ الشيء بالشيء يذكّر، يضيف النبيّ، بالمناسبة، أنّه إذا نهق الحمار فتعوّذوا بالله من الشيطان لأنّه رأى شيطانا. لماذا ينبغي أن تسعد الديكة برؤية الملائكة طوال عمرها، بينما تشقى الحمير برؤية الشياطين طوال عمرها؟
ولا تقف المسألة ههنا، إذ يزيد البعض على الحديث النبويّ حديثا آخر في تعظيم الديك هو للإمام جعفر بن محمد الباقر وهو يقول، نقلا عن جابر: ” إنّ لله ديكا في الأرض ورأسه تحت العرش جناح له في المشرق جناح له في المغرب فيقول سبحان الملك القدوس، فإذا قال ذلك صاحت الديوك وأجابته. فإذا سمعت صوت الديك فليقل أحدكم سبحان ربّي الملك القدّوس”. هو ذا تنويع شيعيّ على سنّة النبيّ لا تقلّ غرابة عن الأصل، على أن لا غرابة في ذلك، إذا كان القائل نفسه هو الذي طلب من الناس ألا يبحثوا ويسألوا، إذ ينقل جابر عن جعفر قوله : ” يا أيها الناس اتقوا الله ولا تكثروا السؤال إنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم”.
ولكنّ المبالغة التي بين أيدينا لا تقتصر على المراجع الشيعية، فالألباني، وهو من ثقاة مصنّفي الحديث، يروي عن أبي هريرة أنّ الَنبيّ قال “إنّ الله أذن لي أن أحدّث عن ديك، رجلاه في الأرض، وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظم ربّنا فيُردّ عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا”.
لا أعتقد أنّ النبي أو جعفرا قالا أيّا من الحديثين المنسوبين إليهما، كما أنّني لا أعتقد أنّ النبيّ قد ذمّ الحمار وامتدح الديك. ولكنّ الكثرة الكثيرة من الذين يسلِّمون بما يقوله شيوخهم دون تدقيق أو محاكمة، يعتقدون أنّ الأحاديث الثلاثة صحيحة.
ومن التنويعات الأخرى على الحديث، قول “جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوّذوا بالله ، فإنّهن يرين ما لا ترون .” رواه أبو داود (103 )، وأحمد (3 / 306). لدينا هنا إضافة هي الكلاب، التي ينبغي إذا سمعنا نباحها التعوّذ بالله أيضا.
وأسوأ من ذلك ما نسب إلى النبيّ من قوله “لا ينهق الحمار حتى يرى شيطانا أو يتمثّل له شيطان، فإذا كان ذلك فاذكروا الله وصلوا عليّ”. فالمشكلة هنا ليست أنّ الحمار ينهق إذا رأى الشيطان ولكن أنّ الحمار لا ينهق إلا إذا رأى الشيطان. أمّا نهيق الحمار لجوع أو تعب أو مناداة للشريكة، فذلك لا يحسب الحديث له حسابا البتّة. وفي الطرف آخر، تبلغ المبالغة ‏حدّ النهي عن سبِّ الديك، “لأنّه يدعو للصلاة. فقد صحّح ابن حبان – وأخرجه أبو داود وأحمد – من حديث زيد بن خالد رفعه ” لا تسبّوا الديك فإنّه يدعو إلى الصلاة”.
ولو كان تبرير ذلك كله أنّ علوم عصر النبي كانت محدودة، وأنّ الأحاديث مثلها مثل كلّ الأدب في ذلك الوقت وليد عصره ومحدود بمحدوديته، لما كان ثمّة مشكلة لدينا. ولكنّ معظم المسلِّمين (بتشديد اللام) لا يقنعون بذلك، بل يعيدون تفسير كلّ الحديث النبويّ على أساس من العلم الحديث، لاوين بذلك عنق العلم والحديث على حدّ سواء. فبينما كنت أبحث عن الحديث الذي بين أيدينا في المراجع وفي المواقع الإلكترونية، مرّ بي ما يربو عن 13000 ألف مادّة على الإنترنت تحاول إثبات علمية الحديث النبويّ المذكور، وملخّص هذه المحاولات هو التالي:
“إنّ قدرة البصر لدى الإنسان محدودة لا ترى ما تحت الأشعة الحمراء ولا ما فوق الأشعّة البنفسجية، بينما تقدر الديكة على رؤية الأشعّة فوق البنفسجية، ويقدر الحمار أن يرى الأشعّة تحت الحمراء. ولأنّ الشيطان خلق من نار، أي تصدر عنه الأشعّة تحت الحمراء، فإنّ الحمار يراه. أمّا الديكة فترى الأشعّة فوق البنفسجية، ولأنّ الملائكة مخلوقة من نور، أي تصدر منه الأشعة فوق البنفسجية، فإنّ الديكة تستطيع أن تراها.” (2)
العجيب أنّ معظم المواقع والمنتديات والمدوّنات أوردت هذه القصة أو ما يشبهها باعتبارها حقيقة علمية مطلقة، ولم يكلّف أيّ كاتب نفسه مشقّة ذكر المصدر العلميّ الذي جاء بنظريته أو بمعلومته منه. باختصار قالوا لنا: “العلم يقول إنّ الديك يرى الأشعّة تحت البنفسجية والحمار يرى الأشعّة تحت الحمراء،” فيصدّق المؤمنون البسطاء الذين تعلّموا من الإمام جعفر ألا يسألوا، لأنّ من قبلنا قد هلكوا بسبب كثرة السؤال. فلا يطرح أحد السؤال التالي : “إذا كان صحيحا أنّ الحمار يرى الأشعّة تحت الحمراء، فكيف أثبت العلم أنّ الشيطان يطلق أشعّة تحت الحمراء؟ وإذا كان الديك يرى الأشعّة فوق البنفسجية، فكيف أثبت أنّ الملائكة تطلق أشعّة فوق بنفسجية. وماذا يعني أن تكون الملائكة مخلوقة من نور؟ ألا يتأتّى النور عن النار؟
ومع ذلك، ولأنّني لست خبيرا في هذا المجال كان عليّ أن أقوم ببحث طويل للتحقّق من هذه المعلومة. وكانت النتيجة هي التالية: تستطيع الطيور والحشرات بالفعل رؤية الأشعة تحت البنفسجية، بما في ذلك النحل والفراش. ولكنّ السؤال، لماذا لا ينبغي للمؤمن أن يدعو الله إذا صاح الغراب، فهو يرى الأشعّة تحت البنفسجية أيضا، وبالتالي فهو يرى الملائكة، وقل القول نفسه بالنسبة للنحل والفراش. أمّا بالنسبة للأشعّة تحت الحمراء، فإنّ بعض الحيوانات وخاصة الزواحف تستطيع رؤيتها، بيد أنّ الحمار لم يكن قطعا من بين الحيوانات التي تراها. لذلك يحقّ لنا أن نفترض أنّ القسم المتعلّق بالحمار ورؤيته للشيطان في الشرح “العلمي” للحديث النبوي، هو استكمال تخيُّليٌّ للشقِّ الأوّل الذي لا يقوم بدوره على أساس واقعيّ.
وعودا على بدء، لا يستقيم هذا الطرح مع العقل السليم ولا مع الفهم السليم لشخصية النبيّ وقيادته التاريخية للأمّة أثناء حياته. ويبقى السؤال هو التالي: هل هذا الحديث صحيح؟ ثمّة إجابتان ممكنتان: نعم ولا. الإجابة الأولى فيها إساءة غير مقبولة لشخص النبيّ، من طرف من يدّعي محبّته وإجلاله. الإجابة الثانية هي الأقرب للحقيقة، ولكنها تفترض أن نعيد النظر كلية باعتماد الباحثين الإسلاميين على الحديث كمصدر للحقيقة التاريخية. ولعلّ في ذلك ما يشجعنا على أن نبدأ بدراسة الخطاب النبويّ على أنّه مادة أولية، كانت وليدة زمانها ومكانها، وأن نخضعها للعقل والتحليل والمنطق، ثم نحيلها إلى ظروفها الزمانية- المكانية، فلا نأخذها كقاعدة لسلوكنا اليوم، ولا نقيس عليها، ولا نقيم عليها بنى قانونية وأخلاقية واجتماعية. ولو بعث النبيّ اليوم بيننا نحن البشر، لسلك في أغلب الظنّ سلوك العقل فيما يسمع على لسانه من تراثه، علما أنّ جزءا كبيرا من هذا التراث غنيّ وحافل بالقيم الإنسانية والأخلاقية الرفيعة.
الهوامش:
1- عندما وصل البناء بقريش إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يتشرّف بوضع الحجر الأسود في مكانه، و كادوا أن يقتتلوا، فأشار عليهم أبو أمية المخزومي أن يحكّموا أوّل داخل من باب الصفا فوافقوا، وكان النبيّ أوّل الداخلين، وعندما رأوه قالوا : هذا محمد الأمين، رضينا به حكماً، فبسط النبيّ ثوبا وضع الحجر فيه، ثم طلب من ممثّلي القبائل أن يرفعوه معا إلى مكانه.

2- راجع على سبيل المثال

http://forum.3rbdream.net/dream17/c….
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى