أحمد مولود الطيارصفحات ثقافية

“الغلس” تؤرخ لسوريا ما قبل الحداثة حيث سباتنا المستمر

null
أحمد مولود الطيار
” كانت محاكماته العقلية قد دفعته الى اتخاذ قرار نهائي بالموت في المكان الذي نبذته نفسه، في القطعة العسكرية التي يخدم فيها وتمريغ وجه هذه القطعة بالأرض برفضه وجودها في بيروت” .
الغلس – ماجد رشيد العويد – الدار العربية للعلوم ناشرون 2010
تمتنع ولا تدري أين ستقودك الأسطر إن تماديت مع حكاية الرواية. وعدم الدراية هنا وسبب الامتناع، خوف ما، إن تماديت فالضرر سينصب فوق رؤوس كثر، وأغلب السوريين يدركون “انصباب” غضب أهل “العقيدة النقية” – استعارة ماجد في الرواية – فوق رؤوس كتاب ومثقفين وصحفيين وزجهم في غياهب السجون والمعتقلات.
وطالما أن الحديث عن ماجد والرواية، فإنني هنا أسجل انتقاله المتقن على صعيد لغته من تلك اللغة ذات الطابع التراثي التي ظل يفاخر بها وهي لغته الجزلة (مجموعاته القصصية السابقة) إلى أخرى في “الغلس” جعلها تنزع عنها معجميتها وتراثيتها، فجاءت لغة “الغلس” رشيقة وسلسة ولا تحتاج إلى شروح في الهوامش كما اعتاد ماجد أن يفعل.
في “الغلس” يأخذ ماجد “الرقة” مدينته كمقطع عرضي لسوريا لأن “السنوات الأربعين من السبات” لم تختص بالرقة وحدها و”الشيخ حمود” المعجب بدموية الحجاج كان “فيض بركاته” تتشارك فيه كل سوريا من أقصاها إلى أقصاها. صحيح أن ماجد بروايته يهتم بإبراز البيئة الرقاوية ويشتغل على مفرداتها البسيطة ويسمي الشوارع بأسمائها الحقيقية ويستعير شخصيات رقاوية من لحم ودم، ولكن “شارع القوتلي” مثالاً – نسبة إلى الرئيس السوري الأسبق – القذر، هو ككل الشوارع في وطن بائس وإن دخلته الكهرباء لكنه بقي في سباته بعيداً ولم يدخل إلى الحداثة كما صور البعض، فأهل الرقة دخلت إليهم الكهرباء واستخدموا “الفيش” مكاناً يخبئون فيه إبرهم التي يخيطون بها أغطيتهم “فتكنتكوا” على صعق كهرباء وافدة إليهم وظل العجاج عدو “الفرات” سيد الموقف يلون ويطبع أمزجتهم.
يمكن القول أن “الغلس” تأريخ اجتماعي وسياسي واقتصادي لسورية. تبتدئ الرواية في “السنة الأولى من السبات” وصولاً إلى “السنوات الأربعين” حيث “الابن المفقود” يشكل خاتمة ذلك “السبات”، وبدون اختصار للرواية، تبدو الخاتمة في هذا الحوار الذي يدور بين سمية التي تدير ملهى ليلياً في حلب وبين هلال معتقل الرأي “اللي ما شفش حاجة” مفجعة:
واضح أنهم نالوا منك يا هلال ؟
ورد عليها يغالب حزنه:
أتعبوني فقط.
ثم تكمل هذه الخلاصة في الصفحة الما قبل أخيرة من الرواية الفجيعة: “راحا يقلبان معاً أيام الحرب العالمية، ويقلبان أيامهما معاً. كانت تلك الأيام أجمل وأكثر رحمة. لم يكن الفرنسي باحتلاله الأرض سوى مدافع عن مصالحه وكان الناس بسطاء كما هم اليوم، لم يُعذَّبوا من الفرنسيين كما يُعذبون اليوم من أبناء جلدتهم”.
هلال والشيخ حمود وجابر وسامية وخليل وقريب هلال الفنان التشكيلي الذي انتحر في لبنان أثناء خدمته العسكرية الاجبارية لأنه رفض قتل اللبنانيين، كلها شخصيات وإن ولدت وماتت في الرقة، إلا أنها شخصيات سورية حقيقية من لحم ودم، كذلك الشيخ حمود ورجاله عندما “أمسكوا بأحد معارضيه، عروه ثم قيدوه…. ربطوه ببارود وفتيل ثم أشعلوه. ابتعدوا عنه مسافة عشرين متراً، ثم ما لبثوا أن قاموا بتفجيره… أقيمت حفلة التفجير هذه أمام الناس، لم يردعهم أحد منهم….” حكاية نابضة في الرواية كما هي شخصياتها.
في “الغلس” سجون ومعتقلات، تعذيب وهتك للإنسان. في”الغلس” يدرك هلال أن لفظة “سجن” لم يعد يرى فيها حجزاً كاملاً أو مطلقاً لحريته. يتساءل: “ما نفع حريته النسبية خارج السجن؟” هو – هلال – الذي كان يؤمن بالجن وكل الخرافات يتساءل باستنكار وعبر مراجعة دقيقة للذات “ألم يكن سجين أوهامه؟” هو الآن بعد خروجه من المعتقل يعرف تماماً أن السجن حرره من الجن ومن سطوة “الشيخ حمود”. حرره من تصديق الكذب وأن عمه “الشيخ حمود” أسطورة كاذبة نحن صنعناها، لقد علمه السجن وهو الذي لا يفقه بالسياسة ولم يتعاطاها مطلقاً، علمه أكثر “من هذا الخلاء الرحب الوسيع”. كان خلاء “خاوياً جاف الروح”، إنما “كان… بعفنه وروائحه العطنة وإجرام القائمين عليه مملوؤاً بالمنشطات العقلية”. كان خروجه من السجن هو خروج من الظلمة إلى الفجر، وهو خروج شبهه “تماماً مثل تلك اللحظة التي يخرج فيها الإنسان من رحم أمه” حيث يصل إلى قناعة تامة بعيد خروجه “الحياة لا طعم لها بغير سياسة”.
في “الغلس” الكثير من المفاجآت، والكثير من النقاشات الصاخبة إن كان في السجن الكبير أم الصغير، فيها الكثير من التحليل النقدي والجذري لمراحل تقهقرنا منذ عصر ما قبل الحداثة إلى حاضرنا الذي هو أبعد ما يكون عن اللحظة التي دخلت فيها الكهرباء إلى الرقة وعن جسرها الشهير الذي بناه البريطانيون ويتشقق الآن في عهد أصحاب “العقيدة النقية”.
“الغلس” تؤرخ لما قبل الحداثة حيث سباتنا المستمر.
– بيروت
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى