صفحات مختارةعمار ديوب

اليسار الليبرالي وقد فقد عقله فهل يستعيده؟

عمّار ديّوب
يُنتقد اليسار كثيراً، لأسبابٍ تتعلق بمفهومه للمسألة القومية، ولتقييمه لمفهوم الوطن، حيث يعزله عن مفهوم المواطنة، فالوطن هو الوطن سواء أكان استبدادياً نظامه أم ديمقراطياً، وينتقد لفشله في صياغة موقف حازم من الدين، وينتقد أيضاً لضعف برنامجه الاشتراكي المستقل وتبعيته التاريخية للماركسية السوفييتية.
كلها انتقادات وغيرها، يمكن أن تكون صحيحة في جوانب كثيرة منها، ولكن ما لا يغفر لليسار الليبرالي بالمطلق، ويحوّله إلى متواطئ مع الإمبريالية الأمريكية، تثمينه للاحتلال الأمريكي، وإلغاء الحق بالمقاومة ضده، واعتبار الاحتلال أفضل بألف مرة منها، وهنا قد يعترض معترض بالقول إننا نقصد المقاومة ‘البنلادنية’ ولكن الكلام هنا لا يقصد به ذلك، بل تثمين الاحتلال والتشهير بدور المقاومة، واعتبارها سبب مشكلات العراق؛ التي هي برأيهم، إن لم تكن بنلادنية فهي بعثية بالتأكيد وساعية نحو مجدٍ ضائع، والتنظير هنا، يطال أي نوع من المقاومة وعادة ما يقال نحن ضد العنف الثوري، وضد كل عنف. وبالتالي، المقاومة، هي سبب الأزمات ‘في العراق وفلسطين ولبنان’ وليس الاحتلال الذي أتى بالإرهاب إلى العراق، وكان لتدميره واحتلاله العراق وإقامته للنظام الطائفي في عهد بريمر، وبعد كل ذلك نضيف دور النظام السابق، أسبابا فعلية في إخفاق العراق، وتحوله ليس لدولةٍ محتلة فقط بل وفاشلة تماماً، فلا يوجد خدمات كهربائية ولا صحية ولا شبكات هاتفية سليمة وهناك مشاكل بالمياه، والتعليم ،عدا عن مقاييس الفساد العالية في الهيئات الحكومية، وتحول العراق سياسياً إلى عراقات، ومقسم طائفياً، وفقط ينتظر لحظة الإعلان السياسية عن ذلك، إذا ما فشل سادة السياسة في التوافق. اليسار الذي فقد عقله وجنّ، ففقد اسمه ومجده، صار أي شيء آخر الا أن يكون يساراً؛ فاليسار إما أن ضد الاحتلال وضد الاستبداد والطائفية وضد الفقر وضد النظام الرأسمالي بكل أشكاله، ويقف مع الفقراء، ويطالب بالحرية والمواطنة وبالعلمانية وبحقوقٍ متساويةٍ للمرأة، وإما أنّه اسم على غير مسمى. يسارنا العربي، فاقد للرؤيـــــة وللبرنامج الجذري، وأحزابه مأزومة، ومتشظية بطريقة عبثية إلى مجموعات متناثرة ومتعـــددة الرؤى، والأعجب هــو ذوبان الجيش اليساري، وكأنه جبل من جليد. هذا الذوبان الســــريع له، لا شك أنّه يتطلب تفسيراً دقيقاً، ولكن بعضه لم يقم بذلك، وتبنى سريعاً الليبرالية بأسوأ أشكالها، ومتّن صلاتٍ قويةٍ مع النظام الامبريالي العولمي. وبالتالي، من الطبيعي، أن نقول عنّه، أنّه لم يعد يساراً، إن كان بالأصل له علاقة به.
اليسار في لبنان، وفلسطين والعراق وسورية، ربما عليه تقع المسؤولية الأكبر في إعادة صياغة مشروعه الفلسفي والبرنامجي، وبالطبع تقع ذات المسؤولية على بقية البلدان العربية، ولكنني أنطلق من أن هذه البلدان تخضع للاحتلال جزئياً أو كلياً بأشكال متعددة، ودور اليسار مركزي في مجابهة الاحتلال، أو هذا ما يجب عليه القيام به. ويشكل التصدي له، لحظة البدء بتعرية اليسار الليبرالي، ونزع الغطاء عن دوره ووظيفته وربما أوهامه. فهل اليسار الحالي قادر على ذلك؟ هنا المشكلة، فكل اليسار المشار إليه أعلاه، يتكلم عن أزمةٍ عميقةٍ لا يزال غائصاً فيها، وغير قادرٍ على تشخيصها؟ وبالتالي فهو ليس مؤهلاً للعبِ دورٍ مركزي، في حل قضايا المنطقة، وهو ما سيشوهه ويديم تشويهه، ما دام باقياً في كنف الاحتلال أو في كنف الأنظمة الشمولية، أو لم يستطع الانفكاك عن نهجه الإصلاحي، ولم يطرح مشروعه الثوري. هذا اليسار بفقده عقله اليساري، عاد إلى سابق عهده وموقعه، فمثقفوه، بالأصل ينتمون لطبقات برجوازية صغيرة، وهذه لها مشروعها الطبقي، المنسجم مع مشروع البرجوازية الكـــبيرة، خاصة في الأزمنة التي تتجلى فيها أزمة اليسار، وهــــناك سبب إضافي، أن الأحزاب اليسارية العربية طاردة للمثقفين، ولا تزال متكلسة وجامدة عن فهم طبيعة العصر؛ الذي في توجهه الأساسي عصر تجاوز الاشتراكية السوفيتية و النظام الرأسمالي المتأزم في الآونة الأخيرة بشكل عميق، مع تثمينٍ لما قدماه لصالح البشرية. هذا العصر لا يزال خارج وعي أحزاب اليسار، التي تحوّلت بدورها، إلى أحزاب غير ذات فاعلية ومحدودة العدد وإصلاحية البرنامج، وبالتالي صارت جثث متوفاة ولكن بدون شهادة وفاة، هذه حقيقة اليسار بصورتها الفاجعة.
وهي هي شروط تحوّل مثقفي اليسار السابقين نحو المشروع الليبرالي فكراً أو احتلالاً. قد تكون شروط سقوط الاتحاد السوفييتي، والنظام الاستبدادي في العراق، وشعارات الديمقراطية الأمريكية لعبت دوراً في ذلك التحوّل، ولكن الاحتلال فشل في حكاياه الليبرالية وحصيلة فعله أنظمة طائفية وتقسيم الدول وقتل عبثي، وبالتالي مع تغيّر الشـــروط يجــــب أن تتغيّر التحليلات! ولكن، المشكلة في أنّ من تحوّل ليبرالياً ربط نفسه بالمشروع الجديد إيمانياً، وعقليته في ذلك كعقليته القديمة، حين ربط نفسه بالمشروع السوفييتي إلى أن فشل، ولكن السؤال مع فشــــل الاحتــلال إلى أين سيجري التحول!؟ وبالتالي، المتحكم بالعقل وفي الحالتين هو هو التفكير الديني، لذلك يصير علينا القول إنّ ذلك اليسار الليبرالي، لم يعد يسارا وصاراً جزءاً عضوياً في المشروع الليبرالي، ويحارب بكل ما تعنيه الكلمة في صفوفه ضد أي ملمح يساري جديد.
مع ذكرى الحرب على العراق وبعدها، فإنّ اليسار العراقي ورغم أزماته، مطالبٌ بإبراز موقعه الثوري، ومناهضة الاحتلال، وتبني المقاومة الشاملة، وليس العسكرية فقط، وطرح مشروعه الفكري وإظهار ممارسته في حقل المجابهة ضد الاحتلال، وضد قوى النظام الطائفية، وبالمثل ضد ‘المقاومة الإرهابية’ واعتبارها فرق موت أمريكية، حيث مهمتها تشويه وجه المقاومة الوطنية الشاملة، ودب الذعر في صفوف الشعب الذي قُسم طائفياً كي يتمسك بالاحتلال، وبالسلم أي كان نوعه، وبالتالي، سيصبح كلامنا لا جدوى إن لم تعمل المقاومة الوطنية على استعادة دورها التاريخي بقيادةٍ يسارية، كما تم في الفيتنام والصين وغيرها. فهل هذا ممكن؟ للأسف أقول إن هذا صعب جداً؛ فتشرذم اليسار العراقي، أقوى من إمكانية توحيده.
نحن هنا، لا نزرع الإحباط ولكننا، نكتب ما تعطينا إياه الوقائع، دون أن ننسى، أن دور اليسار كلــــما تأخر، كلما ازدادت أزمته، وأزمة المنطقة العربية؟

‘ كاتب سوري
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى