صفحات الشعر

نيران صديقة

null
عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

نيران صديقة كأننا نخوض معركة دون أن نبرح السرير

سوف أستعيدك الليلة
كي تجلسي بجانبي على الأريكة التي تقادمت
و تخبريني لماذا زرعنا ورودا كثيرة في الليل
ثم استيقظنا على حقل شوك

هل كنا على خطإ حين أغمضنا عيوننا عن الذئاب
و جلسنا نطعم السناجب وصغار الحساسين؟
هل كنا واهمين حين عدونا باتجاه الشمس
و طفقنا ندس أقواس قزح في الجرار؟

كل شيء من حولنا صار يشبه غابة تحترق
و الأفكار التي آمنا بها
صارت ماء قديما في إناء
خبريني إذن لماذا تفحمت أحلامنا؟
لماذا صارت الابتسامة على شفاهنا ثقيلة و غير مستساغة؟
كأن عاصفة مرت من هذا المكان
كأن أحدا ما نصب الفخاخ لأقدامنا الرطبة
تؤلمني الفخاخ مثلما يؤلمني غيابك
أعرف انك ذهبت بعيدا
وربما ليس بمستطاعك الآن أن تعودي
لكن دعيني أخبرك شيئا
هذه الغرفة تحتاج إلى حنانك
هذا الشعر الذي خف و شاب قليلا يحتاج إلى يدك
يدك التي لا تشبهها يد
يدك التي لن أنساها، لأنها لم تكن لك
كانت يد قديسة.

أريد أن أرفع لك العزاء
لكني لا أجيد تلك الكلمات التي عادة ما يرتجلها البشر
في ساعة مؤلمة
أعزيك إذن في الدمى التي كانت ترقص بغرفتك
أعرف أنها ماتت بسبب الإهمال
و بسبب النوافذ التي ظلت مفتوحة في البرد
أعزيك أيضا في التوافذ
و في الستائر الوردية للنوافذ
في المكتب، و في أدراج المكتب
في الدولاب
و في المشجب الذي كان على مقربة من الدولاب
في الأباجور، و في المصباح الخافت للأباجور
في السرير
و في الطاولة الصغيرة التي كانت تحب السرير
الطاولة التي كان عليها ركام من شرائط الموسيقى
أعزيك في أغنية قديمة لفيروز لم يعد لها الآن مذاق.

بعد عشر سنوات من النسيان
لم يتغير شيء
أنت صرت زوجة في قفص
و أنا صرت كهلا بلا جدوى
لازلت كعادتي أشرب الشاي
و أكتب قصائد عن الحب
و عن رغبتي في أن يتغير طلاء الحجرة
لقد دسست أزهارا كثيرة بين الكتب و الأوراق
أعرف أنها لن تنمو
لكنها على الأقل ستطرد اليأس من قصائدي.

إنني أقف كشبح وسط الرتاج
أستلذ بما حولي
و بالأشياء التي لم يتح لي من قبل أن أراها
و حين يغمرني الضجر
أستحضر روح جدي وسط الخراب
و البرد و الصقيعو الجدران التي هدتها الصاعقة
و أصرخ بأعلى ضجري في الريف:
لست جدي
أنت جد الجدار، و جد الحظيرة
جد حقل يابس من القمح
جد الهضاب و التلال و الأهوار
لست حفيدك
أنا حفيد أفكاري
حفيد المرامد و الليل و الأرق
حفيد فزاعة تخاف من ظل طائر جبان
و حين تنتهي التميمة
و يختفي طيف جدي
أعد جرارا فارغة
و أجلس أرقب المدافن
أنتظر أن يصعد الذهب من الأرض.

إنني أهذي
لكن وعيي حاد مثل معول
و إذا ما بدوت لك أدنو من الجنون
فلآن يدا سوداء تدفعني من الخلف.

كأننا نخوض معركة
دون أن نبرح السرير
كأننا نقاتل ضد الأغراب
مع أن أطيافنا قد شلها الخدر
لماذا نحس بشيء لارغبة لنا فيه؟
لماذا نجد أنفسنا في ساحة لم نسر إليها يوما ما؟
لماذا ننام في غرفتنا ونستيقظ في غرف أخرى؟
نرتدي معاطف الوبر في عز الصيف
و نسير في طرقات نجهلها
و إذ نسير نتعثر بأفكارنا
ينبت العشب فوق عيوننا
و شيئا فشيئا تتحول أقدامنا إلى أخشاب

كنت أركض في الأجمات
مثل نمر يتعقب طريدة
و ها أنا اليوم أرشو الاشجار كي تخفيني
لست خائفا مما مضى
لكنني خائف مما سيأتي
أخاف أن أضع يدي في جيبي فتلسعني العقارب
أخاف أن أخطو باتجاه البهو فيصعقني الكهرباء
أخاف أن أفتح لك الباب فتداهمني دبابة
غصن شجرة السنديان يتخذ شكل البندقية
و العصافير التي تطير فوقنا
تشبه القنابل التي تسقط من السماء
لذلك فشعوري اليوم
هو شعور رجل يستسلم قبل المعركة
ربما لا ترين الأغلال في قدمي
لكن شفتيّ تتمتمان بلعنة لا نهاية لها
تعالي معي إذن لنجوس التل
و نلعن كل الذين أوقعونا في هذا الشراك.

كان أولى لنا أن تشبه قليلا بالملائكة
ألا ترين أن هؤلاء البشر لم يعودوا بشرا كما كانوا
صاروا مستنقعات كبيرة من الدماء
و أنت تعرفين اني أكره الدماء
لذلك فثيراني تشيخ في حظيرتها
لنجرب ازدراد الأعشاب ربما تصيبنا الرحمة
الحيوانات أليفة كما يبدو
و الإنسان هو الضاري
و يوما ما ستطول أنيابه
و ستنبت في يده المخالب الجارحة.

إنني أنام على سرير في غرفة عالية
و مع ذلك أحدس أن طوابير من الافاعي
ستصعد الأدراج و تلذغ كتبي
كم سيكون مؤلما لهؤلاء الشعراء المنتحرين
أن يموتوا أيضا بلذغة أفعى
و أؤلئك الذين علقت صورهم على مداخل الغرف
سينظرون إلي بعتاب
لأني تركت عصرهم وعشت في عصر بلا مذاق
لقد أطلنا التحديق في بعضنا حتى أصبنا بعمى الألوان
ألا يجدر بنا أن ننفض المكرو الأحقاد عن ثيابنا
و نكنس الغبار الذي تكدس في الحجرات؟

سيتغير العالم يوما ما
أعرف ذلك مثلما أعرفك
فقط ينبغي لهاته الحلازين التي تدب فوق مكتبنا
أن تخرج من قواقعها و تنمو لها الأجنحة
ينبغي لهؤلاء العميان
أن يتحسسوا طريقهم في الديجور القاسي
ينبغي لهاته الحشود الخرساء
أن تصطف يوما ما أمام التماثيل و تجرب الصراخ

هل قدر لهذا العالم
أن يكون على هذه الشاكلة؟
بعد عصور من الحجر و النحاس
بعد الروم و المايا
و أحفاد أمازيغ و آشور و جانكيس خان
بعد بابل و الفراعنة
بعد تاريخ مديد من الحروب و الأنبياء
بعد كل هذه الثورات و الانوار
ننتهي هكذا هجينين و حيارى
بأيد مرفوعة دائما إلى الهواء
و ألسنة ثقيلة عطلها الخدر؟

سنرفض هذا العالم
لأنه يرفضنا
وسنبقى غرباء إلى أن نموت
ليس لنا من خيار آخر
فالحمام الذي يطير من أيدينا
تصيبه دائما نيران صديقة
لم نعد نثق في الخشب
الأعمدة القديمة تتهاوى
النوافذ التي نفتحها بالنهار
يغلقها ظلام الليل
الأبواب ترتجف بلا سبب
و الكراسي هي الكراسي
الجدع الذي كان في الغابة
أصبح طاولة في البهو
و الذئاب التي كانت تتمسح به هناك
غيرت فروها و ظلت تتمسح به هنا

النيران تلتهب في داخلي
بينما الصقيع القاسي فحسب هو ما يحيط بي
هل قدري أن أموت أخرس كما عشت؟
و إذا ما صرخت
فهل سيملأ أنين بلبل جريح هذه المفازة؟

مثلما يلمح الراعي في غفوته
أميرة تستحم في النهر
ألمحك
رغم الضباب الكثيف بيننا
و أمد يدي إلى يدك رغم الجدار
و أقبلك حتى من دون ان أراك
عيناك هما عيناك
و ليس بمقدوري ان أصفهما
ربما لم تتغيري كثيرا
لكن شعرك صار طويلا مثل قصائدي.

رغم الأضواء التي ملأت عينيّ
لازلت حالما كما كنت
و قديما في كل شيء
و يوما ما
ستخبرك سنديانة في طريق القرية
أني كنت شبيهها
ربما لم أبرح مكاني كثيرا
لكني رأيت أكثر مما تطيق عيناي
و رغم قصر قامتي
و نظري الدائم إلى الأرض
فقد تنسمت مرارا عبير الحدائق العالية.

إنني قلق و مرتاب
و بسيط كورقة فارغة
أسند ظهري على الحائط
و أفكر في الحب
و في الجمال حين يقسو
أفكر في خزاف يتوهم أن الشوك طين
أفكر في امير نام في القصر و استيقظ في مغارة
أفكر في عازف القيثار
يغني طوال الليل لنافذة مغلقة
أفكر في امرأة ماتت بحجرتي
بينما لا تزال جثتها تتحرك في حجرات أخرى
إنني أمشي على الجسور و لا يهمني ان أصل
أترفق بالجرار التي تكسرت
و أحنو على العصافير المريضة
يمرق طيفك فجأة
فترتبك خطاي
و أرتجف من فرط البرد و الخذلان.
أينما تكونين يصلني صوتك
مثل أنين محارب خانه الدرع.

ليس وقتا للذكرى
أعيدي الصورة إلى الكتاب
أعيدي الكتاب إلى الخزانة
أعيدي الخزانة إلى النسيان
إنني بمفردي قافلة من الجمال
تختفي في جارور الغرفة
إنني المطر الغزير الذي يسقط في الصحراء
إنني بمفردي عائلة من البوم
تحفر مساكنها في جدران الآبار
وقطعان من الخراف الضالة بلا مرعى
ربما كان الدونكيشوت يحارب طواحين الهواء
أنا لم أعثر على هواء ضحل أحاربه
لذلك سأبدو لك مثل طابور طويل
من الشحاذين و العطلة
أو مثل جراء مريضة تنبح دون أن يسمع صوتها أحد.

ليس وقتا للذكرى
و إذا كان لي ان أتذكر شيئا
فإني سأستعيده برغبة رجل يريد أن ينسى
دعيني أعود إلى غرفتي
فهي أرحب من عالم لا لذة لي فيه
أرتاح فقط على هذا المقعد
قبالة مكتب رحيم
و صورة لشاعر ميت
أضع على الأوراق أحلامي
و كوابسي أيضا
أغلق الشباك الوحيد
حتى أحمي أوهامي من البرد
في غرفتي تصطدم أفكار الموتى بالجدران
و يعلو صوت الكمان على أصوات تأتي من الخارج
أحيانا تتسع غرفتي
حتى أن طريقا تتفتح فيها
و عربة تصل إليها بأحصنة بيضاء
ثم أراك تنزلين بوردة على الصدر
و فستان من القرن الذي مضى
و حين أشبك أصابعي بأصابعك
كي تترفق بك درجات السلم
أشبكها فقط بالخشب
و بسنوات لا ورد فيها.

دعيني أستعيد شكل نظارتيك
الإطار الإيطالي
و الزجاج الأزرق الخفيف
و التكايا البلاستيكية الصغيرة
التي كانت تجثو برفق على مقربة من عينيك
أستعيد أيضا لون الجينز
و أحصي أزراره
القمصان و ياقاتها الغريبة
الفانيلا البيضاء
و التنانير التي كان يتفتح فيها الورد
أحذيتك الواطئة و جواربك
جواربك في الشتاء
كانت أجمل من الشتاء
أستعيد أيضا حقيبة اليد
و ما كانت تحمله من أسرار:
المناديل الوردية و أحمر الشفاه
الكريم و طلاء الأظافر
الخاتم و الأقراط
زجاجة العطر بنكهة الفستق
إنني الآن أغمض عيني
كي تصلني رائحتها.

مثلما يرتعش الساتان الذي تركته هنا
ترتعش الكلمات في فمي
خبريني فقط هل ستعودين
فأنا و هذا الدولاب الهرم نشتاق إليك.

أجلس على الكرسي
قبالة مصباح خافت
فأراك فجأة على الرصيف الآخر
و ليس بيننا سوى سكة الحديد
و معبر أرضي
و عشر سنوات من القهوة المرة

كنت تجرين خلفك حقيبة الملابس
و كنت اجر خلفي ثابوتا من الذكريات
يمر القطار دون ان أسمع صريره
دون أن أراه
دون أن يحول بيني و بين الخراب
الذي يلمع في عينيك
أجد نفسي في قطار آخر
رفقة نساء يملأن الهواء بصراخ لا أسمعه
و يلوحن بأياد لا أراها
أقف لأضع أغراضي على رف الحديد
فأراك في مرآة المقصورة
و كي أبيد شبحك الذي يطاردني
لأختفي في معطفي
و أغرق نظري في رواية “النائمات الجميلات”
مشفقا على العجوز الذي صرت أشبهه
بعد اربع ساعات ينتهي الكتاب
يتوقف القطار في محطته الأخيرة
بينما- نازلا من العربة – أواصل السير بمفردي في مروجك
أعبر الهضبة الرؤوم
أحيي ما تبقى من المداشر
أصافح فزاعة في الحقل
أسأل النهر عن مياه هاجرت
و أعزي الغابة في الأشجار الميتة
أرفع قبضة المزلاج
أفتح الباب و أتألم:
هجرت البيت
بينما لا يزال ظلك على الكنبة
بصماتك على الكأس
آثار أقدامك على البلاط
و الريشة الوحيدة في المزهرية
لازالت تحركها أنفاسك.

لست الرجل الذي ترينه في هذه الصورة
و لست الرجل الذي يرى نفسه في المرآة
أنا صياد من القرن الماضي
ولد في قرية صغيرة بروسيا
عاش وحيدا برفقة الثلج
أفنى عمره في ترويض الدببة
و مات منذ زمان هناك.

زهرة غاردينيا يدوسها جندي معتوه

إلى أين أمضي ؟
الشمس التي كانت تشرق في سمائي سقطت
و البوصلات التي في يدي أصابها العطب
عما قريب
سيغدو العالم غرفة مظلمة
و أنا لا أزال واقفا هنا
كعربة منسية في المرج
أتحسس ما سيأتي
و أحضن الظلام بعطف العميان
تحت هذه السماء الصغيرة
كنت أروض الشقاء
أخبئ الفرح في الجرار
و أرعى في ضيعتي أفكارا هاربة
كنت أجلس على كرسي من خشب قديم
مرتديا منامتي البالية
و في يدي حزمة أوراق
أنظر إلى القمر
أنظر أيضا إلى الكواكب الأخرى
أهرش رأسي قليلا
و أفكر في تغيير العالم
تماما مثل المجانين الكبار.
تبا
لقد تشقق سقف الخشب
و تسربت المياه إلى بيتي
تجمدت العصافير في أقفاصها
و الكلمات شاخت فوق الرفوف
الفراشات التي حامت حول سريري ماتت
و هواء الحجرة قد انتحر.
إلى أين أمضي ؟
الظلام يرقص في حفلة بلا قناع
و الخوف يتسلق أعضائي
كما لو أني جالس
في حديقة تبتلع مقاعدها
شعري غابة أفكار

عيناي ثلاثون عاما من القلق
و أنفي مغارتان باتجاه صخب قديم
شفتاي مطبقتان كمحارة في جوف صخرة
صدري ترن فيه الأضلاع
كقضبان صدئة يتمسك بها قلبي المعتقل
ظهري مسند إلى الماضي
كحائط بلا ساعة
ركبتاي كومتان
من الحجر الرملي الخشن
و يداي أجنحة طائر أفلت للتو من المصيدة
الشلل الرعاش
يشد أطرافي إلى حياة تحتضر
و إلى سلالم لم يعد بوسعي
الوصول إلى نهايتها.
إلى أين أمضي ؟
الكلاب في وطني تخنق الهواء بنباحها
و الطرائد تسقط في أول رحلة صيد
البؤس يعدو أمامي على الرصيف
و الخسة تحدق في من الشرفات
الأشرار هنا يسوقون عربات الورد
و الشياطين يلقنون دروس الإيمان.
أنت مريض يا وطني
سعالك أسمعه من بعيد
كنهاية رجل خدعته الحرب
عيناك غارتا من طول الانتظار
و قدماك تورمتا
من المشي في طرقات غير سالكة
أنا أضعف منك يا وطني
فلا تتكئ علي طويلا
كما لو أني عكازتك الوحيدة
لم ترأف بي حين قست الأيام
و لم تعلمني درسا واحدا في العناية
فكيف أجلس قرب سريرك الرث
أرتب باقات الزهور
و أحزم رأسك بالمناديل
متوهما أنني أخفف عنك الحمى ؟
إلى أين أمضي ؟
ذئاب العالم أشد ضراوة
أشد فتكا بالحملان

و أنا أعزل
لا سيف في يدي و لا رصاص
أملك فقط ترسانة أحاسيس
و حصنا عاليا من الكلمات.
ستجني علي هذه النظرة الجامدة
هذا الوعي الحاد بالأشياء
هو الذي سيميتني
و هاته الكلمات المتراصة على الأوراق
أخاف يوما ما أن تدفعني إلى الهاوية.
لماذا تغيرت الألوان في عيني ؟
لماذا صرت أنظر إلى الحياة
كأني أسير حرب ؟
لست المحارب الوحيد
فوق هذه الأرض
أنا فقط لاعب أدوار:
مهرج صغير في حجرة ضيقة
عازف كمان مصاب بالرعاش
مجرد كومبارس في فرقة لا يعرفها أحد
مؤذن في صومعة مهجورة
راو ينسى الحكايات
حارس غابة يهزمه النوم
مروض للثعابين الميتة
دليل أعمى لقافلة تجوب الصحراء
زارع النرجس في الرمال
بائع للكلمات بأثمنة متهاودة
مربي أطفال ودعوا الشمس باكرا
و أيقنوا أنها لن تعود في الغد
أنا فقط مقامر خاسر
تداخلت الأوراق في يدي
و خذلني النرد
أفكاري تغير تنانيرها
كلما أشرقت عليها الشمس
و رهاناتي دائما غامضة
أعيش حياتي
و أستعير حياة أخرى من سواي
أزرع الحب بدل الريح
لكنني دائما أحصد العاصفة
أخال نفسي رجلا من حديد
أتحسس جسدي
فأكتشف أني رجل ثلج.

أريد أن أصرخ عاليا مثل السوبرانو:
العالم تافه و حقير
العالم نذل و جبان
و أنت أيتها الحياة الصابئة
ماذا فعلت بك حتى ترديني هكذا ؟
كنت نائمة فأيقظتك
داعبتك قليلا
أوقفتك أمام المرآة
مشطت شعرك الأشقر
ألبستك التنورة الزرقاء
أخرجتك من غرفة النوم
و أجلستك على أريكة في الحديقة
رتبت السرير
شمست الشراشف و الملاءات
فرشت منديلا تحت شجر السنديان
و جلسنا نقضم الفطائر و نشرب الشاي
و كطفل أحب للمرة الأولى
حكيت لك كل الحكايا
أغرقتك في شلال من الرومانس
و حاصرتك بكلمات جبران القديمة
أهديتك مزهرية النرجس
و شال الحرير
و رفا من روايات الحب
كنت تبتسمين لي و أنا أهذي
و حين أغمضت عيني
مقتربا كعاشق قديم من وجهك
فتحتهما على الخذلان
اختفيت بعيدا عن رهافتي
مثلما يختفي السمان في أدغال القصب
لم تتركي في يدي سوى بقايا النرجس
و خدر موجع يربك الحواس
ماذا فعلت بك حتى ترديني هكذا ؟
هل كان علي أن أصرخ في وجهك
و ألطخ فستانك بالوحل ؟
هل كان علي أن أشدك من شعرك كالمجنون
و أجرجرك خلفي في الغدران ؟
إلى أين أمضي ؟
و ماذا أفعل في أرض
تكافئ شتائي بالجفاف ؟
لا شيء
غير أني سأواصل تغريدي كالعادة
حاملا قناديلي المطفأة في ليل لا ينتهي

و بقليل من الضوء الذي يلمع في عيني
سأخترق الظلام
و حين يستبد بي التعب
و تنتهي حربي
مع طواحين الماء و النار و الهواء
سأجلس و حيدا
مثل قائد روماني غرير
في قصر لم يعد فيه سوى صرير الدروع
و صخب التماثيل
و عرش قديم يعتليه الزنجار
أتكئ على خوذتي
أترك صدري عاريا
و أعلق قميصي على الأطلال
ربما تجففه الشمس من الخطايا
أضع قدما على قدم
و أملأ الخراب من حولي بالصفير
و بابتسامة باردة
سأنظر إليك أيتها الحياة
مثلما ينظر طفل إلى زهرة غاردينيا
يدوسها جندي معتوه
حتما ستلوحين لي يوما ما
و يضيع صوتك في المناداة
غير أني سأدير لك ظهري
و أواصل تغريدي كالعادة
حتى لو كانت ألحاني مؤلمة
فسأغرد للأبد
مثل طائر خذلته أنثاه.

مثل فتاة فقدت حبيبها في الحرب

أنت ألف دال
الأميرة النائمة التي استيقظت
جدلت أكاليل الورد
و أخرجت الحب من قبعات السحرة
أصبحت حفيدة لطاغور
و ضفيرة في شعر فروغ فرخزاد
صرت فستانا شفافا في غرفة إيتيل عدنان
هجرت الوهدة التي نشأت فيها
أغمضت عينيك عن الزنابق و أشجار الميموزا
تركت طائرك وحيدا
أنت العصفورة المهاجرة،
جست جبال الأطلس بالليل و النهار
جلست في حلقات الرواة
وضعت خديك على الركبتين
كفتاة وحيدة في كتاتيب القرآن،
تقوس ظهرك و أنت تجلسين على هذا الكرسي
كأرضة تلتهم الكتب
غيرت تسريحة شعرك و تخليت عن هماليلك القديمة
حشوت جسدك بأشعار المجانين
و أمضيت الليالي كبومة قرب الأباجور
بكتاب في اليد و عيون مفتوحة
وضعت يدك في كل هذا العناء
لأنك تعشقين كلماتي
و تعرفين أني محض سمكة
تموت خارج هاته الكلمات.

عيناك رواية من عشرة فصول
جسدك شبح امرأة
و شعرك الذي كان ينام وديعا في يدي
صار يصحو كئيبا في الليل
مثل فتاة فقدت حبيبها في الحرب.
أتذكرين الصيف القديم؟
أتذكرين الحياة التي كانت؟
كم ناديتك بالأسماء التي أحب
كم ناديتني باسمي
واتكأت على جدار في السطح
تراقبين سقوط النجوم من السماء
و تغنين لي أغنية نجاة الصغيرة:
“تعود شعري الطويل عليك”
أمازال شعرك طويلا؟
أمازالت يداك تعرقان من الخجل؟
أمازال المذياع قريبا من السرير كالعادة؟
و المشط الأزرق و المزهرية الزرقاء؟
كما لو أن أيام الحب الطويلة
كانت مجرد أحلام
جدفنا طويلا في قارب لم يوصلنا إلى شاطئ أو جزيرة
كنا نبحث عن الحياة كمن يبحث موقنا في الصحراء عن طائر الذهب
وما وصلنا إليه كان الموت في جثة تتحرك.
من أجلك سمعت تلا عاليا من شرائط الموسيقى
و قرأت غرفة من الروايات
و الآن تعبت و أريد أن أسمع صوت الأنين في أحشائي
أليست عشر سنوات من الحب كعشرة قرون من الحياة؟

كان علي أن أنام و لا أستيقظ
كان علي أن أصل أرضا أخرى لا يصلها طيفك
رائحة الحب تأتي من الباب و النافذة
أتحسسها على الوسادة التي بجانبي
ألمحها على مائدة الطعام
رائحة الحب تجثم على رف الكتب
تتدلى أحيانا من مصباح السقف
دموعك تسقط من كتاب الذكريات في الغرفة
كنت ميتا في قريتي مؤمنا بموتي
دموعك هي التي جعلتني أورق في تلك المدينة
كشجرة سنط كان من المفروض أن تكون نخلة
لقد قاومت العواصف في صباي
و الآن أتعبتني العصافير التي تجلس على أغصاني.

أفكر في الذهاب إليك
الممرات الضيقة التي تفضي إلى بيتك تعرفني
يعرفني دكان الفرقة النحاسية بعازفيه الودعاء
يعرفني السور القديم للمدينة القديمة
صفائح الزليج تعرف وقع أقدامي
وباب الخشب يحفظ شكل البصمات
سوف ترتج الأدراج
و ترتعش الستائر الزرقاء في البهو
و تتقارع الكؤوس على الطاولة
سوف تصطك الأواني في خزانة المطبخ
ويسقط ألبوم الصور من دولاب غرفتك
وترتجف الوسائد و التكايا
حين يخبرك طائر في قفص أني وصلت.

أحببتك بالأبيض و الأسود لأنك عاشقة قديمة
تحدق من شرفة بيتها في أشجار السرو
و هي تتهامس عند الغروب
ترعى الأزهار والذكريات
تطوي الحب بعناية في الخزانة
وتعلق صور نجاة على الجدران
أحببت الشاي من يديك و أحببت يديك
أحببت تنانيرك و أحذيتك المرهفة
و حقيبة الأساور و قمصان الجينز
أحببت ظلك و العطر الذي يسبقه
أحببت نظرتك الواثقة و نظرتك المرتابة أيضا
لقد حفرت في جدار الغرفة و دفنت كل شيء هناك
نسيت كل شيء
لكن ذاكرتي العنيدة لازالت كدرج يحفظ كل الصور.

منذ عامين لم أسمع شرائط نجاة
و لم أجلس رفقتها في سهرة
كأني أراها الآن على الشاشة بفستانها الأصفر
تتهادى أمام المايكروفون كوردة في حديقة
أصابع عازف عجوز تترنح خفيفة على القانون
أصابع ناعمة لفتاة في مقتبل الموسيقى
تسحب خلفها سحر البيانو
بكاء الناي يبلل شالات الساهرين
من القيثارة و العيدان و الكمانات
تتطاير الألحان في الصالة كفراشات أبريل
و بأغنية حب قديمة
تهز نجاة الصغيرة الحواس و الكراسي و الجدران
فيما أنا أقطّع قمصاني
و أصرخ بأعلى صوتي: أحبك.

منذ عامين
لم أحمل الساعة التي أهديتني
لم ألبس قمصاني الزرقاء
غيرت المقاهي و الحدائق التي كنا نرتادها
أشعلت النار في سبع و ثمانين رسالة
منذ عامين لم تطأ قدمي شارع “الياقوت”
في الصيف أختبئ بين الكتب و الأوراق
حتى لا تطاردني جثة الحب
و في الشتاء
حين أضع رأسي على الوسادة
تخرج صورتك من الألبوم و تقف أمامي
أخرج من غرفتي
و أسير تحت المطر بلا مظلة
هذا ما يصنعه الماضي برجل لا حاضر له.

ماذا تفعل
حين تلهج امرأة باسمك في الليل
على مقربة من زوجها؟
ماذا تفعل بدموع تسقط في يديك
من عيون كانت تضيء طريقك إليها؟
ماذا تفعل بندم فاته القطار؟
تتشبثين بي
بجناح طائر منهك
بعد ماذا؟!
رجاء أطفئي المصابيح التي لازالت تضيء بداخلك
أنزلي الستائر و أحكمي إغلاق النافذة
لقد أفرغنا المنفضة من أعقاب الحب.

كانت ليلة لم تنته
حين جلسنا على عتبة البيت
نتجاذب أطراف الأيام التي مرت
و نتوادع بألم
كنت أربت على شعرك الأشقر
أجفف دموعك التي أغرقتني في حسرة لا طائل منها
و أحيط جيدك بذراعي تحت أنظار العائلة
ناسيا تماما أنك لم تعودي لي
و أن رجلا آخر في انتظارك
ماذا ينتظر رجل من امرأة
لم تكن يوما ما تنتظره؟
ماذا ينتظر رجل
من امرأة وضعت قدمها في زورق آخر
و أبحرت إلى قلب رجل سواه؟

كان أولى لك أن ترتدي معطف الشتاء
وتختفي في جبال الألب
أو ترتدي منامتك البيضاء
و تغرقي في الأنهار التي تتاخم أدغال الجنوب
كان أولى لك أن تختاري قارة أخرى أو كوكبا آخر
وتتركيني هنا أداري وجودي القاسي
كرجل داسه القطار و لم يمت
سأدفن الحب في مقبرة
و أحمل إليه الأزهار كل يوم
و أقرأ عليه سور الموتى
لكني أخاف أن يبعث من جديد
ماذا سأفعل حين يعودني الحب
ينتشي بغليونه على كرسي رجراج
يصلبني على الجدار
و يحاسبني على الماضي بقسوة
يحاسبني على جنون لا يد لي فيه؟

أعرف أني السبب
في استيقاظك مرعوبة بالليل
أعرف أني السبب في صراخك المريب كفتاة جنت
الهالة السوداء أسفل عينيك أنا سببها
ذبول الوجنتين و نحافة الجسد
و الشعر الذي لم تمشطيه منذ عام و نصف.
لكن ما ذنبي؟
لم أكن أعرف أن عينا بنظرتها
قد تسحب عينا أخرى إلى كل هذا الجحيم.

كنت أريد أن أحيا معك ليلتين فوق الألف
وأرى معك ما رآه أسلافنا في عصور الذهب
كنت أريد أن أسحبك معي
إلى غيطان و حدائق لم يصلها من قبلنا أحد
و الآن أريد أن أسحب نفسي إلى عزلتها
و أركن إلى طاولة قرب جدار بعيد
أحتسي كؤوس الشاي بصمت
و أتعقب سربا من الطيور
يغيب باتجاه الشفق
تاركا عصفورة السنونو بمفردها
ترتجف من البرد في أعلى الشجرة.

مدفع قديم و طائرة من ورق

ذئب

على مقربة من المدشر القديم
أمسك بمحراث الخشب، يصطف البجع على حدود الضيعة و تتناوش الديكة قرب أشجار الصبار، أضع يدي في الكيس و أطوح بهما في الهواء لأزرع حبات القمح في الأخاديد الصغيرة و حين ينال مني التعب أخرج منديلك الأزرق، أجفف جبيني من العرق و الذكريات، أغمض عيني و ألتفت إلى الماضي، إلى البئر والبيدر، إلى البستان و مشاع القرية، أشجار الزيتون كانت ترشح بالمطر، كنت تجلسين على الأكمة، تلاحقينني بنظراتك الباردة و أنا أمسك بمحراث الخشب على مقربة من المدشر القديم، ترتبين سلة الشاي و تقرئين حياتي مبعثرة خلف سطور من “ذئب البوادي ”

ذئب البوادي، رواية لهرمان هيسه

مرج

أحيانا أفكر في كتابة قصيدة طويلة في مديح العتاهة، و أحيانا أسترد وعيي فأكتب عن زنابق الوادي. أحيانا أحس أنني أشبه حكيما في جلسة يوغا، و في أحايين كثيرة أحس أنني شبيه تماما بفردة حذاء خارج الطريق، لم يعد يهمني أن أكون شرسا أو وديعا، لم يعد يهمني أن أكون راعي فراشات أو سائسا للغربان، أنا عازم على الإطاحة بهاته الجبال في ليلة حالكة، الجبال التي تحاصر الطوفان في عيوني.
إنني أبحر في اتجاه صعب، و بدون بوصلة، و كلما وصلت جزيرة مجهولة، أو صحراء لم يصلها أحد من قبل جلست القرفصاء على كثبانها أستعيد هول المفازات و أنظر إلى سرب العقبان بعينين أتعبهما الصبر.
سأعبر من فج وعر باحثا عن مرج الوردة السوداء، تاركا خلفي كل هذا الضوء، أريد الظلام، أريد أن أنزل إلى قعره العميق، فقط لأرى ظلي ممددا هناك كأي خطأ مر، أريد أيضا أن أقتلع الوردة السوداء من البستان العاتي، سأمضغها بأضراس مستعارة، ربما تذيب مرارتها مرارتي.
و في الليلة الحالكة سأحتفل بعيد وفاتك أيها اليأس، أيها الذئب الأسود الرابض على قلبي منذ سنين، لن أسمح لك أن تعوي بعد الليلة في أرجائي، عيوني ستغدو أكثر حكمة و طيشا في الآن ذاته، كلماتي ستتأرجح بين الوداعة والشراسة، و في دمي سيسقط ضحايا حرب مريبة بين القسوة و الحنان، سأظل هكذا مزدوجا و غريب الأطوار كمصباح تحت الشمس، في الصباح ألعن الشياطين و البلداء، و في الليل أحمل كيسا كبيرا و أوزع الرأفات على المساكين.

ثلج

أخيرا وصل الشتاء، الريح تعزف موزارت، و حبات البرد ترقص بخفة على السطح، أشجار السرو ذات السيقان الطويلة تنفض عنها الثلج، تشبك أغصانها بأغصان الصفصاف و تتهادى كراقصات الباليه برشاقة بالغة، سماء ديسمبر آهلة بالسحب الدكناء، لذلك سأسحب القمر إلى الغرفة و أضعه فوق الدولاب كي يضيء حفلتي فقط. الليلة سأنتشي بسقوط المطر كالماتادور في حلبة الكوريدا. كعادتي لملمت الحطب البارد من غابة الأرز و بالكاد أشعلت النار في المدفأة، علقت المصابيح على شجرة العيد، علقت أيضا أجراس النحاس و الشرائط الملونة. رغم وحدتي فتحت الكظيمة و أفرغت الحليب الساخن في أكثر من كأس، نضدت صحون الحلوى، وضعت الأزهار في الوسط، وضعت الشموع الحمراء في أطراف الطاولة، ارتديت معطفي و اتكأت على الكرسي الرجراج أرتب أحلامي، أراقب بندول الساعة و أنتظر.. لكن رجل الثلج لم يمر، لم أسمع صرير عربته كالعادة، أوه، رجل الثلج، لم يطرق النافذة، ولم يهبني نصيبي من الهدايا.

أزهار

سعد

ربما أخطأ جمال بدومة حين سماك جنرالا، أنت حارس طيب لبساتين الكرز. تعال يا صديقي نلقن الأشواك درسا في الرقة، نعود الصحراء على الرهافة و نشرح للمستنقعات كيف يكون الجمال. صعب يا عزيزي أن تزهر وردة في قمامة، لو نثرت قصائدك الأنيقة في سماء طوكيو لاستيقظ باشو من قبره و ربت على كتفيك بجذل: مرحى سرحان.. مرحى حفيدي.

مصطفى

المرأة ” صاد ” و ” أمطار يوليوز ” و ليالي القلعة وآلاف اللفائف و الثرثرات في مقهى لاكورنيش. تبا لأربعين قصيدة كتبت من أجل امرأة واحدة . تبا لامرأة تطرق بابك.. تداهمك بالعطر ، تملأ الغرفة بالويستريا و الياسمين ، ثم تمضي بلا وداع ، تتركك وحيدا و ” تعلق عنوانها في الريح “.

خالد

تركت المسرح و السيميائيات، تركت الحساسين تغرد وحدها على شجرة الميموزا، تركت وردتك اليتيمة تذبل على مكتبي و انصرفت.لا أعرف كيف أسقطت من يدك باقة المارغريت و حملت مقصا صدئا و اتجهت إلى الجنوب.. لطالما واعدتك بالمجيء ، لكنني مثل السنونو لا يني يعقد الحب مع الشرفات حتى إذا ما حل الخريف لملم ريشاته و رحل .

أبوبكر

كلما جلست في غرفتك الخالية من النور أحسست أن الحياة تشتد من حولك تماما كالعاصفة و ترجرج قاربك الغارق في الماء. أرجوك يا صديقي لا تغلق النوافذ هذه المرة و تنزوي في حجرتك الموحشة تتحسس دموعا تنحدر من الماضي و تنتظر ما يسقط على أكتافك من بقايا السقف. أعرف أن جسدك عنيد لذلك كن خرافيا أكثر، سر بقوة ضاربا برجليك في الأرض كي تصدم ما تبقى في حياتك من شقاء.

إبراهيم

الغرفة الباردة، و صورة سركون بولص على الجدار، حفيد آشور المتسكع في أمريكا، لم يكن يعرف أنك تفتح الحياة قرب الأكروبول كل مساء، تنزل إليها خفية، تغلق دفتيها و تنام هناك.العزيز إبراهيم، رجاء إذا التقيت بالماغوط تائها في المدينة فدله على بيتي.صدقني يوما ما ستصل مرام من باريس لتلقاك في مقهى الرياض، مرام التي حشرت الأخلاق في الدرج و عصبت عيون ملائكتها من أجل قبلة، مرام التي خدع رجل القش عصافيرها.

زينب

قطيفتك الصفراء و قميصك الأشقر و عيناك الذاهلتان دائما و شعرك المائل قليلا إلى اليسار، كنت في الخلف، في الخلف تماما و أنت تداعبين المايكروفون برقتك المعتادة، كلما سمعت اسمك تذكرت إيمان مرسال و لينا و هدى و الأخريات.. وصيفات الجمال يقفن على الرصيف برشاقة يحملن سلال القصب و يرمين السابلة بالرياحين.

سوغانو

أنا نؤوم و ذو همة خاملة، لكني سألتقيك يوما ما في قطار ما باليابان، سأجلس هادئا في المقصورة و أرهف حواسي لألمح طائر البكاسين يرتفع خارجا من قصيدة شيكو ولأسمع الأجراس تهز معبد أساكوسا وراء ضباب زهور الكرز.

عثمان

كم تدحرجت من الجبل إلى تيار الماء بقلب فارغ من الإيمان، جرجرني ذلك النهر طويلا إلا أنك كالعادة كنت في انتظاري على الضفاف، أمسكت بيدي و سحبتني إليك قبل أن يسحبني المنحدر. لازالت صورتك معلقة على الجدار في غرفة السطح بحي الصفاء، وكلما فتحت باب الغرفة و فتحت معه باب الذكريات صارت ابتسامتك أكثر شساعة. كيف نموت هادئا وسط التماسيح و المياه الآسنة يا زهر النيلوفر ؟

لن تأتي

اشتقت إليك يا أبي إلى جلبابك الأبيض القصير وغرائبك التي لا تنتهي، إلى رشفة من كأس شايك الجامد على مقربة من الكير، إلى الكير وشظاياه التي كانت تسقط في عيني حين كنت أجلس أمامك أدير لك الرحى، فيما كنت تدير ظهرك لسنوات الفاقة حالما كعادتك بأيام يبدو أنها لن تأتي.

مطلك
إلى مروة وسارة بالضرورة

– ح-

إنها تتساقط تباعا الكلمات التي حرصت على حياكتها من الخشب وتعليقها ببالغ الحذر أعلى الباب

– س-

الغرفة التي كنت تحيا فيها أضحت ميتة الجدران تنتحب و الشمعدان ذو القد الفارع انحنى و مزهرية الطين انزوت في ركن من الغرفة وجلست تتألم وحيدة من أجلك

– ن-

إنني أقف على العتبة تاركا الباب مواربا و رافضا أن أدخل، أطل على ظلالك متوجسا من ظلي و أسأل نفسي سؤال أندريه شديد: بم تفيد الكلمات في مواجهة من يموت؟

-م-

القناصون الذين كنت طريدتهم لم يكونوا حمقى، كانوا فقط يخرجون ملاكا صغيرا من الجحيم، ربما كانوا عميانا فحسب، لذلك رموك، بدل الورد، بالرصاص.

– ط-

لازالت أمك في قبرها تقف على مقربة من النافذة تواري جثت الذكريات، و تسأل عنك الموتى الجدد: هل صادفتم طفلا من شمال العراق كان يدس لعبه في قبو الجيران يجر خلفه مدفعا قديما ويسقط طائرته التي من ورق ثم يكنس ساحة الحرب ويجلس خلف سور البيت يكتب الروايات؟
-لك-
لقد كانوا آلهة في صروحهم يا حسن مطلك فلماذا صاروا كالجرذان؟

لا محالة

في زحمة الفصول لم أنتبه إلى خطاي فوضعت قدمي باكرا في الخريف، لم تجن علي الجسور التي عبرتها ربما جنى علي هوسي بالغابة…
في وضح النهار و بعيون غير مغمضة رأيتني أكبر في أحلامي، قامتي غارت في السحاب و بخطوة واحدة عبرت أكثر من نهر، راوغت غيمة داهمتني، أومأت للشمس فسقطت، دسست أشجارا في جيبي فاخضرت يداي، و حين أيقظني رذاذ النهر من أحلامي رأيتني أنحدر من الخرافة، تضاءلت حتى أن أقدام النمل كانت تدوسني بلا رحمة.
لقد وضعت يدي في فوهة بركان و جلست أنتظر رجة الأرض.
سأنزل الشراع عن الصواري و أوقف حفلة الرقص، فهاته السفينة ستغرق بي لا محالة، أنا الربان الأعمى استعجلت اليابسة فاصطدمت بما يكفي من جبال الجليد، سأنتظر الموت هنا بهدوء فلا داعي للعاصفة. حين تخترق المياه شقوق الخشب و تسحبني الأمواج إلى غضبها ماذا سأفعل بالأسطرلاب و البوصلة؟ ماذا سأفعل بالخرائط و صناديق الذهب؟
هاوية
لا ترتابي
القارب الذي يرتجف بنا اليوم في النهر سيوصلنا غدا إلى حيث نشاء، و الأشجار التي تجاسرت علينا في الماضي ستحني أغصانها حين نرتاد البستان، الشمس التي حرقت أقدامنا و نحن نجتاز الصحراء ستغدو مجرد تذكار من خشب نعلقه ببالغ الحرص أعلى الباب.
صدقيني
يوما ما سنصل الأرض التي جسناها خلسة في أحلام النهار، و سنلملم نصيبنا من دفائن الذهب. لا تفزعي، لم يعد هناك أسد في الغابة، القردة فقط تتقافز بين الأشجار، الضباع ستعود إلى جحورها لأنها مجرد ضباع، و التنين الذي يرهبنا ستلتهمه النار التي تخرج من فمه.
لا تيأسي
بجسدك النحيف راوغي الألم، و بكعبك العالي اسحقي القلق الذي ينط في الحجرة. دعي العالم، لا تحدقي في جسده المقرف، لا تأبهي لشعره المنفوش و أسماله المرقعة. دعي هذا العالم الشائه المنبوذ، دعيه يقيم في نزل المجانين و تعالي نصفف شعر الأرض فقد بعثرته الأمطار.
أخبريني
من هؤلاء الذين أطالوا النظر إلينا؟ عابرو سبيل أم قطاع طرق؟ بشر مثلنا أم سدنة معبد في الجحيم؟ الربيع يطرق النوافذ و الأبواب، فلماذا حملوا النار في أيديهم بدل الزهور؟! يجدر بك ألا تلتفتي لأحد. أمسكي بيدي و خذيني إلى قريتي القديمة، أجلسيني هناك قريبا من طفولتي و قريبا من كوخ جدي المنهار، أغمضي عينيك و دعينا نسمع حفيف الأوكالبتوس فقد أضجرني صخب الحياة.
طاوعيني
سأصنع لك أقراطا من الكرز و إكليلا من شقائق النعمان و فستانا من أوراق الشجر. رجاء قفي على هاته الرابية و دعي شعرك يتهادى في الريح، أريد أن أراك يا حفيدة البوادي مثل نساء الأساطير.
صدقيني
لن نعمر طويلا مثل أشجار الأورانوس، فلا تتركي الوقت يتسرب من أقفاصنا. تعالي نتشمس في حدائق الماضي، فمن يدري ما الذي سيحل بنا غدا، ربما يصل التتار بخوذاتهم إلى ضيعاتنا، ربما يجرفون التلال و الأشجار و ينهبون ذخيرتنا من الذرة، ربما يشعلون النار في الأكواخ و البيادر و البساتين و في أحلامنا..من يدري؟ ربما تثقل الأرض بما ارتكبناه من خطايا فتنزل بنا يوما ما إلى الهاوية.

كالعادة
هل كنت تلبسين فستانك الأبيض الشفاف أم أن أطرافك كانت مغطاة بالثلج؟
لقد كان الضباب كثيفا لذلك لم أرك جيدا و أنت تعبرين كالبرق في حلم البارحة.

صوت الكناري في القفص يحدس أنك قادمة من الصحراء، منذ أزيد من فصل و أنا أنتظر، رجاء لا تتأخري فمن فرط الحرارة قد يجف الحب في قلبك.

البطاقة التي أهديتني علقت أزهارها الجامدة على زجاج نافذتي، ربما حين أفتحها أشم نسيما آخر
غير الذي يسري في الهواء.

كان القمر مكتملا تلك الليلة و كان ضوؤه يحيلك شيئا فشيئا إلى ما يشبه الخرافة حتى أني لم أعد أرى وجهك، بل صرت أرى وجه سلمى كرامة و هي تجلس على أريكة في رواية جبران .
لست وسيما بما يكفي، لذلك سأفعل مثل طائر الكوراي ألملم أعواد القش و بقايا الأزهار أرتب أوراق الشجر أدحرج الحصى من الوادي و أسحب القواقع من البحر إلى الغابة، أبحث عن ديكورات تليق بعصفورة كي أصنع لك عشا صغيرا و دافئا ربما يرجرج أحاسيسك الراكدة.

املئي الأصيص بالماء، رتبي أزهار الفل في سلة القصب، دعي شعرك هائما في الغرفة، شغلي شرائط الموسيقى اتركيها تتسلق الهواء كاللبلاب، أزيحي الستائر و أدخلي الشمس إلى الحجرة، افعلي ذلك من صباح لصباح ليس من أجلي أنا بل من أجل الوردة التي زرعناها معا في لوحة الجدار.

أجلس في الشرفة أشرب الشاي ، اقرأ قصائد “ماريتشي كو” في نزوى ،أقرأ الرسائل التي وصلتني من سعد سرحان، أرتب الكتب في الخزانة، أمسح الطاولة من غبار بالكاد سقط، أغمر هواء الغرفة بعطر فرنسي و أصفف شعري أمام المرآة، أعرف أنك حين تطرقين الباب سترتعش وردة في أصيص النافذة.

أفتح ألبوم الصور، أفتح مسودة قصائدي، أفتح كتاب الذكريات، أفتح الباب أفتح شبابيك الغرفة، أفتح قلبي و أنتظر و أنت كالعادة لا تصلين.

ندم
ربما حبك كان له مذاق الفاكهة لكن غيابك فجأة و الهول الذي يليه كان مؤلما مثل غروب في قرية، مثل قرية بلا أشجار، مثل شجرة خارج الغابة ، مثل غابة هجرها العاشقان، مثل عاشقين خذلهما الوقت، مثل وقت معطل في جدار، مثل جدار كان في قصر ثم صار متكأ في الخراب لامرأة عجوز، مثل امرأة عجوز تحلم بالجار العازب، مثل عازب في الخمسين يقتله الندم
مثل الندم
مثل الندم
جهات الشعر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى