صفحات العالم

جزر أمريكا وعصيها

خيري منصور
من يتحدثون عن سياسة الجزرة والعصا أو الثواب والعقاب كما تمارسها الولايات المتحدة يتجاهلون امراً مهماً، هو أن سلة الجزر كلها للدولة العبرية، وحزمة العصي كلها للعرب، وما تبدل من هذه السياسة خلال التعاقب الرتيب وغير الدراماتيكي للإدارات الأمريكية هو الصيغة أو منسوب البلاغة الشكسبيرية في هذا الخطاب أو ذاك، وتجديد العقاب لدمشق عاماً آخر هو من منتجات هذه الذهنية السياسية التي لا ترى في العالم غير ما يتناغم ومصالحها، وما يخضع أخيراً للتسعيرة السياسية التي تحددها تل أبيب .
إن الأجدر بالعصي على الدوام هو من يعلن العصيان على العالم بأسره وليس فقط على ولي النعمة في واشنطن، لكن المفارقة هي مكافأة العاصي على كل ما يقترف مقابل العقاب الذي يتربص بهؤلاء الذين تتلخص جريمتهم في عبارة واحدة، هي موقفهم الدفاعي عن أوطانهم، وهوياتهم وبالتالي عن وجودهم المهدد .
لقد عرف العالم في مختلف العصور نمطاً مما يسمى شهادات حسن السير والسلوك، وفي القرون الوسطى كان الأباطرة يجلسون على الاعتاب لنيل هذه التبرئة، لكن ما تقترحه الولايات المتحدة لإعادة الضالين إلى بيت الطاعة الأبيض لم يسبق ان مورس في التاريخ حتى في خريف الرومان عندما تفككت وتعفنت منظومة القيم والمفاهيم .
إنه عقاب يبحث عن متهم، هذا ما يلخصه الكاتب التشيكي كونديرا وهو يكتب عن النظم الشمولية الآفلة، لكنه لم يتنبه إلى النظام العالمي والشمولي الجديد الذي تفوق على خصومه بعد الحرب الباردة بأن أصبح اكثر شمولية وأقل شفافية وكأن قدر البشرية أن تتجرع هذه الكؤوس المرة سواء كان الشعار المعلن عن السراء أو الضراء، أو عن الشيوعية ذات الأسوار الفولاذية أو عن الرأسمالية ذات الأنياب .
إن عدالة واشنطن مشكوك فيها جذرياً، ولا يمكن لأحد أن يقبل القاضي كغريم فهي طرف وليست حَكماً، لأنها تتبنى اطروحات الدولة الصهيونية من دون أي تنقيح خصوصاً حين يتعلق الأمر بأمن هذه الدولة وبوليصات التأمين السياسية لحمايتها من أي مكروه، حتى لو كانت سبباً يومياً ومتكرراً لكل ما يلحق بالطرف المُعتدى عليه من أذى .
ويخطئ العرب إذا تصوروا ذات يوم أن ما يقدم لهم في السلال الملغومة هو جزر أمريكي، لأن كل معونة مشروطة وكل عشاء مدفوع الثمن . لهذا انفردت الثقافة البرغماتية في أمريكا بابتكار المثل المعروف وهو ما من دعوة غداء مجانية .
مقابل العقاب الذي جرى تجديده عاماً آخر على دمشق وفق أدبيات التعاقد من طرف واحد التي أملتها وسوقتها ثقافة العولمة، يضاف إلى تل أبيب المزيد من الجزر، سواء كان مادياً يقاس بالدولار أو معنوياً يقاس بالفيتوهات وفيتامينات التسليح النووي .
وما كتبه امريكيون منهم من شغلوا مناصب حساسة كمستشار الأمن القومي الأسبق برجنسكي عن فقدان الولايات المتحدة لشروط القيادة بعد إضاعة العديد من الفرص يتضح الآن، فالقوة العمياء وحدها لا تقود، وإذا كانت قوة منزوعة العدالة والبعد الأخلاقي فهي عقب آخيل الذي يبدأ منه الانكسار وتسلل السم إلى الجسد كله .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى