ذاكرة الصفحاتياسين الحاج صالح

من ذاكرة الصفحات: الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي إعادة رسمها؟

null
ياسين الحاج صالح
قد ينفرد الأستاذ محمد كامل الخطيب عن غيره من المثقفين السوريين بشدة قلقه وتشاؤمه. وقد ينفرد كتابه “وردة أم قنبلة: إعادة تكوين سورية” ، الذي صدر مطلع العام الحالي بمستوى متقدم من التشاؤم قياسا إلى ما تبدى في كتب سابقة له. الرجل قلق في كتابه هذا من احتمال انسياق بلاده إلى الاحتراب الأهلي والتقسيم على أساس طائفي (ص 91)، ويرى أن هذين الاحتمالين يترتبان على “خيار الدولة الدينية أو مشروعها”، الخيار الذي يعتقد أنه واحد من خيارين تقف سوريا أمامهما.

يتراءى للكاتب “أن سوريا، ومعها مناطق وبلدان كثيرة على أبواب إعادة تكوين”، ويتساءل عما إذا كانت “إعادة التكوين هذه ستجري على أساس عقلاني، علماني، ديمقراطي، مدني، أي على أساس تعاقد وطني اجتماعي متساو للبشر، كبشر يستطيعون اختيار هوياتهم ودولهم، أو أن تتم إعادة التكوين على أساس إلهي، ديني– طائفي” (ص 91-92). ليسوا قلة من يشاركون الأستاذ الخطيب هذا الطرح المغلق والإيديولوجي والمضارب للخيارات على السوريين، لكن قد يكون هو أول وأصرح من يرتب على تقدم الخيار الثاني إعادة رسم خريطة سوريا: “ووقتها”، يقول، “لا مجال إلا لإعادة رسم الخرائط، على ما يبدو” (ص 92).
هل سوريا مهددة فعلا بأن يعاد تكوينها على “أساس إلهي، ديني– طائفي”؟ لا يطرح الكاتب هذا السؤال، ولا يقدم لقارئه تفسيرا لسبب بروز هذا الاحتمال. والواقع أن لكتابه كله بنية تقوم على التلميح لا التصريح، والاستدلال لا البحث، وتجنب النقاش لا طرح فرضيات يمكن لآخرين اختبارها. وتكتسب قضاياه وضوحها مما ينبث فيها من رموز وتلميحات ومواربات وتواطؤات.. لا يلتقطها غير المثقفين السوريين على اختلاف منابتهم ومشاربهم، لكنها غامضة جدا لغير السوريين، أو للسوريين أنفسهم إن رفضوا التواطؤ على تلك الرموز والاستعارات، ولم يحاولوا كشف محتواها “العقلاني العلماني”.
شيء آخر يتجنبه الكاتب بثبات لافت: مناقشة طبيعة وتكوين النظام السياسي في سوريا. هذا إغفال غريب في كتاب يطرح مستقبل البلاد للتأمل، وفي بلاد يحكمها منذ 36 عاما نظام واحد ذو سمات شمولية قوية، ما يعني أنه متحكم بجوانب الحياة كافة، السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والنفسية. لكن كيف استطاع الأستاذ الخطيب فعل ذلك؟ بتبني مقاربة تاريخانية تنزع، كما هو دأب المقاربات التاريخانية دوما، إلى إذابة الحدث التاريخي في مخطط حتمي متعال على وقائع والتجارب البشرية الحية، وإلى التقليل من شأن خيارات الفاعلين ومسؤوليتهم لمصلحة منطق تاريخي لا غالب له (في هذا تاريخانية الخطيب التخطيطية مناقضة لتاريخانية عبد الله العروي التي تفسح مجالا لدور فاعل للمثقف والسياسي. وقد يكون أصل فقر تاريخانية مؤلفنا كونها أداتية، لها غرض أيديولوجي محدد كما سنرى، وتاليا ليست واعية بذاتها).
يقرر الخطيب أن النهضة العربية تجلت في: (1) وعي التخلف عن الغرب، و(2) محاولة اللحاق به، أي “الانتقال من النمط الريفي- الزراعي للإنتاج والحياة إلى النمط المديني الصناعي الحديث”، و(3) “الانتقال من اللاحم الامبراطوري الديني للمجتمع، إلى اللاحم القومي الثقافي، أي الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة القومية- الوطنية”. ومحرك التاريخ الحديث هو ديناميكية التوسع الرأسمالي التي يحفزها التقدم التكنولوجي و”مبدأ الربح” وتركز السلطة والثروة والثقافة في المدن، “وهذا أمر جديد بدأ منذ القرن التاسع عشر” في رأيه. ولم يكن المجتمع العربي خارج هذه “العملية التاريخية العالمية” التي أقحمته في المسرح العالمي. وكانت نهضة العرب مثل غيرهم من شعوب الشرق تعني تكييف هذه العملية التاريخية لصالح هذه الشعوب. وهي “عملية نضال وبناء دولة وتحرر وطني ضد الاستعمار، مثلما هي عملية تحرر اجتماعي”. وجوهرها “إدراج المجتمعات العربية، كمجتمعات بدوية وفلاحية كلها – بريفها ومدنها- في النظام العالمي الرأسمالي – المديني المنتشر والمسيطر، بدءا من أوربا” (ص 14-18).
هذا هو الإطار النظري الذي يؤسس لجملة ما يورده الكاتب من أفكار ومواقف في كتابه. وكما هو ملاحظ، فإننا إزاء تاريخانية، مبسطة من الصنف الذي يستحيل التفكير في الشأن السياسي على أرضيته. الحاضر هنا بلا كثافة ولا قوام ذاتي. والدولة هنا وكالة تاريخية مطواعة، أو أقله محايدة، في خدمة التقدم أو اللحاق؛ فلا جدوى من النظر في بنيتها وآليات عملها وتكوين نخبة الحكم ونمط ممارسة السلطة وكيفية اتخاذ القرارات وما إلى ذلك. والعملية التاريخية هذه التي يصفها بأنها “آلية وغائية” (ص 23)، معقولة بالكامل بغض النظر عما قد يرافقها من مآسي إنسانية: فكل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي (ص 23)، حسب هيغل الذي يستحسن الكاتب اقتباسه، ويخفق في الإحاطة بأصل فكرته .
قاموس مزدوج
يعتقد الأستاذ الخطيب أن هذا الإطار يمكنه من فهم “الحراك الاجتماعي السكاني” الذي شهدته البلاد العربية بعد استقلالها بوصفه «عملية تحضير وتمدين ورسملة وتحديث لهذا المجتمع الريفي ككل، وليست عملية “ترييف للمدينة العربية” كما يحلو حتى لبعض “الماركسيين” القول» (ص 19).
لكن ألا يمكن القول إن ترييف المدنية العربية هو أحد الوجوه التناقضية لعملية تمدين المجتمع العربي ككل؟ نتساءل على أرضية افتراضات الكاتب، ومن باب استغراب سخطه الشديد على أطروحة ترييف المدينة. غير أن الخطيب، وفي نقلة مباغتة تكشف مصدر سخطه، يقرر أن الكلام على ترييف المدينة العربية هو “قول يخفي في طياته بذور وعي، أو لا وعي، طبقي قديم، أو وعي ولا وعي طائفي مؤسف”. كيف ذلك؟ ما علاقة الكلام عن ترييف المدن بالوعي أو اللاوعي الطائفي المؤسف؟ هذا ما يمكن أن يتساءل بصدده قارئ غير سوري. أما القارئ السوري الذي اعتاد قاموسا مزدوجا للتعبير عن أفكاره السياسية والاجتماعية فسيدرك أن ثنائية ريف/ مدينة أبدلت خلسة بثنائية أخرى هي أقلية (أقليات)/ أكثرية دينية ومذهبية، أو بفظاظة أكبر: علويين/ سنة. لقد تحول الكاتب من قاموس إلى قاموس دون أن ينبه القارئ، وربما دون أن ينتبه هو أيضا.
والحال قد يكون ياسين الحافظ من أول من تحدثوا عن ترييف المدن في سوريا والبلاد العربية وهو شخص يصعب اتهامه، بالطائفية رغم أنه لم يكن يتهيب التحديق في عين الولاءات والمنازعات الطائفية مباشرة. على كل حال لا يضع الكاتب اسمه في قائمة من أربع كتاب عرب، بينهم سوريان، يتهمهم بـ”النظرة الطائفية إلى الفكر أو المجتمع والتاريخ”: محمد عابد الجابري وحازم صاغية وبرهان غليون وجمال باروت (ص 21). ويبدو أن أساس اتهامهم هو اعتقاد مؤلفنا أنهم يستخدمون مفهومي الأقلية والأكثرية “بالمعنى الديني والطائفي”. وهو معنى ينكر هو شرعيته، لأنهما من المفاهيم “المدنية والسياسية” “المتحركة”. ونرجح من جهتنا أن سبب رفضه لاستخدام المفهومين، حتى في سياق تحليلي، هو خشيته مما كان يسميه المنظرون الليبراليون الأوربيون في القرن التاسع عشر “طغيان الأكثرية” والخوف من هضم حقوق الأقليات. غير أن الطريق الأسلم، في تقديرنا، لضمان حقوق الأقليات هو الإقرار بوجودها، ذلك أن إنكارنا شرعية المفاهيم لا يغير من الواقع شيئا، بل قد يوفر غطاء نظريا لاستبداد لا يعترف بأي حقوق للجميع، إلا بقدر ما تقتضي ذلك دواعي استقراره وشروط استمراره ودوامه. وواقع الحال ناطق.
من ناحية أخرى فإن هذه الفكرة الشائعة رغم ضحالتها، فكرة أن الأقلية والأكثرية مفهومان متحركان وسياسيان وليسا مفهومين دينيين وثابتين، تحرمنا من مقاربة العلاقة بين الأقليات والأكثريات، الثابتة منها والمتحركة، ومن اقتراح مفاهيم نظرية وخطط سياسية وإجراءات قانونية للحد من احتمالات تطابقهما. فمن المحتمل جدا أن تكون أية أكثرية سياسية مدنية متحركة مكونة من الأكثرية الدينية في بلدنا في المراحل الباكرة من التحول الديمقراطي. والتقارب هذا سيكون أكبر كلما طالت الشروط الراهنة التي تغذي الوعي الذاتي الفئوي لدي جميع مكونات المجتمع السوري. فلا نظن الكاتب يجادل في أن المرحلة الراهنة هي مرحلة “تراكم ديمقراطي أولى”، تتحلل فيها الروابط الأهلية، الدينية والمذهبية والإثنية وغيرها، لمصلحة رابطة المواطنة. ما يجري في الواقع هو المزيد من انحلال الرابطة الوطنية، وليس العكس. وهو انحلال لم يهبط من السماء. إن أسبابه أرضية ويتعين تحليلها على الأرض. لكن كان من شأن مقاربتها بالتحليل أن يقتضي من الأستاذ الخطيب التخلي عن آلته التاريخانية، والنظر إلى السياسة ووقائعها وهياكلها بعين العطف.
إلى ذلك، لماذا لا يصح الكلام على أقليات وأكثريات دينية وإثنية ومذهبية؟ ثمة جماعات، دينية أو مذهبية أو إثنية، في مجتمع تتشكل أكثريته المطلقة (أكثر من 50% من سكانه) من جماعة دينية أو مذهبية أو إثنية مختلفة. هذا واقع يحتاج إلى اسم من أجل حدّه وضبطه. كلمتا أقلية وأكثرية تسميان هذا الواقع. ولتبديد التباسات محتملة يمكن أن نتحدث عن أقلية (أو اكثرية) مذهبية أو أقلية انتخابية أو أقلية قومية، وإن شئنا أقلية وأكثرية عمودية وأفقية…إلخ. في الماضي العربي الإسلامي كانت تستخدم كلمة نوعية لا كمية، إن جاز التعبير، هي كلمة الملة. لكن فيما عدا أن الملل كانت تقتصر على الأديان المعترف بها قرآنيا، وتقصي الجماعات المذهبية الإسلامية (السياسة العملية مختلفة نسبيا وأكثر براغماتية..)، فإن المضمر في هذه الكلمة أن السيادة العليا هي حتما وحصرا للمسلمين. وهو ما ينطبق على تعبير “أهل الذمة” أيضا بدرجة أكبر. أما كلمات أقلية وأكثرية فهي مرتبطة بعقلية العصر الكمية، ورغم أنها دخلت ثقافتنا مع الفتوحات الاستعمارية، إلا إنها متشربة بدلالات تتصل بالديمقراطية وحماية الأقليات أو ضمانة حقوقها المتساوية.
إلى ذلك فإن كاتبنا نفسه يتبين “وعيا ولا وعيا” طائفيا في سلوك ماركسيين وتقدميين وغيرهم. فإذا كان يقر بدور تفسيري للعامل الطائفي في توجيه أفكار بعضنا، فلماذا يرفض تناول هذا الدور بالتحليل؟ أليس الأنجع أن نتناول مفهومي الأقليات والأكثريات الطائفية بالبحث الاجتماعي والتاريخي بدلا من تحريمهما وشن حرب ضدهما؟ المفاهيم ليست أوثانا ولا مقدسات، إنها أدوات يمكن تطويرها وإرهافها لمقاربة الظواهر الاجتماعية. قد يخدش هذا حساسياتنا ويسبب حالات سوء تفاهم بيننا، لكن مع ضرورة بذل الجهد لتجنب الإثارة المجانية للحساسيات، ينبغي القول إن هدف المعرفة هو تحليل الظواهر المزعجة وليس إنقاذ المظاهر اللطيفة.
والواقع أن هذا هو التناقض الأكبر والمكون للكتاب كله: إن القضية المحركة لتفكير الكاتب هي القضية الطائفية التي يشدد عليها النكير إلى درجة تحريم ذكرها (إلا في صيغة اتهامية)، وهو تحريم ملفع بتحليل كونوي وتاريخاني مجرد لا يقدم أي فائض قيمة معرفي من جهة، ومسيج باتهامات بالطائفية ضد خصومه الفكريين من جهة أخرى.
ليس الكلام على أقليات وأكثريات دينية ومذهبية كلاما طائفيا بالضرورة، وليس تحريم استخدامها برهانا على التحرر من الطائفية. إنها أدوات للتحليل الاجتماعي والسياسي، لا غني عنها في أي مجتمع حديث. كان يمكن للكاتب، لو ترفع عن الاتهام، أن يطور أدوات لمقاربة الشأن الطائفي دون تهويل فيه ودون تعام عنه. وإذ لم يفعل فقد انفصمت مقاربته إلى رفض مجرد لأخذ العامل الطائفي بعين الاعتبار على الصعيد النظري، مع التلويح بما لا يقل عن خطر الحرب الأهلية وإعادة رسم خريطة البلد على الصعيد العملي. ولو ترفع عن الاتهام كذلك لما شن حربا ضد مفهوم ترييف المدنية، ولبدا له المفهوم هذا علائقيا، ينفتح من جهة على تزايد سكاني وضغط على الأرض في الأرياف، وعلى مدينة ضعيفة الطاقة الدمجية من جهة أخرى، مدينة تهاوت تحت الترييف لعجزها عن التمدين. أصل الترييف عجز البنية الإنتاجية للمدينة عن استيعاب الدفق البشري الذي تولد عن تنقيد اقتصاد الكفاف أو شبه الكفاف الريفي، والزيادة السكانية المرتبطة بالتقدم الصحي، وتحلل الروابط الأهلية أمام تقدم العلاقات الرأسمالية في الريف. الأمر الذي يدفع القادمين إلى أنشطة هامشية ( كان يشتغل في القطاع غير المنظم 43% من العاملين في سورية عام 1999، يعيشون عمليا خارج دورة الاقتصاد الوطني ) وتوسيع صفوف العاطلين عن العمل (22% من قوة العمل حسب بحث لمعهد كارنيغي الأميركي نشر مؤخرا ) فضلا عن البطالة الهيكلية في أجهزة الدولة. كانت هذه الأجهزة، الإدارية والأمنية والعسكرية والإنتاجية، قد استوعبت الدفق البشري الريفي في السبعينات، لكن طاقتها الاستيعابية تراجعت في الثمانينات والتسعينات، ثم غدت كتيمة حياله في السنوات العشرة الأخيرة. هذا الشرط تفاقم بسبب السياسات الاقتصادية في العهد البعثي التي اعتمدت محاسبة اجتماعية وسياسية عينها على الولاء والمحاسيب وليس على الاستثمار المنتج والربح والمردودات التنموية. وهي السياسات التي فاقمت قصور المدينة، وتبدو حريصة على ألا تطور مدننا شخصية قوية ذات تقاليد حية وقدرة على المبادرة والاحتجاج والتفاعل مع العالم. بعبارة أخرى القصور التمديني للمدينة علائقي على مستوى آخر: فهو ثمرة تقاطع ضعف مستوى الرسملة الاقتصادية والبرجزة الاجتماعية والثقافية في البلاد من جهة، وسياسة نخبة سلطة تضع في المقام الأول من اهتمامها إدامة سيطرتها والانفراد في تحديد الأولويات الوطنية وتحريك الموارد الوطنية من جهة أخرى.
ومن أهم مظاهر الترييف ضعف التشكل أو التبنين المديني، عمرانيا وبيئيا، كما مؤسسيا ووظيفيا. عمرانيا المدينة السورية، خصوصا العاصمة دمشق، مثال للكيتش، أي لسقم الذوق والوظيفية في أشد أشكالها تدنيا وبدائية. وخلوها من الساحات العامة أمر لافت للنظر. وهي تفتقر إلى مراكز ثقافية متفتحة ونشطة، وإلى مسارح وصحف وصالونات..، وقبل الجميع إلى حياة قانونية، وبيروقراطية عقلانية حديثة تتعامل مع السكان بصرف النظر عن حيثياتهم، فوق افتقارها إلى الصناعة الكبرى والنقابات الناشطة. يضاف إلى ذلك كله سيطرة العلاقات القرابية والمحسوبيات المميزة للريف لا للمدينة الحديثة. وكما ألمحنا، هذا يتصل بالطبع بمستوى التطور الرأسمالي الرث في بلادنا، لكن كذلك بتكوين وتفضيلات طواقم السلطة في البلاد، وهي طواقم من أصول ريفية، وجدت في السلطة وريع السلطة مصدر نفوذها وثروتها، في ظل ضعف التراكم الرأسمالي المحلي. وهي كذلك النخب التي أضحت اليوم طبقة ذوات أو وجهاء جدد، تفوق في انغلاقها، وفي ثرائها وسلطتها، طبقة “أعيان المدن” من التجار و”ملاك الأراضي الغائبين” (فيليب خوري) ، ممن كانوا نخبة السلطة في العهد الاستقلالي. هذا كله لا علاقة له بالطائفية. وجرى مثله في بلاد عربية وغير عربية لا تضج بأديانها وطوائفها.
ولو قاوم الكاتب إغراء الاتهام والقاموس المزدوج لتبين أن الريف السوري ككل، وهو متعدد الطوائف، هاجر إلى المدن السورية جميعا، الكبرى أكثر من غيرها، والعاصمة أكثر من الجميع؛ وأن أكثر المدن السورية جديدة بالفعل، وكانت قبل عقود فحسب قرى كبيرة بعض الشيء. وأن المدن السورية الكبيرة والقديمة، دمشق وحمص وحماة وحلب، كانت مدنا ما قبل رأسمالية أي محدودة الطاقة الدمجية وغير قادرة على تحويل الفلاحين إلى عمال صناعيين.
كثير من هذه الظاهرات التي تندرج ضمن مفهوم ترييف المدينة رآها الكاتب نفسه (ص 35 و36 مثلا)، فلماذا يحارب مفهوما لا منافس له في توحيد حزمة الظاهرات هذه؟ لأنه أعطاه معنى إيديولوجيا منفصلا عن معناه العلمي، أو لأنه يشعر أن المفهوم يستخدم لأغراض إيديولوجية تتصل بالتنازع الطائفي. هل هو محق؟ هل يحصل أن تستخدم مفاهيم الريف والمدينة والترييف … لأغراض إيديولوجية وسياسية تتصل بالتنابذ الطائفي؟ نعم للأسف . لكن هذا يقتضي من الكاتب، ومن أي مثقف عقلاني، تقصي أصول القاموس المزدوج عند السوريين وكشف المخاتلات والمواربات والإبدالات الشائعة في أوساطنا العامة والنخبوية . ولو فعل لتبين أن أصل تلك الحيل هو التطييف الخفي للحقل السياسي والإيديولوجي المحلي. ما يعني أن اعتماد لغة أكثر شفافية وأقل ازدواجية يقتضي بكل بساطة فصل المؤسسات السياسية الوطنية عن التكوينات الطائفية الجزئية.
لكن بدلا من إقامة موقع علمي وسياسي يمكنه من نقد المداورات الخطابية يقيم الأستاذ الخطيب على الدوران حول هواجس مرتبطة بالشأن الطائفي: “وربما كانت هذه النوستالجيا [إلى “شرب النراجيل” والقاهرة القديمة وحلب القديمة…]، أحيانا، شكلا من أشكال التعبير عن المعارضة والرفض الاجتماعي والسياسي والطبقي بل والطائفي لما يحدث، أو عدم القدرة على فهمه. مثلما هي، وبصريح عبارة، شكل سهل – “إعلان”- من أشكال “المعارضة السياسية”، تماما، كالظاهرة الدينية الإسلامية في المنطقة العربية” (ص 37). نلتقي مرة أخرى هنا التناقض الأكبر في كتاب الأستاذ الخطيب: لا يقارب الطائفية بتحليل موضوعي، ولا يستطيع تجاهلها؛ الاتهام هو الحل.

ضد الحدث
وفيا لمقاربته التاريخانية الآلية، يرى الكاتب أن ما حدث في “هذه الدولة العربية أو تلك” ليس “مجرد اغتصاب للسلطة، أو قطع للشرعية، أو إيقاف لمسار الديمقراطية، أو ترييف لمدينة لم تكن أصلا إلا مركزا ريفيا مضخما، أو إرهاب وجشع للسلطة والمال”. هذه “ظواهر” في رأيه، وهي لا تبدو اغتصابا وقطعا وإيقافا وترييفا وإرهابا وجشعا إلا “لمن لا يريد التعمق في المجريات التحتية، لكن غير الخفية، للحركة التاريخية، ويكتفي بالشيء كم يبدو، دون محاولة التعمق في الشيء كما هو، كما في التفرقة الكانتية المشهورة” (ص25). متعمقا في الشيء كما هو، يبدو التاريخ للكاتب عرضا للتاريخانية، لمخطط تاريخي متعال يلعب حيال التاريخ كحدث دور الشيء في ذاته الكانطي حيال الظاهرة. وبعد إفقاد الحدث استقلاليته وتبخيره في هذا المخطط العمومي والمجرد، كيف لا يكون الاستعمار والطغيان مبررين في أدق تفاصيلهما؟ من غورو إلى رفعت، ومن صدام إلى بريمر؟ ولن ينسى أن يقول إن هذا هو “مكر التاريخ”، وتلك هي “طريقة تبدي التاريخ”: “إنه التاريخ الذي يسير بالدم والدموع والآلام والعنف، عبر آلية تكوين المجتمعات والدول وانحلالها، يسير بالجرائم والنهب، مثلما يسير على إيقاع حفيف الشجر وتلاشي الأمواج على الرمل وحبو طفل على عشب يانع”. تتساوى الجرائم وحبو الطفل حين يغدو التاريخ مطلقا! ومن ثم ينقاد إلى القول: “ذلك هو التاريخ الذي يعلو على آلامنا وأفرحنا، على انتصاراتنا وهزائمنا”. كنا نظن أن ما يعلو على “أحكامنا البشرية[كذا]”، وعلى آلامنا وأفراحنا.. هو القدر وليس التاريخ. غير أن التاريخ، وقد ارتدى حلة تاريخانية تضفي النسبية على العناء البشري، والإطلاق والعلو على حركة “آلية وغائية”، ليس إلا صيغة معلمنة عن القدر الديني، قادرة على امتصاص كل ما هو حدث وتبرير كل ما هو مأساوي .
ضد الاتساق
على أن قدرية الكاتب التاريخانية تبقي وفية لذاتها طالما هو يتكلم عن “المجريات التحتية، لكن غير الخفية” لتشكل الوضع الراهن، فإن تلامحت احتمالات تغيره بارح الكاتب تاريخانيته، وبدا له التاريخ “أفق احتمالات أكثر مما هو ممرات إجبارية” (ص 90). بعبارة أخرى، لا ينساق الكاتب وراء المنطق التاريخاني إلا لأنه يقوده إلى تبرير أوضاع قائمة يتوجس من تغيرها، أما حين تبدو التطورات مقلقة من وجهة نظره فيضحي بتاريخانيته التخطيطية رأسا. فهو نقدي حيال ما قد يأتي، بقدر ما هو تسليمي حيال ما هو قائم. وينبغي ألا يكون هذا الافتقار إلى الاتساق مفاجئا. فللكاتب إيديولوجيته التي لا تتسق إلا إن لم يكن تفكيره متسقا.
بيد أن المؤلف يستبقي من تاريخانيته، حتى حين ينحاز إلى التاريخ كـ”أفق احتمالات”، تهميش السياسة وإقصاء الحدث السياسي. فلا نعثر على كلمة واحدة عن النظام السياسي وأصوله وبنيته وتكوين نخبة السلطة ونوعية “اللاحم” الذي يشد السوريين اليوم إلى بعضهم. من أين أتت الدعوة إلى “لاحم إلهي، ديني- طائفي” اليوم؟ لا يسعفنا “تحليل” المؤلف في الإجابة على هذا السؤال، رغم أن اللاحم هذا يقلقه كثيرا. والحال لم يتنزل اللاحم الإلهي أيضا من عند الله ولم يسقط من السماء. إنه نتاج شروط بشرية، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يتعين تحليلها.
لكن بلى، يتحدث الكاتب بالفعل عن النظام السياسي. يشير بطريقة مواربة إلى استبداد عسكري وحزبي قائم في تقابل مع استبداد ديني وطائفي مهدد، متكتما على أية إشارة إلى دور مفترض للعنصر الأهلي في الاستبداد الأول. ويمضي دونما حذر إلى المفاضلة بين الاستبدادين، كاشفا انحيازا للأول كان مخبئا وراء تاريخانيته الفخمة. الاستبداد الحزبي العسكري (إقرأ: الحالي) “لا يتدخل في شؤون الإنسان الحياتية اليومية”، وهو يكاد يكون “مؤقتا ومرهونا بطغمة عسكرية وسياسية قصيرة الأجل”. ويستذكر ديكتاتوريات حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وأمين الحافظ (؟!)، قبل أن يدلي بملاحظة كاشفة جدا، أو “أعراضية”، بصددها: “لم ينبذ أحد تلك الدكتاتوريات أو يصمها بوصمة دينية أو طائفية أو قومية، أو جهوية” (ص 84). واضح على ماذا يرد الكاتب (على من يقولون ببعد طائفي للاستبداد الحالي)، لكن ليس من سياق كلامه، بل من الترجمة الفورية التي يجريها القارئ السوري بين قاموسين.
الاستبداد الديني الطائفي، بالمقابل، “يتدخل في ضمير المرء وفي حياته ومأكله ومشربه وطرق مخالطته الاجتماعية”. وبينما لا يخبرنا الكاتب إن كان الاستبداد هذا خالدا خلافا لاستبداد الطغمة العسكرية “المؤقت”، فإنه يشير إلى إمكانية “تغيير الولاء في ظل الاستبداد العسكري والسياسي، أما صاحب العقيدة، أو الدين، أو القومية [القومية أيضا؟] فيظل مقتنعا ومقيما على عقيدته غير عابئ، وغير مقتنع بمفهومي الأقلية والأكثرية”. هل ثمة شيء من الارتباك في هذا الكلام؟ لن يلبث معنى هذا السياق الظاهر أن يستضيء من السياق الكامن: «لن يستطيع أحد أن يقنع أحدا بترك عقيدة أو قومية أو انتماء، أو تاريخ ارتضاه لنفسه (…) وحافظ على وجوده خلال مئات السنوات لمجرد “نبذه” بأنه “أقلية” أو مدحه بأنه “أكثرية”». واضح جدا! والفضل في وضوحه للسياق الكامن الذي يركبه القارئ من نتف ونتوءات وارتباكات السياق الظاهر الذي يتحدث بلغة مجردة ومفهومية. والحق أن كتاب الأستاذ محمد كامل الخطيب هذا يصلح مادة ممتازة لدراسات أسلوبية ولتجريب أدوات تحليلية مثل ازدواج القاموس وازدواج السياق، وذلك بشرط وضع مقدمة اجتماعية وسياسية وتاريخية كافية لهذه الدراسة. سنلاحظ فقط أن السياق الكامن يظهر مباشرة على السطح حين تتعطل، بين وقت وآخر، الآلة التاريخانية للكاتب، وتكف عن طحن “الوقائع الصلدة” إلى مسحوق نظري متجانس، فتنزل هذه منها كتلا خاما من الواقع، كما هي.
ويبدو أن الكاتب يقصد أن الإقرار بوجود أقلية وأكثرية يشكل ضمانة لعدم فرض ولاءات خارجية على الأقلية. هذا معقول، لكن سبق أن رأينا أنه يحرم مفهوم الأقلية الدينية أو الطائفية. وكلامه لا يستقيم إن افترضنا أن مقصده الأقلية والأكثرية “كمفهومين سياسيين متحركين”. إذ أن “العقيدة” و”القومية” و”الانتماء” لا تضاف إلا إلى أقليات وأكثرية دينية ومذهبية وإثنية.
لنضرب صفحا عن “مدح الأكثرية” و”نبذ الأقلية”، لمتابعة مواطن قلق الكاتب: «لن يقبل أحد من أحد، وخاصة في العالم المعاصر أن يفرض عليه انتماء، أو نمط حياة وسلوك وعادات وحياة وتقاليد وتاريخ وعادات مأكل ومشرب ولباس ومخالطة اجتماعية وطريقة عبادة تحت لافتة أنتم أقلية كونوا مثل الأكثرية. وهذه أمور ليست تافهة، فالناس يعيشون في مثل هذه الأمور وعليها، ولا يعيشون دائما على “الأفكار الكبيرة” وبها». ملحوظتان من طرفنا: (1) الناس لا يعيشون أبدا على “الأفكار الكبيرة” أو بها؛ (2) ليس نمط الحياة والمأكل والمشرب والزي والمخالطة… أشياء غير تافهة فحسب، بل هي أسلوب الحياة، وجوهرها. ودون تهويل، لكن ضد أي تهوين، نشارك الكاتب الاعتقاد بأنه إذا فكر أي طرف سياسي أو إيديولوجي سوري فرضها على غيره فإن ذلك وصفة للحرب الأهلية بالفعل. من لا يدرك ذلك لا يفقه شيئا، ولا يحس كذلك. إن الحق في ارتداء بنطال جنز ضيق أو عدم وضع حجاب أو احتساء الخمر يفوق في أهميته حق التعبير عن الرأي بحرية وحق التجمع والاحتجاج العلني. ومن غير المتسق وغير الأخلاقي أن يستنكر أي كان إقدام ميليشيات المظليات المرتبطة بسرايا الدفاع على نزع الحجب عن رؤوس نسوة دمشقيات خريف 1981، ثم يقبل أو يدعو إلى فرض الحجاب على نساء سوريات أو منعهن من ارتداء ما يحلو لهن، أو منع سوريين من احتساء مشروبات كحولية في مطاعم ومحلات عامة. والواقع أن سوريين كثيرين، من الأقليات الدينية والمذهبية كما من المسلمين السنيين، يخشون أن يسعى الإسلاميون، “الإخوان” أو غيرهم، إلى فرض نمط حياة ديني على البلد إن تسنى لهم الوصول إلى الحكم. وهو أمر لا يمكن قبوله بأي حال. فما تحقق للسوريين من حرية على مستوى أنماط الحياة الخاصة يتعين أن يستكمل بحرياتهم المدنية والأساسية، لا أن يسحب بعد انطواء صفحة “الاستبداد الحزبي العسكري” .
بعد ذلك يعود الكاتب إلى رفض صلاحية مفهومي “الأقلية والأكثرية في المجال الديني والطائفي والأقوامي”. يعود كذلك إلى الاتهام بالطائفية: “ومع الأسف فكثير من متكلمي السياسة – هذه الأيام- وخاصة في ذوي “الماضي اليساري” يلعبون هذه اللعبة التنكرية غير النظيفة، وغير الواعية – على فرض حسن النية- ويمارسون السياسة عبر مكبوتاتهم الدينية والطائفية، أو عبر غريزة ثأرية على ما يبدو” (ص 86). الترجمة ضرورية هنا: إن معارضين للنظام، يساريين بعينهم (لن نترجم أكثر!)، يتحدثون عن أقلية وأكثرية، إما تغطية غير نظيفة وقد تكون غير واعية لنوازعهم الطائفية (السنية؟)، أو تحركهم دوافع انتقامية حيال النظام الحالي. لماذا؟ ولماذا يكبتون دوافعهم الدينية والطائفية؟ لا يسخو الكاتب بإجابات على أسئلة لم يطرحها.
تبقى بضعة نقاط تفصيلية لكنها تضيئ “براهين” الكاتب ومستوى حججه: “ينبغي التذكير بأن محاولة إعادة اللاحم أو العاقد أو المشروع الديني الإسلامي في الجزائر أدت منذ تسعينات القرن العشرين إلى شبه حرب أهلية” (ص 87). ملحوظة: هناك رواية أخرى تقول إن انقلاب المركب العسكري المافيوزي في الجزائر على انتخابات ديمقراطية جرت عام 1992 هو سبب الحرب الأهلية في الجزائر. هل الحركة الإسلامية مشاركة في المسؤولية؟ بلا ريب. لكن نقاشا جديا للحرب الأهلية الجزائرية يقتضي مقدمات مختلفة وأكثر تجردا. يضيف: “ومحاولة فرض اللاحم أو العاقد أو المشروع الديني في السودان أدت إلى مشروع تقسيم السودان”. ملحوظتان: (1) الحرب الأهلية في السودان بدأت قبل “المشروع الديني”؛ (2) توقفت الحرب في الجنوب بينما “المشروع الديني” مستمر. ثم أحلى الكلام: “أما العراق فيعيش أجواء حرب أهلية للأسباب المتقدمة إياها، سواء كان اللاحم المفروض هناك قوميا أو دينيا أو طائفيا”. أية “أسباب متقدمة”؟ ومتى تقدمت؟ وما معنى القول سواء كان اللاحم كذا أو كذا؟ أقل ما يقال أن هذا الكلام غير متسق، وأن نظرية اللاحم لا تفيد إطلاقا في تفسير الحرب الأهلية العراقية، إلا إذا ترجمت من لغة ميتافيزيقية إلى لغة سياسية مباشرة: دكتاتورية صدام حسين “الحزبية العسكرية”، الطائفية أيضا، حطمت الوطنية العراقية وفرقت العراقيين طوائف واثنيات..
وأخيرا، الطائر المحكي: “أما في سورية الثمانينات من القرن العشرين، فقد أدى تحويل المعارضة السياسية إلى معارضة دينية، إلى بداية نشوء أحاسيس ومخاوف وأفكار، ثم تشكيل جمعيات وتجمعات طائفية لدى مختلف الطوائف، كما هو معروف” (ص 87). أكثف ثلاثة أسطر ونصف في الكتاب! ثلاث ملحوظات: (1) تحويل المعارضة السياسية إلى دينية؟ كيف تحولت؟ ومن حولها؟ ولماذا تحولت؟ وهل لهذا الكلام المعنى ذاته لعبارة: قيام معارضة سياسية على أرضية دينية واعتمادها العنف في مواجهة نظام متهم بانحيازات أهلية؟ (2) “بداية نشوء أحاسيس”؟ بداية؟ أحاسيس؟ أية أحاسيس؟ عند من؟ هل نزلت “الأحاسيس” فجأة من السماء مثل “اللاحم الإلهي؟” (3) جمعيات وتجمعات لدى مختلف الطوائف؟ ليس مختلف تماما، وليس لدى الطوائف تماما، وليست جمعيات وتجمعات تماما!
أسهبنا في متابعة حجاج الأستاذ الخطيب وبراهينه السياسية لأننا نعتقد أننا بحاجة إلى تطوير مقاربة متسقة لأدبيات وفيرة، ومرشحة لمزيد من الوفرة، في سوريا، أدبيات تتكتم على موضوعها بدل أن تنيره: أدبيات المسألة الطائفية. لا نزعم أننا بلورنا هذه المقاربة، لكننا نأمل أن نكون تقدمنا خطوة في هذا السبيل. ويقيننا أن مقاربة علمية للمشكلات الطائفية لا بد لها بداية من الانكباب على استنطاق النصوص الملتبسة حولها ومحاولة كشف ما تقوله دون أن تصرح به.
سمات فكر مرتعد
على أن عرض إشكالية الكاتب النظرية وتفنيد قضايا كتابه وكشف موارباته والبرهنة على عدم اتساقه هو نصف العمل الضروري للتعليق على كتابه وكشف دلالاته. المقاربة الأنجع في تقديرنا هي النظر بالفعل في تكوين سوريا الحالي وتاريخها الحديث، والعمل على كشف الاختلالات المحتملة في تكون البلد، وأوجه القلق التي تبثها تطورات هذا التكوين. يتعدى جهد كهذا طاقة هذا المقال. حسبنا القول إن المشكلة الطائفية التي يتمحور حولها كتاب “وردة أم قنبلة” تحتاج تناولا أكثر تجردا وانكبابا على السجل التاريخي الفعلي بتفاصيله، والأهم ترفعا على منطق الاتهام والتبرؤ. الطائفية ليست هوية الآخر بل هي شرطنا العمومي. وهو شرط يتعين أن نجعل منه موضوعا للتفكير والمعرفة، لا ذاتا شيطانية تتقمص “الآخرين”، بينما “نحن” منزهون عنها. هذا ملح علميا ووطنيا.
الطائفية شرط عام يستغرقنا جميعا. يكفي قليل من الصدق مع النفس لنتبين كم هو حاضر ومنتشر الشعور الطائفي . وهو بالتأكيد ليس مشكلة فرد أو فردين، أو أربعة مثقفين عرب وسوريين، أو حفنة من “يساريين سابقين”. إنها مشكلة جميع الأفراد، بمن فيهم الأستاذ الخطيب وكاتب هذه السطور، ومشكلة جميع الأفراد ليست مشكلة فردية بل هي مشكلة اجتماعية ووطنية، يتعين وصفها وتحليلها ومعالجتها بصفتها كذلك.
ملح أيضا مقاربة مشكلاتنا الوطنية بتوازن واتزان. من غير المنصف أن تكون حفنة من “اليساريين السابقين” هي البطل الشرير في قصة “إعادة تكوين سوريا”. ومن غير المعقول أن يكون هؤلاء أهم وأخطر ممن كانوا ولا يزالون يحتلون الموقع الأفضل للتحكم في سير عملية التشكل السوري، والذين لا يمكن أن نفهم أسرار “اللاحم الإلهي” المتربص ببلدنا دون أن نحلل تكوينهم وهياكل سلطتهم وبنية مصالحهم. هذا بينما النظام نفسه الذي يغفل الكاتب عنه لا يزال الأقدر على قطع الطريق على الاحتمالات التي يخشاها.
ما الذي يفعله هؤلاء اليساريون السابقون؟ أو كي نتكلم “مِن الآخِر”: هل النقاش في المسألة الطائفية نقاش طائفي هو ذاته؟ بمعنى ما نعم. فالطائفية مشكلة سياسية تتصل بهياكل السلطة والثروة والنفوذ في البلاد، وبالنفاذ التفاضلي إليها. نحن لا نحتل مواقع متناظرة من الهياكل هذه. هذا يعني أن بعض المواقع لا يناسبها أن يطرح الشأن الطائفي للنقاش فيما تفضل مواقع أخرى أن تطرحه. المشكلة في تفاوت المواقع، وما قد يترتب عليها من فرص للنفاذ إلى الهياكل تلك والتأثير عليها. وتخميني الشخصي أن ما يفعله “يساريون سابقون” هو مساءلة هذا الواقع والتحرش به. المساواة بين الطرفين، القائمين على تلك الهياكل والمهتمين بإثارة النقاش حولها، انحياز للأقوى بينهما، وهو انحياز غير لائق بالمثقف النقدي والوطني، خصوصا إن كان يعتقد أن بلاده على أبواب إعادة تكوين خطرة.
وما نلمسه في الكتاب هو تراجع العناصر الديمقراطية والثورية والعقلانية في وعي الكاتب لمصلحة المحافظة والتشاؤم والانكفاء. وهو يدل في الواقع على حجم الإفساد الذي تسببت فيه علاقات سلطة امتيازية وغير منصفة في الوعي العام، وعي منحدرين من أقليات مذهبية ودينية بخاصة، مع ما هو معروف تاريخيا من أن الأقليات رصيد متجدد للمطالب الديمقراطية والتغييرية. وما الجمع بين نزعة محافظة سياسية ونزعة تغييرية إيديولوجية غير الحصيلة الإجمالية لهذا الإفساد الخطير. ولا نرى سبيلا للتغلب على هذا الفساد دون مقاومته، دون التحول من مضغ المخاوف وتغذيتها واحتضانها إلى النظر إلى تكوين بلدنا ووعينا بصورة اقل مواربة واكثر شجاعة. فلنترك التلويح بإعادة رسم خريطة البلد للطائفيين!
من جهة أخرى يبدو لنا أن تشاؤم الكاتب وثيق الصلة بنزعته التأملية المنعزلة عن العمليات الاجتماعية، والمتولدة هي ذاتها من العزلة المضروبة حول النشاط العام، السياسي والثقافي، المستقل في البلاد. هذا يفسر انتشار الاكتئاب والمزاج القائم في أوساط واسعة من المثقفين السوريين، الأبعد عن المشاركة في الشأن العام على وجه الخصوص. كان من شأن حياة عامة أكثر انفتاحا وحيوية أن تحد من نزعات التشاؤم والسودواية ليحل محلها مزاج أكثر عملية ونشاطا. والقصد أن نبرز الصلة بين مصادرة الحياة السياسية والعامة للسوريين وأجواء العزلة المحيطة بهم وبين المنظورات القاتمة لكاتب “وردة أم قنبلة”، وإن انعكست الصلة هذه في كتابه على شكل انحرافات إيديولوجية ليساريين سابقين أو نزعات دينية متأصلة.
يبقى أنه على مستوى التجريد والعمومية الذي يتحدث منه الكاتب يتعذر إضاءة أو حسم أي من القضايا التي يطرحها. ينبغي النزول إلى واقع مترب، أكثر اختلاطا ودنيوية، من أجل التفكير في تكوين سوريا وآفاق إعادة تكوينها. لا مناص كذلك من مقاربة الواقع بطريقة مباشرة تسمي الأشياء بأسمائها. إذ كيف نعالج المشكلات الطائفية بينما نحن نمتنع حتى عن تسميتها تطَيّرا؟ هذا تفكير سحري لا يساعد في اجتراح حلول “عقلانية وعلمانية وديمقراطية ومدنية” لمستقبل سوريا. وليس بمثل هذا الفكر المرتعد، المذعور، المنغلق على ذاته والمكتفي بتشاؤمه، تتكون سوريا جديدة.
أخيرا، كتاب “وردة أم قنبلة؟” برهان على أن التجريد والعمومية من جهة، والنزعة الشعورية من جهة ثانية غير متعارضتين. فالعموميات أصلح لاستيعاب دفقات شعورية غير مسيطر عليها ولا شكل لها. فيما يحتاج وعي منظم إلى صيغ تفكيرية أشد انضباطا وأكثر اعتناء بالتفاصيل. وإذا كان نص الكاتب لا يمنح مفاتيحه للقارئ غير السوري فلأن مفاتيحه شعورية، لا “يلقفها وهي طايرة” إلا الشركاء في التكوين الشعوري ذاته. كما أن سمة اللااتساق التي رصدناها في نقاش الأستاذ الخطيب تزول تماما حين ننتقل من مستوى الوعي والمفاهيم إلى مستوى الشعور والانفعال. ثمة ذعر واحد وتشاؤم واحد متجانس يتخلل صفحات الكتاب جميعا.
ضعف الوعي الوطني
في الختام، الكتاب نتاج ومؤشر على ضعف الوعي الوطني السوري. لا يتماهى السوريون في الدولة. والتماهي الثقافي متراجع، وهو ينعقد على أية حال على العروبة لا على السورية. هل نتماهي في القضية الوطنية؟ كان يمكن لذلك أن ينجح لو لم تكن الوطنية هذه متعارضة بالتمام والكمال مع تحقيق المواطنة الحرة للسوريين. ضعف الوعي الوطني يتسبب في قوة أشكال الوعي غير الوطنية، سواء كانت فوق وطنية كالعروبة (والكردية والقومية السورية) والإسلامية أو دون وطنية كالطائفية والعشائرية وتشابكاتهما المتعددة، و”معادلات التحويل” بينها وبين الإيديولوجيات العصرية. هذا يحث على التركيز على الثقافة الوطنية والقيم الجمهورية من مساواة وحرية وأخوة، في مواجهة الطائفية والنزعات دون الوطنية، كما في مواجهة مخاطر الهيمنة الخارجية، وذلك بدلا من التقوقع على الذات واجترار المخاوف والتشاؤم. ولا ريب أن التطلع إلى مجتمع لا يتفاوت فيه الناس بسبب حيثياتهم القرابية والدينية والمذهبية والإثنية هو مثال جدير بالمثقفين الديمقراطيين ويستحق الكفاح من أجله. غير أن الانطلاق منه دون الاعتناء بشروطه الموضوعية لا ينجب علما ولا نضالا وطنيا بصيرا. إنه وصفة للاستبداد.
إعادة رسم الخرائط العقلية والسياسية أكثر عقلانية وإنسانية ووطنية من أية بدائل تحاصر السوريين بثنائيات شالة لا تخدم إلا دوام الوضع الراهن. وهي بالتأكيد أولى بالاشتغال عليها من “إعادة رسم الخرائط” الجغرافية.
—————–
1-    الطبعة الأولى، منشورات 0021، دمشق، 2006.
2-  الأصل في فكرة هيغل هو افتراض وحدة أنطولوجية بين العقلي والواقعي. وهو افتراض مؤسس في فلسفة هيغل على اعتبار العقلي والواقعي “لحظتان” أو طوران من أطوار انبساط “الفكرة المطلقة”. الأستاذ الخطيب يأخذ من هيغل تاريخانيته دون المقدمات المثالية المطلقة التي تبنيني عليها وحدة الواقعي والعقلي. مقدماته ماركسية تبسيطية من النوع الذي شاع في بلادنا حتى سبعينات القرن العشرين.
3-  انظر برهان غليون:مستقبل الإصلاح والتغيير في سورية: نحو عقد وطني جديد. محاضرة ألقيت في منتدى الحوار الوطني الذي كان يعقد جلساته في منزل النائب رياض سيف يوم 5/9/2001. اعتقل سيف في اليوم التالي للمحاضرة، وكذلك خمسة آخرين من أعضاء هيئة المنتدى. نص المحاضرة متوفر في مجلة “مقاربات” التي يصدرها مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، العدد 4 و5، شتاء 2002.

4-    Reform in Syria: steering between the Chinese model and regime change, http://www.mafhoum.com/press9/286S25.pdf .

5-  انظر كتابه: سوريا والانتداب الفرنسي: سياسة القومية العربية 1902-1945، ت: مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 1997. ص 84، 92-96،. وغيرها.
6-     بالمناسبة الأسف، خلافا لما يعتقد الكاتب، يصح في التاريخ، لكنه محرم في التاريخانية، مثل لو المحرمة هيغليا و… إسلاميا.
7-  انظر مثلا ما قوبلت به مقالة ميشيل كيلوا: نعوات سورية، التي نشرت في جريدة “القدس العربي” وقت اعتقاله في أوساط ايار 2006. يتحدث كيلو عن الريفيين في اللاذقية. وصيغه ليست حذره معرفيا كما ينبغي. لكن أيا نقاده الغاضبين الكثيرين لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى عمليات المخاتلة الطائفية الناشطة جدا عند الجميع وبين الجميع في سوريا. يمكن تأليف قاموس كامل من هذه المخاتلات التي نعتقد أن نصيب الوعي فيها اكبر بكثير من نصيب اللاوعي..
8- هل سنفاجأ إن وجدنا الكاتب يقتبس لتصدير كتابه: آخر أخبار المسألة الشرقية” (2003) هذا القول المضاد للتاريخانية لألبير كامو: “ليس للتاريخ عيون، ولذا ينبغي رفض عدالته والاستعاضة عنها بالعدالة التي يتصورها البشر”؟ بالتأكيد، إذا كان مطلبنا هو الاتساق. لكن لا قيام للإيديولوجية دون تعسف يضفي الاتساق على ما هو متنافر ( والوحدة على ما هو متعدد، والكلية على ما هو جزئي، والإطلاق على ما هو نسبي، والأبدية على ما هو تاريخي، والمفهومية على ما هو شعوري…).
9- لعل “وثيقة الحقوق المدنية للمواطن” التي أصدرتها مؤخرا “جبهة الخلاص الوطني” التي يشكل الإخوان المسلمون أحد قطبيها أول استجابة من نوعها لهذا القلق. تقرر الوثيقة مجموعة من الحريات والحقوق، أولاها: “حرية الاعتقاد والرأي والتعبير في الدين والسياسة والاجتماع والفن، ما لم تحتوي هذه الآراء على دعوة مباشرة إلى العنف، أو التحريض على الفتنة، وضمن حدود النظام والدستور”؛ والثانية: “حق الخصوصية في السكن والملبس وأسلوب الحياة والاتصالات المتبادلة، فلا تنتهك حرمة مسكن، دون إذن رسمي وأسباب موجبة، ولا يفرض زي معين على أحد، ولا تتدخل الدولة في عادات المأكل والمشرب لمواطنيها، ولا تراقب اتصالاتهم المتبادلة الخاصة، إلا بإذن رسمي وأسباب موجبة، كل ذلك ضمن النظام العام والدستور”، فضلا عن حريات أخرى.
10- النميمة الطائفية أكثر من شائعة، وتكاد تكون “مازة” جلسات المثقفين السوريين، كبارا وصغارا. كبتها بالطبع لا يجدي. المطلوب الذهاب إلى ما وراء النميمة، إلى المجتمع والسياسة والاقتصاد والعقيدة..

إعادة تكوين سورية: وردة أم قنبلة؟!
أحمد الخليل
(إلى الحالمين بـ والساعين إلى مجتمع علماني ـ عالمي قد يأتي وقد لا يأتي.
إلى عبد الرحمن الشهبندر ـ كمال جنبلاط ، تراجيديا المثقف العلماني في مجتمع ديني ـ طائفي).
بهذا الإهداء اللافت يتكثف موضوع كتاب محمد كامل الخطيب (وردة أم قنبلة ؟! إعادة تكوين سورية) الصادر حديثاً في دمشق.
في الكتاب يتجلى ضغط الراهن على الحالم منذ زمن بعيد بأن يكون أحد كتاب القصة القصيرة المرموقين؛ ولكن أمام انكسار الحلم وأمام قوة الشكّ ربما في جدوى الحلم؛ ينغرس الخطيب بالواقع محاولا تفسير ما جرى ويجري بروح الأديب وعقل الباحث.
إعادة تكوين سورية كما يصدرها الخطيب في مقدمته هي قصة الصراع الوجداني ـ النفسي لمدرس جغرافيا يدرس خريطة بلاده والعالم كما هي مرسومة على اللوح، ويعتقد هذا المدرس أن هذه الخارطة مزيّفة ومزوّرة ومرسومة على عجل أو هي أكاذيب في أكاذيب، ولكنّه لا يجرؤ على إعلان هذه الحقيقة أو فضح الأكاذيب.
الحراك الاجتماعي ـ السكاني في المنطقة العربية
لقد تجلّت النهضة في المجتمع العربي في أمور ثلاثة:
ـ التخلّف عن الغرب (تخلف الزراعة الشرقية ونمط حياتها عن الصناعة الغربية ونمط حياتها)، أي تخلف المجتمع الريفي العربي عن المدينة الأوروبية التي هي تشكيل صناعي ـ مديني.
ـ محاولة اللحاق بالغرب والدخول معه إلى مسرح الفعل التاريخي من موقع المشارك وليس من موقع المُستَلَب والمنهوب والمتأخر.
ـ الانتقال من اللاحم الإمبراطوري ـ الديني إلى اللاحم القومي ـ الثقافي أي الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة القومية ـ الوطنية.
وباعتبار أن النظام الرأسمالي ديناميكي وذو طبيعة انتشارية، فقد نظر إلى الشرق كسوق أي: المركز الأوروبي مدينة ومخزن وباقي العالم ريف.
إن امتداد الرأسمالية إلى مناطق الشرق له وجهان من ناحية استعمار ومن ناحية أخرى إدراج وتوحيد له في مسيرة التاريخ العالمي، فمنذ الحملة الفرنسية على الشرق(1798 )، وافتتاح قناة السويس (1869 ) عاد العالم العربي إلى فضاء الفعل التاريخي وساحته، ضمن هذا المنظور يضع الخطيب الانتداب الفرنسي والبريطاني للمنطقة العربية.
ونهضة شعوب الشرق تعني تكييف هذه العملية التاريخية لصالح الشعوب الشرقية، وليس الإبقاء عليها مستمّرة ومتحركة لصالح المسيطرين في النظام الرأسمالي، لذلك نهضة شعوب الشرق هي عملية بناء دولة وتحرر وطني كما هي عملية تحرر اجتماعي، وهذا هو جوهر الحراك الاجتماعي ـ التاريخي الذي تخوضه شعوب المنطقة منذ القرن التاسع عشر
هذا الإدراج للمنطقة، والحراك المذكور، هو عملية تحضير وتمدين ورسملة وتحديث لهذا المجتمع الريفي ككل وليس عملية (ترييف للمدينة العربية)، كما يحلو القول لبعض المفكرين والمثقفين ومنهم بعض الماركسيين. وهذا القول أي “ترييف المدينة”، يخفي (حسب الخطيب) في طياته بذور وعي أو لاوعي طبقي قديم أو وعي ولاوعي طائفي مؤسف، وهو قول يخشى الإعلان عن نفسه أو عمّا في نفسه، فيتقنّع بحذلقات (تقدمية أو علمية أو ماركسية طبقية ـ طائفية) على نمط (الماركسية العشائرية ـ القبائلية) التي هدمت اليمن الجنوبي في تسعينات القرن العشرين.
وينسحب الأمر نفسه على التقدميين الذين يتحدثون عن الأمر ويحللونه على أنه صراع الأقلية ضد الأكثرية بالمعنى الديني أو الطائفي، مع العلم أن مصطلحي “الأقلية والأكثرية” هما من المصطلحات المدنية والسياسية أما الطوائف والأديان فهي مجموعات فكرية شبه ثابتة، ملل ونحل بحسب المصطلح الإسلامي وليست خاضعة لهذين المفهومين السياسيين المتحركين، يقصد الكاتب بهذا النقد “إعلان دمشق المعارض”.
والأمر نفسه ينطبق على القائلين بأن الأفكار القومية والاشتراكية إنما هي أفكار أبناء الأقليات وهدفها ضرب الإسلام، متناسين أن الإسلام والمسيحية هما ثقافة وميراث إنساني وعربي عام، وليسا مجرد اعتقاد وطقوس أو مذهب ..، إذا كانت الأقلية والأكثرية هي أقليات وأكثريات سياسية ـ اجتماعية فكرية متحركة ومفتوحة حسب تحرك الأزمان والمصالح والأفكار والسياسات وتغيرها، وليس بحسب شهادة الميلاد التي تقضي وضعاً أبدياً والمثال على ذلك (كتابات محمد عابد الجابري وحازم صاغية وبرهان غليون وجمال باروت ..فهذا التحليل لحركة “أقلية وأكثرية” على أساس ديني وطائفي ومغلق هو طائفية وطبقية مقنعة إنها نظرة طائفية إلى الفكر والمجتمع والتاريخ.
عن الاجتماع البشري وتعدد الهويات
كل تجمع بشري (صَغُرَ أو كَبَر) يقوم على لاحم أو عاقد اجتماعي، وهذا العاقد أو اللاحم مرن ومتغير؛ فتارة تكون العائلة هي اللاحم وتارة الطائفة أو الدين أو الفكرة الفلسفية…. الروابط هي هويات واقعية بقدر ما هي متخيلة وظرفية بقدر ماهي قديمة ومتعددة بقدر ماهي واحدة؛ فالهندي قد يكون مسلماً وقد يكون هندوسياً والأمر نفسه ينطبق على الشيوعي الذي يمكن أن يكون صينياً ومصرياً لكنه يعيش في إطار دولة محددة.
هناك هويات مفروضة على المرء وهناك هويات مختارة. فكون المرء تركياً أو أسود العينين، يعود لمكان وزمان ولادته ووراثته (هوية مفروضة) معطاة مسبقاً، أما كون المرء شيوعياً أو وجودياً فهذا هوية مكتسبة أو هوية مختارة أي صاحبها هو من اختارها محاولاً تحرير نفسه من هويته التي فرضت عليه. ومن الممكن أن يخلع المرء هويته المكتسبة متى أراد، فالشيوعي قد يصبح بعثياً والفيثاغوري قد يصبح أفلاطونياً ولا يحدث ذلك استغراباً؛ أما تحول المسلم إلى مسيحي أو العكس أو زواج امرأة من غير طائفتها، فقد يؤدي إلى القتل؛ من هنا يأتي خطر الهويات المفروضة.
والنتيجة أن ما من هوية أو فكرة أو دولة أو حدود ثابتة أو خالدة. والبشر (أفراداً وتجمعات) يعيدون تجميع وتعريف وتحديد أنفسهم في هويات ومجتمعات بشرية بطرق متعددة وبحسب الأفكار والمصالح والأزمان وموازين القوى. فتركيا العثمانية انهار لاحمها الإسلامي عام 1924 ، واليوم تستعد لدخول لاحم جديد هو الإمبراطورية الأوروبية. مصر كانت شيعية وتسننّت زمن صلاح الدين وإيران كانت سنية وتشيّعت زمن الشاه إسماعيل الصفوي؛ وأسبانيا كانت مسيحية ثم صارت مسلمة؛ ثم عادت مسيحية وسورية، كانت مسيحية ثم صارت مسلمة وساطع الحصري كان عثمانيا ثم صار عربياً. وعائلة جنبلاط اللبنانية (العروبية الدرزية) تعود لأصول كردية حلبية…وأحمد فارس الشدياق خلع المارونية وصار بروتستانتياً ثم أصبح مسلماً..
عن الدولة العربية القائمة
خلال الحكم العثماني كان الدين الإسلامي هو اللاحم الاجتماعي والعقائدي وعندما وهن هذا اللاحم وضعفت أهميته اثر ظهور البرجوازية وفكرتها عن السوق والدولة القومية، تفتت هذه الإمبراطورية (العثمانية) كما تفتت إمبراطورية شارلمان المسيحية؛ ثم أنشأ كمال أتاتورك ما تبقى من الإمبراطورية دولة قوميةً بينما عجز العرب عن تشكيل دولتهم القومية عام 1916، ولم يستطيعوا فيما بعد إلا تشكيل دولهم القطرية، وحتى هذه الدول أخفقت لأنها لم تستطع تأسيس لاحمها أو عاقدها الوطني. ومنطقة بلاد الشام والعراق اللتان انفصلتا عن الدولة العثمانية هما مناطق أقوام وطوائف شبه منغلقة لم تصهرها بورجوازية أو صناعة أو حركة تنوير جذرية أو دولة، ولم تربط آمادها الجغرافية والبشرية والاقتصادية إلا رابطة اللغة العربية، من هنا جاء تأكيد مفكري القومية على عامل اللغة في الفكرة القومية.
الكيان السوري
يروي ساطع الحصري قصة الكيان السوري من خلال كتابه “الإقليمية: جذورها وبذورها” (بيروت ـ1963) ومحمد كامل الخطيب ترك رواية الحصري لنشوء الكيان السوري كما هي، فلا أحد، حسب الخطيب، يستطيع التشكيك بوطنية وعروبة وإسلام الحصري.
جاء في كتاب الحصري: يتباهى بعض السوريين بأن سورية موجودة منذ آلاف السنين ويتخذ هذا البعض ذلك ذريعة لطلب استمرار الوجود السوري، ولكن حقائق التاريخ لا تؤيد مزاعم هؤلاء بل تشهد أن سورية الحالية (1963) حديثة الوجود والكيان، ومدن دمشق وحلب ودير الزور وحماه وحمص ودرعا والسويداء والرقة واللاذقية موجودة منذ آلاف السنين، غير أن تجميع هذه المدن لتكوين سورية بمعناها الحالي لم يتم إلا بين 1918 و1943
ولا يجوز اعتبار دمشق عاصمة الأمويين دليلا على وجود سورية في عهد الأمويين كون أراضي الدولة الأموية تمتد من حدود الصين حتى سواحل الأطلسي.
ثم يستعرض الحصري كيف كانت تقسم الولايات والمتصرفيات واستقلالها وكيفية اندماجها خلال الفترة بين الحرب العالمية الأولى وحتى الثانية، ويستنتج محمد كامل الخطيب من رواية الحصري أن الكيان السوري الحالي حديث النشأة؛ أي أن ثمة مناطق جمعت وألحمت وتعاقدت وما كانت ملتحمة سابقاً. فحلب انضمت إلى دمشق بعد أن فقدت مجالها الاقتصادي الحيوي عقب الانفصال عن الدولة العثمانية بلاحمها الديني، وبعد عزلها عن العراق اثر دخول الإنكليز إليه؛ ومنطقتا الساحل وجبل العرب لم يُضمّا إلى لبنان حتى لا تختل التركيبة الطائفية فيه أكثر مما اختلت، بعد ضم الاقضية الأربعة وبيروت وطرابلس إلى متصرفية جبل لبنان التي حلّت عقب دخول الأتراك الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، ومن ثم إنشاء دولة لبنان الكبير. واللاذقية التي كانت تابعة لولاية بيروت ضمت إلى ولايتي دمشق وحلب بعد أن خسرت دمشق ميناء بيروت كمنفذ بحري عقب تكوين دولة لبنان الكبير وبعدما خسرت حلب، ميناء الاسكندرون عقب سلخه وضمه لتركيا، هذا غير فصل خالد العظم الاقتصاد السوري عن الاقتصاد اللبناني عام 1949.
وضم اللاذقية إلى الاتحاد السوري جعل الدولة السورية قابلة للحياة عبر هذا المنفذ البحري، وبدون هذه الواجهة البحرية كانت سورية ستبقى جزءاً من الصحراء العربية (فاللاذقية وطرطوس بدائل لاسكندرونة وبيروت).
أما اللاحم والعاقد الذي أقيم عليه الاتحاد السوري فهو فكرة العروبة البازغة آنذاك، وليس العاقد الإسلامي الذي جمع الجميع في إطار الدولة العثمانية، ولو كان اللاحم الديني لا يزال صالحاً عند تفكك الدولة العثمانية. والثورات السورية (ثورة صالح العلي وإبراهيم هنانو وسلطان الأطرش..) لم تقم على أساس ديني أو طائفي، بل قامت على أساس وطني ـ عربي، وقيام الاتحاد السوري على أساس اللاحم القومي ـ الثقافي (اللغوي) هو ما أتاح إدماج التعدد الطائفي والديني والمناطقي في فكرة وكيان الدولة السورية؛ ولذلك بقي الفكر القومي قوياً ونشطاً ولا حماً في سورية..
وما حدث في الخمسين سنة الأخيرة جعل فكرة الاندماج أو الاتحاد السوري حقيقة واقعة، ودولة أظهرت أنها قابلة للحياة، وهوية جديدة لتركيبة سكانية تسعى للتجانس والاندماج في دولة واحدة، أي هوية وطنية موحدة قائمة على الأساس الوطني وليس على أساس الدين.
لذلك وبناء على ما تقدم فان الدعوة أو العودة إلى برنامج سياسي يقوم على لاحم أو عاقد ديني إسلامي أو غير إسلامي أو طائفي، هي دعوة وعودة إلى ما قبل اللاحم أو العاقد القومي ـ الوطني ـ الثقافي أو التوافق الذي قام عليه الاتحاد السوري؛ ومثل هذه الدعوة هي تحويل للصراع الاجتماعي والسياسي إلى صراع مذهبي وديني، ما يشكل خطراً كبيراً على الكيان السوري. وتلك هي على كل حال الخطورة الكبرى لتوظيف الدين في السياسة في العصر الحديث ومن المؤسف أن يقع فيه بعض السياسيين والعلمانيين!!
فلا نريد استبدال الاستبداد العسكري واستبداد الحزب الواحد باستبداد ديني طائفي، خصوصاً إذا ما التحف هذا الاستبداد بشعار برّاق ومخادع هو “الأكثرية مقابل الأقلية”، على أساس ديني أو طائفي وحتى قومي. فهذه مفاهيم مدنية وسياسية وحزبية وليست مفاهيم دينية أو طائفية أو قومية، وهي عرضة للتبدّل والتحوّل بحسب الظروف السياسية؛ فالاستبداد الديني أخطر من الاستبداد العسكري والسياسي؛ بل هو أكثر زعزعة لأسس الدولة والكيان كما أنه يتدخل في شؤون الإنسان الحياتية اليومية وفي ضميره.
ويبقى السؤال المهم والأساسي في هذه الظروف هل ستجري إعادة تكوين سورية على أساس “عقلاني علماني ديمقراطي مدني”، أي على أساس تعاقد وطني اجتماعي متساو للبشر، أم تتم على أساس “الهي ديني طائفي عرقي” كما يحدث في العراق أو لبنان مثلاً؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى