برهان غليونصفحات مختارة

الجابري… منطق الفيلسوف ومعمار الفنان

د. برهان غليون
يرجع الفضل في تعرفي شخصياً على الجابري إلى الباهي محمد الذي كان شاعراً ومتحدثاً وأديباً كبيراً، فقدناه هو أيضاً منذ عقد ونيف، ولا نزال نحيي سنوياً ذكراه من خلال حلقة “أصدقاء الباهي”. كان الباهي صديقاً حميماً لنا، وكان قد عمل مع الجابري، قبل أن يقرر الإقامة في باريس، في “حزب الاتحاد الاشتراكي”، في التنظيم السياسي والصحافة. وكان يتصل بي حال وصول الجابري إلى باريس، فنلتقي في جلسات خاصة أو مع آخرين، نسمع إلى نكات الباهي وقصصه الشخصية المثيرة ومحفوظاته من أشعار الجاهليين. ونادراً ما كنا ندخل في نقاشات نظرية. وعندما كنا نتحدث بجدية، فغالباً ما كنا نتناول المواضيع السياسية، وأوضاع البلاد العربية؛ مشاكلها وأحزانها. كان الجابري مقلا جداً في تناول مشاريعه النظرية في الأحاديث العامة. كنا نقرأ بعضنا باهتمام، لكن من قبيل الفضول والتعرف على ما يفكر فيه كلانا، مع الإدراك العميق بأننا نعمل في اتجاهين نظريين متباينين تماماً، ولا يوجد هناك ما يجمع بين منهجينا في تناول مشاكل المجتمعات العربية.
فقد اهتم الجابري بالتراث، وسعى من خلال تفكيكه وتركيبه وإعادة بنائه إلى فهم مشكلات العالم العربي الراهنة، وللإسهام في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها مسألة تحول العرب التاريخي واندراجهم في العصر. بينما اتجهتُ نحو تجربة الحداثة العربية ذاتها، أي تحليل الواقع الراهن كمقدمة لإعادة بنائه في حقل السياسة، معتبراً أن التراث أصبح تراثاً بالفعل، ولم يعد محدداً رئيسياً في الواقع، ولا مفتاحاً لفهم أي مستوى من مستوياته. وبينما كان الجابري يشحذ أدواته النظرية والابستمولوجية لنقد التراث، كنت أبحث عن أدوات نظرية لنقد ما سميته الحداثة الرثة. وكنت ولا أزال أنظر إلى عملية البحث عن أسباب إخفاق الحداثة العربية في التراث كما لو أنه نوع من السحر الذي يفترض تحول الأوضاع انطلاقاً من روح خالدة تقطنها وتتحكم بمسيرتها ومصيرها.
وقد عبرت عن موقفي هذا في كتابي “اغتيال العقل” الذي كان رد فعلي المباشر على الجزء الأول من كتاب الجابري حول “نقد العقل العربي”. وعنيت أن لا أستخدم كلمة العرب لأنبه إلى أنه لا يوجد هناك عقل عربي وغربي، وإنما عقل أو لا عقل، وأن منهج النقد الذي يقوم على تفكيك الثقافة إلى عقول متمايزة: العرفان والبيان والبرهان، يبطل وحدة الثقافة ويفقدها ديناميكيتها التي لا تقوم من دون هذا التوتر الدائم والكامن في تباين نظمها وأنساقها. لكني حرصت على أن يكون هذا النقد من خلال بناء منهج مقابل حاولت أن أركز فيه على الديناميكيات التاريخية والاجتماعية التي تحكم تطور الثقافة بما فيها استعادة التراث وتمثله، وبنية العقل وانقطاعاته التاريخية ووحدته واتساقه أيضاً.
وقد اعتقدت ولا أزال أنه إما أن نجعل من الفكر ثابتاً يتطور بجدليته الداخلية، والواقع المادي والتاريخي يدور من حوله، وينتظم على وقع انتظام العقل، أو أن نجعل من تناقضات الواقع وجدلياته المتعددة الأبعاد، ومن انتظاماته كذلك، محوراً رئيسياً يشكل الفكر بعداً من أبعاده، يتأثر به ويؤثر فيه، أي أن نحول الفكر إلى جزء من تجربة تاريخية حية ومعاشة للفرد والمجتمع معاً.
لم أتعرض للجابري بعد “اغتيال العقل” أبداً. وهو نفسه لم يتعرض لأي نص كتبته بعد نقده العابر والخارجي لكتابي الأول “بيان من أجل الديمقراطية” والذي علق عليه، في كتابه “الخطاب العربي المعاصر”، قائلا: كيف يمكن الحديث في الديمقراطية قبل نقد العقل؟ ولم نكن قد تعارفنا بعد.
والواقع أنه رغم صداقتنا القوية، كنا مدركين، كلانا، أننا نعمل في ورشات علمية مختلفة تماماً، لكن اختلاف نظامي تفكرينا لم يكن يؤثر على علاقتنا الشخصية، كما لو أننا اتفقنا ضمناً على أن يجرب كل واحد من طرفه، أو هكذا كان شعوري الشخصي. وما كان هناك مجال لحوار نظري في مثل هذه الحالة. فالجابري الذي كان يمسك بقوة بأدواته المنهجية، ولديه تصور لما يريد عمله في تراث ثابت وناجز ينتظر مبضع جراح مكين، لم يكن معنياً بتشتيت ذهنه في أي نقاش مع الفكر الآخر. ما كان يريده هو إنجاز المشروع الضخم الذي ملأ فكره، فكان يأخذ ما يحتاج إليه من الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين، مشيداً بناءه الخاص به، يرتب غرفه حسب مخطط ارتسم في ذهنه، ويعين وظائف أقسامه، وأدوار رجالاته.
هكذا، ركز الجابري على العمق التاريخي والتراثي لواقع العرب الحضاري، أو بالأحرى المفتقر للحضارة اليوم، وركزت أنا على كفاح العرب، كشعوب وطبقات وطوائف وجماعات مصالح وأفراد، متأثرين بموروثهم الثقافي طبعاً، لكن بالتطلعات والآمال والحوافز الجديدة التي اكتسبوها من ثقافة عصرهم أيضاً. ومن الواضح أن النظرية، أي العقل العربي إذا شئنا، لا يمكن أن تكون جاهزة ولا مضمرة، لا في العقل ولا في الفعل. إنها تتبلور في الصراع، صراع الفاعلين الاجتماعيين. فالعقل واللاعقل، أي انسجام الفكر أو عدم انسجامه، هو انعكاس غير آلي لانسجام الفعل الجمعي أو تضارب عناصره. فهو لا يتبع الموروث الثقافي أو الروحي مهما كان وزنه، وإنما يعبر عن توافق مشاريع الفاعلين الباحثين عن إرضاء حاجاتهم والوفاء لتطلعاتهم وتعارضها. مما يعني أنه ليس هناك عقل جاهز، ولا عقلانية مجردة منفصلة عن واقع المجتمعات. والمعرفة نفسها معركة لا تبنى إلا في الصراع ضد استراتيجيات التشويش والكذب والخداع والتضليل التي يمارسها الفاعلون الاجتماعيون إزاء بعضهم البعض.
مقابل هذه المعرفة المشتتة والمجزأة، المنتزعة كل مرة بجهد خاص في فهم تجارب الفاعلين اللانهائية، كان بإمكان الجابري أن يبني، انطلاقا من إعادة تأويل تراث ثابت وجاهز، معرفة تأملية على شكل نسق جامع ومانع، تظهر عبره المدنية العربية في صورة بنورامية، واحدة، شاملة وكاملة الاتساق، تتحول بسرعة إلى مرآة يستطيع كل فرد أن يرى نفسه فيها ويتأمل ذاته ويتواصل مع أقرانه، من خارج الزمان والمكان.
بهذا المعنى، كان فكر الجابري مكتفيا بذاته، لا يحتاج في نموه وتكامله إلى أي عنصر من خارجه، أو للتفاعل مع غيره، كما لو أنه صب صبة باطون واحدة. وهذه هي طبيعة الفكر الذي يتشكل كنسق متكامل. فهو يعيد بناء العالم من حوله، ولا يترك لك إلا أن تأخذ به كما هو أو تتركه. لكنه لا يتركك مع ذلك ساكنا، ولا تستطيع إلا أن تسحر بهذا البناء المعماري الشامخ، وباليد الماهرة التي صنعته، أي الطريقة التي صاغ بها الجابري إشكالياته، والإجابات المنتظمة، الواثقة والمكتملة التي قدمها عن الأسئلة التي طرحها على نفسه عبر التراث وبمساعدته. ولعل أكثر ما ميز كتابات الجابري وعبر عنها، هو هذا السحر الذي مارسته على كل من قرأه، وجعل من اسمه أيقونة الفكر العربي المعاصر بامتياز. وحتى أولئك الذين انقلبوا على الجابري لم ينكروا ما مارسه عليهم بناؤه الهرمي الشامخ، بتقطيعاته الداخلية، وتنويعاته الوظيفية، ومعانيه الفنية، وزخرفاته الأسلوبية واللغوية… من سحر لا ينفد. ولا شك أن البناء العظيم الذي أشاده الجابري، في نقد العقل العربي، برز، وسيبرز لفترة طويلة، كحصن أمان واستقرار في واقع أصابه التصحر والخراب. وداعا للجابري وتحية وفاء ومحبة.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى