صفحات مختارةميشيل كيلو

هل يوجد مستبد عادل؟

null
ميشيل كيلو
في سياق بحثها عن رد على خطر السقوط تحت نير الاستعمار، سعت بعض العقول العربية في زمن غير بعيد إلى تلمس نمط من الحكم يستطيع حماية الوطن، اعتقدت أنها وجدته في ما أسمته ‘المستبد العادل’،الذي طالب به وألح عليه قوم عظماء كمفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده، مفكر الإصلاح الديني والمدني الكبير. بعد حكم طويل جدا مارسه حكام غرباء على مصر، تمنى محمد عبده ظهور مصلح من أبنائها يكون عادلا حتى إن كان مستبدا، عسى أن يمثل ظهوره لحظة تحول في تاريخها السياسي.
هذا المطلب الغريب في أيامنا، حمل حتى في حينه تناقضا صارخا، فالعدل في تاريخنا هو أساس الملك، وشرطه أن لا يقترن بالاستبداد، والعادل لا يكون مستبدا، لأن عدله رحمة بالناس وتفاعل عطوف مع مصالحهم وحقوقهم، والرحمة تفترض الرفق واللين، بينما تنفي المصالح والحقوق فكرة الاستبداد، التي تقوم على الإقرار بأن لا حقوق إلا لفرد واحد هو المستبد: الحاكم غير العادل، الذي ينفرد بـ’الأمر’، وأسماه اللسان السياسي العربي / الإسلامي’الملك العضوض’، واعتبره نقيض الملك الراشد أو الراشدي، الذي قام على العدل والرحمة والمشاورة والعمل بما أنزل الله، وتاليا على الامتناع عن الاستبداد. ومن الغريب أن عظيما كالكواكبي تحدث بدوره عن المستبد العادل، مع أنه قدم تعريفا للاستبداد ينفي تماما صفة العدل عنه، حين قال بكلمات موجزة وعبقرية: ‘الاستبداد هو حكم الهوى’، حكم من لا يتقيد بقانون أو عرف أو تقليد أو قاعدة، ولا يقر بأولية ما انزل الله في تعيين صلاحيات الحاكم، ويجعل هواه قانونه وشرعته، فلا شورى ولا مشاورة، ولا أهل حل وعقد، ولا قواعد، بل حكم تعسف يمليه الهوى، والعياذ بالله، هو حكم وثنية ترفع أهواء المستبد إلى مستوى إرادة فوق بشرية مقررة، تقول للأشياء كوني فتكون.
… وكان قد زاد من حاجة المسلمين إلى العدل كأساس للملك ما عاشوه من تمزق وتناحر وصراعات بدءا من أواسط القرن العاشر الميلادي، لذلك رفعوا المطالبة بتحقيقه في وجه ‘السلطان’، صاحب الملك، بقصد الحد من استبداده، بينما توجهوا، بالمقابل وفي الوقت نفسه، إلى الجماعة الإسلامية بمطلب يحتم ركونها إلى الهدوء والدعة وابتعادها عن الفتن، عل هدوءها يحول بدوره بين الحاكم وبين الاستبداد، أو يقيد استبداده ويحد منه، فيحكم الجماعة بالعدل ويمتنع عن ممارسة حكم استبدادي : مفتوح وعنيف وقائم على الهوى والمزاج. هذا المطلب قام على منطق يقول : إذا كنا لا نستطيع تقييد استبداد الحاكم، فإننا بمقدورنا دعوة الجماعة الإسلامية، وهي في رأي كثير من الفقهاء مصدر الشرعية وحامل الحكم، إلى إحاطته بأجواء تحد من قدرته على الاستبداد ورغبته في ممارسته، إلى أن يرى الله رأيه في أمرها ويضع حدا لابتلائها بحكمه وشخصه. صحيح أن هذا المطلب قال بضرورة تحاشي المستبد والقبول بالخضوع له، إلا أن هدفه كان تقييد الاستبداد باعتباره حكما فاسدا أو غير صالح أو ظالم، والحد من فساده وظلمه. يذكر في هذا السياق أن كره الاستبداد (الظلم) بلغ حدا قال معه سيدنا الإمام علي ( ك): ‘حاكم عادل كافر خير من حاكم مسلم جائر’.
لن أتوقف عند المطالبة بـ’المستبد المستنير’، فهذه لها حديث آخر. وسأعرج على التعارض الجوهري بين العدل والاستبداد، وعلى استحالة أن يكون العادل مستبدا والمستبد عادلا، وملاحظة أن ربط العدل بالاستبداد والعكس في صيغة المستبد العادل كان بالأحرى تعبيرا عن مأزق فكري يشبه، من بعض الوجوه، المأزق الذي يواجهه عقلنا السياسي الراهن، المتأرجح بين العجز عن ابتكار حلول وتقديم رؤى وتصورات فاعلة من شأنها الإطاحة بالاستبداد القائم، وبين العزوف عن القبول بنظمه والركون إلى حكمه، لذلك لم يبق له غير تلمس واقتراح مراحل انتقالية تسهم في إخراجنا منها والإجهاز عليها، وإن بعد زمن قد يكون طويلا. كان أجدادنا يواجهون مأزقا تاريخيا فرضته عليهم أوروبا القادمة لاستعمارهم، أو التي كانت قد استعمرتهم بالفعل، فعملوا على تلمس أشكال من الحكم تقويهم وتحدّث بلدانهم وتسرع تحررهم، مستوحاة من تلك التي عرفتها أوروبا في نهايات عصرها الوسيط، وخاصة زمن الملكيتين المطلقة والدستورية، اللتين أنجزتا انتقالا ناجحا إلى العصر الحديث وحكوماته التمثيلية. لا عجب اذن أن المستبد العادل جسد في إدراكهم خليطا يتفق وأوضاعنا من الملكين: المطلق والدستوري!.
لا يجتمع العدل مع الاستبداد: فالعدل هو حكم الشرع قديما والقانون حديثا، الذي كانت تكفله القيم الدينية وتراقبه هيئات الجماعة الإسلامية، الدينية أساسا، في الماضي، وتتكفل بضبطه هيئات تمثيلية تنتخبها مجتمعاتنا في الحاضر، لتعبر عن إرادتها في مستوى الحكم والسلطة. حين قالت العرب إن’العدل أساس الملك’، كانت تعني بقولها: الذي لا يكون عادلا لا يكون شرعيا، بل يكون ملكا جائرا / ظالما لا يجوز لجماعة المؤمنين السكوت عنه، خاصة وأن الطاعة لا تكون إلا في ما يرضي الله ورسوله والمؤمنون، وأن الظلم لا يرضي الله والرسول وإن أرضى المؤمنين أو سكتوا عليه. يحكم المستبد من خارج الشرع والقانون وعلى الضد منهما، وإلا لما كان مستبدا. وهو لا يقر بأية سلطة فوق سلطانه، وإلا لكان حكم بالشرع أو بالقانون، ولاٌقر أن فوق كل سلطان سلطة قدسية ومتعالية يجب أن يخضع لها الحاكم والمحكوم، كل في مجاله، وإلا ارتكبا معصية العصيان. في هذا الفهم، يعتبر المستبد من العصاة، لأنه ينكر ويرفض وجود أية سلطة فوق سلطته، خاصة إن كانت سلطة الشريعة والقانون، وحتى سلطة الله رب العالمين، مع أنه كثيرا ما يدعى الرضوخ لها والامتثال لإرادتها. ويكفي كي يعد من العصاة أنه يحكّم هواه في ما أمر الله بحكم الشريعة فيه، وما قام تعاقد الأفراد والمجتمعات مع الدولة على كونه السيد الوحيد الذي يجب الخضوع المطلق له: ألا وهو القانون. يحل المستبد هواه محل إرادة الله والجماعة، ويبطل كل ما من شأنه الحد من سلطانه المطلق، بتصعيد استبداده، أي عصيانه، تصعيدا لا يني يتعاظم إلى أن يصير عملا من أعمال الشيطان في الشرع، وخروجا على إرادة عامة هي مرجع أي شأن عام ومعياره في القانون ؛ وفي الحالتين، لا يكون هناك من علاج لعصيانه غير ثورة تطيح بحكمه.
لا وجود لمستبد عادل. يتغذى العدل من القانون في الدولة والإنسان في المجتمع، ويلغي الاستبداد القانون والدولة والإنسان والمجتمع، ويقيم في مقابلهما، وضدهما، منظومة نافية للقانون / معادية للإنسان هو مركز ومحورها وأطرافها، فهي تستمد وجودها منه مثلما يستمد هو وجوده منها. وما لم يخرج عقلنا ووعينا من أكذوبة المستبد العادل والمستنير، والاستبداد الذي يرتبط أو يمكن أن يرتبط بالعدل، والعدل الذي يبقى عدلا إن هو اقترن بالاستبداد، فإن مأساتنا ستمتد وتتفاقم، وسيكون خروجنا الفعلي منها صعبا إلى درجة الاستحالة.
إذا قلت أن المستبد يمكن أن يكون عادلا، فكأنك تقول إن النور يمكن أن يكون مظلما والظلام يمكن أن يكون منيرا!.

‘ كاتب وسياسي من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى