صفحات الشعر

قصائد لخمسة شعراء

null
حسام السراي
اسم أبي

يفضحني أمام ملوك الطوائف
يوزّعني بين فراديسهم
يؤويني هذا
ويطردني ذاك
عنوةً أنخرط مع جموع المتمترسين
في حروبهم
ينطق قبل أن أتفّوه…
أمتارٌ عن كل نقطة تفتيش… هي المسافة بين الحياة وحياتي
فيهمس في أذني:
“هؤلاء من جماعتنا”
لا أفهم شيئاً
وأعود إلى ذاكرة الفراديس
فأعي همسه
بينما أُفلت من ضحكي
وأختبئ من فلول البكاء…
دلالاته تكبّلني
يملكني وأخسره
مجنيٌٌّ عليَّ وأسأله:
ماذا نكابد؟
فيحمد نصيبه من الأسماء
عبدٌ للأفاضل
أو الساقطين احيانا
يهتفون فنصفّق
يسرقون فنمدح
يبتهلون إلى السماء فنجوع
من أجل أن تبقى أناملهم ناعمة.

انفجار

جندٌ من الحديد والنار
ينصبون شراكاً حول الأشلاء
بينما مستطيلات الرصيف البيض
تنزّ دماً…
والصبيّ يجرّد حقيبته من علامة usaid
ليفرّ من الطوق الجنائزيّ
ثم يلتحف باستغراب والديه
من شبح جلبابٍ يركض وراءه.

لعبة تجاذب وتنافر

مصافحة الشرق للغرب
مفاخذة الغرب للشرق
مترددةٌ صامتة
أنا، أنتم، أولئك
إمّا متآمرٌ وإما ضحيٌة
احترابٌ أم اجتثاث
هذا الذي
برصاص مباغت
أو حزّ رقبة
يشحذ السكاكين.

جنائز الكتب

على مقربة من علبة ديموقراطية
وعود ثقاب من الإنعتاق
ما زلتُ أشمّ رائحة البارود
في الزقاق ذاته…
المثقف نائمٌ
وقد تأبّطه كتابٌ،
إلى جواره بعض مَن كتب على لحاه:
كل شيء من أجل المحرقة ¶

أحمـد عبد السـادة
ما جاء في مرثية المعرّي لنفسه

لم يكن لي سوى أن أضرم اليأس في قيثارتي
وأن أكمّم الهواء بصرخة ذبيحة.
لم يكن لي سوى أن أكلّل البداية بالفقدان
وأن أهدي للضوء جناحين من تراب.
لم يكن لي سوى أن أعتّق النار
لأصنع منها عيناً تطلّ على مقبرة الوقت،
تطلّ على العدم وهو يشحذ بروقـه ويضحك.
لم يكن لي سوى أن أعرف أن الوقت…
صندوقٌ من الأنين،
ونهرٌ لا تروّضه اللغات،
ومتحفٌ للصمت والشموس المحنـّطة.
لم يكن لي سوى أن أعرف هذا…
وأن أعرف أن دمي رمية نرد
أطلقـتْها شهوة أبي في غابة عمياء.
ولكنني أرى…
أرى العمى الذي أغرقتْ صيحتُهُ قلوبَ أسلافي
أرى أسلافي وقد عبـّأوا أيامهم بالسراب
وأيقظوا بذورهم في سورةٍ للقحط
وولّوا أسماءهم شطر أذانٍ تجعّد
شطر كتابٍ يلمّع الريب آياته.
ولكنني أرى…
أرى آياتٍ ملثّمة تتوعد الأغاني بالصدأ،
والمطرَ بوادٍ غير ذي زرع،
والمدى بمغارة لا تعرف القراءة،
والهواء بكفن أسود،
والنهار بشمس من الدم،
والمدن بقنابل هرّبتها خيول قريش.
لم يكن لي سوى أن أصاب بدوار الزمن
لأعرف أن الأيام بساتين جماجم،
لأعرف أن المكان مختنق بأضرحة لا تُـرى.
ولكنني أرى…
أرى العطش يزرع اقفالـه في الماء
أرى الماء مسجّى في تابوت من الرمل
أرى الرمل شاهدة كلّ شيء حي
أراه يشيّد نشيده المأتميّ في خفقة عسل يتقاسمها زوجان
أراه يدسّ نبضه الثـقيل في صرخة الولادة
أراه……………….
……………………….
وأرى حشود ذبائحه المتناسلة
منقّعةً بالغفلة
ومسحورة بذهب ميّت
ومحروسة بكلمات لم يزر أنفاسها الفجر.
لم يكن لي سوى أن أعرف أن الوقت ناعور
يحمل ماء البارحة إلى ساقية الغد.
لم يكن لي سوى أن أعرف أن الوقت…
إكليلٌ خالد على ضريحٍ اسمُهُ الماضي
كلّ آتٍ، إذاً، مدججٌ بانطفائه
كلّ لحظةٍ تطلّ هي عروسٌ أرملة.
لم يكن لي سوى أن أعرف أن دمي حوار
بين قاتل وقتيل.
لم يكن لي سوى أن أعرف أن دمي بريد مفتوح…
لرسائل العدم…
لذلك
كان عليَّ أن أحتكر قناديل عتمته
وأن أقفل رعبه على نفسه.
لم يكن لي سوى أن أعرف هذا…
لذلك
كان عليَّ أن أعاشر نجمةً عاقراً
وأن أستنجد بنهايةٍ لن تبذر النحيب وراءها.
هذا، إذاً، هو نزفي المنفرد
وهذه هي، إذاً، صحرائي الرحيمة
حيث لا وردة كي تساق إلى الذبول،
ولا ينبوع كي يوشم قلبُهُ بالجفاف،
ولا ضوء كي يحمل على حدبته ثروة الظلام،
ولا نرد كي تطلقه شهوةٌ في غابة عمياء.
هذا، إذاً، هو عدمي…
أتوكأ عليه
وأستدل به على حدائق الفجيعة،
على ربيع أطفأت شهيقه المناجل،
على سنبلة أكل النمل تنهيدتها العذراء،
على صباح اختنقت شرايينه بالرماد.
هذا، إذاً، هو عدمي…
يؤاخي جمرتـه الكاملة،
ويطفىء الوهم في مراياه المؤبدة،
ويدقّ خطوتـه في بوصلة بلا جهات.
هذا هو، إذاً، دمي الحرام يشنق صمتـه،
ويستظلّ بشجر المراثي….
ليعرب عن شمسه القتيلة ¶

مؤيد الخفاجي
ماءٌ على مجمرة

وإنْ
في خاصرة العمر أغمدتَ أمّاً أخرى
فلا تضع على الخيط الرفيع بين تقاسيمها الموغلة فيك
وبين طريق غائم يشبه أباك
غير ذاكرة قابلة للتفاوض والنسيان.
فلن تكون سوى ما تجتهد المرايا في شرحه الآن لك.
وما أفزع ظلّك حين انحنى عليه
في أوّل مرة ولدتَ فيها.
(للطفل الذي يطفو ويسيّره موجٌ مؤمن
ما له وما ليس له كان لسواه)
وإن في امرأة
تبعثر حاجيات قلبك وترمي منها ما استطاعت
رأيتَ المرفأ الأعرج
والمطر الزائف
والريح المليئة بالثقوب
فلن تجد غير نصفك الذي هو أنت.
(واضرب لنفسك مثلاً بالذي لم يخمد شهوته إلا بضلع تقدح روحاً
إذ ليس للخطيئة إلا ثمنها عنده
فحقّ عليه أن يعمّر وتنمو على يديه أدغالٌ من الآثام)
لنبيّ آخر
لا بدّ من إله يصلح أخطاءه
ولقارئة كفّ أخرى
لا بدّ من يدين لم تتلفهما الأدعية والأخذ المزمن
فماذا لديك؟
ماذا لديك غير هذا الغياب
كأنك عين الدجال التي اختفت من الحكايات العتيقة
وكأنك حبّة خال في وجه حياة لا تظهر على الآخرين
ما لديك؟
غير هذا الشرود
شرود حطّاب يمارس مهنته الوحيدة في شجرة أعوامه
وغير هذا الفحيح
صوتٌ منهك من فرط الصراخ على آلهة لا تكترث
وغير هذه الجمل القصيرة في الحديث عن الأسلاف والعائلة
(عبءٌ وكان انزلق ولم تره إبل قافلة تتضاءل، قافلة يلتهمها مدىً غامض وتذكّرتَ العبء وحدك لأن الفراغ أثقل، تذكّرتَ أن الزاوية التي أنت فيها محض التقاء ضلعين لم يكن لهما غير هذا اللقاء، وتذكّرتَ أن ليسوع ضلعين مثلهما، ولليتيم ضلعين غائبتين لم يكن لهما أن يمسيا أشدّ ضراوة، لأن الولد لم يكن غير ما اجتهدتْ مراياه في شرحه).
هكذا تعلّم زرادشت

ليكن الناي في فمك الآن والى الأبد
ولتكن الريح
طعم الهواء الفخم بين نهدي امرأة تمرّ من ثقب شهوتك وتمضي
كيف ترقص؟
وللأسى لكنة واضحة في لسانك أيّها الغريب عن موسم العيد
وكيف تبتلع سنبلةً جديرة بك أنت وحدك؟
والماكثون على تفاصيل أيّامك كالوشم على بشرة راهبة
كيف بهم؟
وكيف بالموت بديلاً منك
في عرسٍ أخلفتَ موعده؟
وتنتظر
لم تزل
أنثاك التي تناقلت ضفائرها أيادي الرعاة والصنّاع
أنثاك المسوّرة بأب
لا يحسن الحلول في لوحاته الكثيرة
ولا تتسع له مراثيك الشاسعة وأنت تلقيها على شفتي طفلته الوحيدة
الحياة
أنثاك
عبءٌ على عاتق ظلال هاربة
لسيّدات أريتهنّ الليل قبل الليل
والمطر متضرعاً على أزرار غيمة تستقبل الصيف
والمسامير في رطوبة صنوبرة
تعتلي سفحاً يطلّ على طفولة المسيح في الناصرة
أنثاك
التي لم تكن يوما لك
أنثاك المشاعة للقطيع
المضرّجة بلعاب أطفال لم تعرفهم
والمركوزة في العين الوحيدة لروّاف يستعدّ للفجر
والخيط الأخير في يد امرأة تقلّب الجيوش الغابرة
أنثاك التي لم تكن يوماً لك
وأنت تقتلع أضلاعك أنثى فأنثى
لتؤثث زاوية عزلتك الأخيرة بالرخام الأبديّ
ولم تكن لك
وأنت تدسّ أهدابك في حلكة الحبر
وترسم الدرب البتول لرحلتكَ العاقر
لم تكن لك
وأنت لم تكن ضوءاً بما يكفي لمرآتك الخامسة
ولم تكن قربةً بما يكفي لتحتمل الماء في صحرائك المشتهاة
ولم تكن كونا آخر بما يكفي لتغار منها وعليها كما فعلت
وهكذا تعلمتَ ممارسة الشيء في اللاشيء
تعلّمت حمل مصباحك المطفأ على حبل هاوية تشعّ
والسيّئات تعلّمتها وأنت تطلب الغفران من إله مائل جذبته إليك
وبالشجرة تعلّمتَ صيد العصافير
وبالغيب تعلّمتَ إخراج رؤياك من قفص الحلم الأعمى
وعلى ما ترى
وكما ترى
وإن رأيت
فأنتَ بقناعك الذي تقلّص عن وجهك
واضمحل
شهوةً شهوة
لم تجد بدّاً من أن يرافق أنثاك إلا غيرك إلى فردوس أعلى
لتنكر وجوده في ما بعد ¶

علي محمود خضير
وسواس

لا معنى لهذا الوسواس غير احتراق اليابس والأخضر من شجرة العمر.
كما تُقبل على بيوت متشابهة فتتداخل عليك أبوابها وروائح ساكنيها
وأيّ معنى لاختلاسك لحظة استرخاء بين ساعات طوال وأنت تصكّ على أسنانك ورأسك.
ايّ معنى من انتظار موت قادم لا محالة.
من اكتشاف أن يدك لا تعينك على كتابة سطر واحد.
أو، من اشتياقٍ لا يفضي إلا لوخزة باردة أيسر صدرك.
ومذ كان الموت ديناصوراً لا يطلع إلا من كتب بغلف خضراء، ويرتمي بهيئة تابوت على رصيف ضيق، كنتَ يومها طفلاً كامل الجهالة وكان رعبك دينار ذهب في صرّة بخيل.
وأنت، عبد الغد
نسّاءُ الأمس
كافر اللحظة
يا من تستدعي أشباحك واحداً بعد واحد لتفرش بهم ليلك. وتجرّ غدك بوسواس امسك. قديمةٌ ندوبك وساخنة.
فكابوسك الطفل لا يزال يشربك على عجالة منذ عشرين أو اقل، يشربك ثم يعيدك إلى الكأس نفسها وهو يضحك.
خيبتك عينُ أعمى صدق بوعد ظلمةٍ أسرته بفرارها فأمن، ليفتح عينه على ظلمة.
كخيبة طفل يلهو بطين لن يصير تمثالاً مهما دعكه وتمنّى.
قديمةٌ ندوبك وساخنة.
وأنت، قفاءُ آثار الغائبين
الراحلين إلى الهناك
لا فيء في قوادم أيامك
فلا تهدر من الهنا الكثير
وتـَوَقّ.
أما رعبكَ فحياتك.
توأما حزنٍ لن تفترقا حتى تعبرا الممر الأخير.
وأما أنت فحيرةُ طفل أمام بيوت متشابهة،
شجرةٌ كسلانة يحترق فيها اليابس والأخضر
وتعبث الريح بثقوبها دون معنى.

الحالم يستيقظ

ليست لي
هذه المكتنزة بالمسرة
شفيفة البسمة
محتالة اللفتات
ليست لي إذاً،
هذه الضحكة خلف الباب
همس العناق
وغواية الخدر
……….
حسناً لأفتح النافذة
فثمة مطرٌ خفيف يهبط
ثمة ريحٌ تسفّ بقايا العابرين
ثمة يومٌ جديد
الفاختات تطرد النحس
بلا يأس
تخطط الفاختات السماء الكئيبة
وتمضي،
تمنح الريح أسرارها
وتترك الريش للنوافذ
وللفجر هديلها المتصل
دون أن تدري
تصنع للصبيّ ذاكرة
للأعشاش دفئها
للبهجة أن تكون.
هذه الأسراب المتناثرة
على شرفات الصبايا النواعس
على نوافذ المسعولين
وأبواب الأولياء
والقباب المذهّبة العالية
لم تزل ترتق أحلامنا المشروخة بالخيبة
وكما يرجع أبٌ في مسائه خائباً
كما ينام صبية دون عشاء
تغيب الفواخت في العاصفة
وعندما تشحب أيامنا صبية كادحين
تفرك نعاس الزقاق بخفقها
تبارك الفجر لهم
والطعام.
لها ودّنا
لا ينقصه دمع الراحلين دون سبب ¶

نصير فليح
أن تكون هومير مرغماً

لا أقصد الشعر، بل أقصد العمى؛
جرّة المساء التي حُشِرنا بها
هكذا يمّحي كلّ لون لتبقى الصغيرة واقفة على شرفة أَطلالها. عندما يتقدّم الزبد، تدخل الشيخوخة الباب؛ وعند أولئك الذين لم يعرفوا الشمس، تكون العيون هي الشاهدة، التي تفتح الملتقى، وتتقي رمال البصر.
ثلاث ليالٍ ممطرة من الليالي الألف

الليلة الأولى:
هطل الهواء مدراراً، وارتدّت السماء بضع خطوات، عندما دخلنا شارع المقهى، صادفنا بائع: سادتي: في الدرب أعوام، من غيضة الدهر.

الليلة الثانية:
ظلّت المصابيح مُنارةً طوال النهار؛ كان العالم يتكدّس في المطر؛ والقوافل ترسل أبواغها في حبيبات صغيرة بين البيوت. البحر يلطم سرّة المقهى، والزرازير تتوزّع على أعمدة الرشيد؛ ساحة قديمة للطمي لم تندثر، ظلّت الروح تعرفها رغم النقاب الذي كدّسته الليالي.

الليلة الثالثة:
المرأة الساهدة؛ تشبه الفجر، والمدينة غارقة في سحره
كاراج المساء يحمّل العابرات شيئاً، من بقايا الحقيقة، ودار المساء الذي خلّفته الدروب.
شيخوخة

رغم الطمي في دجلة، رغم نار المكان وتهويمة الزورق؛ الجسد دائرٌ فوق الظهيرة، فوق الجسور القريبة من مبذل الحب.
كأننا أقلّ اكتراثاً بالنخيل؛ بارتداء الغروب جلبابه في فسحة، قد تكون إطلالة دون أن ندري، وقد يكون الهواء القديم على ماء دجلة شيئاً، من ظلال الهواء القديمة في كهوف الجمال.
نحن لم نعد نحلم كثيراً؛ تُرى؛ هل أرمل الحبّ، أم إنه المساء؟!
نقاهة

تتوقّف يوماً، لتكتشف أنك لست ما ظننت؛ والأهمّ من ذلك كلّه؛ أنّك لا أحد.
يتعدل لون السحاب، والمطر الذي يلتقيه، والزجاج الذي يحتضن المطر.
عند ذاك، لن تعود سوى نقطة، تتحرك على النهارات ورغم الألم والخوف، رغم التجذّر والصدى، ترسل سهمها الناريّ بعيداً في غابة، حيث لا تلتقي سوى الكثافة.
عبث

ها أنت تختار وجهاً، بين كل الوجوه المعلقة على فسحة للبازار
في نهاية الفسحة ساحةٌ، وخلف الساحة جامعٌ، ووراءه شارعٌ، وخلف البيوت إطلالةٌ، تقود كما الموت، إلى كلّ الوجوه.
مطر

الخيوط اللولبية الصامتة، تنعكس على جبهتك؛ فيستحيل الأحمر أخضر ثمّ ذاك الصفاء المميّز للشمس
خلف باحة الدار فسحة؛ كلبٌ صغير ينام بلا عزاء؛ فيما يحملق المطر، بعين صغيرة ذاهلة، ببقعة المساء تلك، التي تشبه الكلب ¶
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى