اسرائيلالتفاوض السوري الإسرائيليصفحات العالمقضية فلسطين

ريجيس دوبريه في عين العاصفة الصهيونية..

بول شاوول
في الذكرى الثانية والستين لاغتصاب فلسطين تحتفل اسرائيل بهذه المناسبة باعتبارها عيداً لاستقلالها: استقلال قوم قائم على احتلال أرض الآخر: رائع! انه احتفال جديد بالدم والنهب والمستوطنات وسرقة المنازل واحتلال الأراضي وتهويد القدس (بعد تهويد الجولان!). في هذه “المناسبة” السعيدة التي ترفع رأس “العالم الحر” افتخاراً بوليده أو بسفاحه الصهيوني… جاءت هدية جميلة تقدمة إلى بني صهيون من كاتب ومفكر كبير هو “الغيفاري” ريجيس دوبريه. والهدية هذه كتاب في صيغة رسالة وجهها الكاتب إلى صديقه الاسرائيلي ايلي برنافي (سفير سابق لاسرائيل في فرنسا تحت عنوان “إلى صديق اسرائيلي” (عن فلاماريون).
فدوبريه الذي ناضل مع تشي غيفارا وسجن في المعتقلات البوليفية، ودوبريه المستشار للرئيس ميتران، الذي تعرض لمهرجان أينيون في نقد لاذع، ودان سيئات الديموقراطية وجافى “دكتاتورية الفتوة (الشباب)، وهاجم انحرافات الصحافة المكتوبة، ولم يوفر بعض المثقفين، دوبريه هذا الحيوي باستمرار، و”الضد” باستمرار على غير سكينة ولا استقرار، ها هو في رسالة من 160 صفحة يشرح الظاهرة الاسرائيلية، ويفكك بربريتها ويشير بأصابع الادانة إلى سياساتها الاستيطانية والاجرامية وتهويدها وتهجيرها مئات الألوف وزج المدنيين الفلسطينيين في السجون، وقمعهم وقتلهم ونهب ممتلكاتهم. انها صرخة مدوية يطلقها مثقف مناضل وحر يعرف أن “الآلة الصهيونية” سترتد عليه وتسفه وقائعه وأفكاره وتضعه في خانة الأعداء.
مثقف فرنسي كبير يواجه ممارسات الدولة الاسرائيلية. انها مجازفة. تذكرنا بما حلّ بكثيرين من الكتاب والفلاسفة والفنانين الذين تجرأوا على قول “لا” لسياسة اسرائيل، واستراتيجياتها. نتذكر ادغار موران ومقالته الشهيرة في “لوموند” حول اسرائيل والصهيونية واليهودية.. والتي اقام اللوبي الصهيوني الدنيا ولم يقعدها عليه، متهماً اياه (وهو اليهودي) بمعاداة السامية! (يهودي ضد السامية!) وتماماًَ كما حدث مع روجيه غارودي الذي تجرأ وفكك الخرافة التي تأسست عليها الدولة الصهيونية من دون أن ننسى سيلين وكيف تعرض للاضطهاد باتهامه بمعاداة السامية؛ وصولاً حتى إلى الأب ونظن ان ريجيس دوبريه لن يسلم من هذه الحملات المبرمجة لتحويل الانظار عن الحقائق التي يوردها عن الدولة الاستيطانية الاسرائيلية وتشويه مواقفه وأفكاره ليبدو وكأنه مجرد معادٍ للسامية ككثير من المثقفين الذين لم تتحمل ضمائرهم السكوت عن جرائم الدولة العبرية.
واذا اعتبرنا ان الحدث الثقافي تمثل بكتاب الفيلسوف ميشال اونفري عن فرويد، والذي أثار فيه موجة من النقاش والردود التي ملأت الصحف والمجلات والجرائد الفرنسية باعتبار ان اونفري حاول تدمير “صنمية فرويد” متهماً اياه بالكذب والشعوذة واللاعلمية والنفاق والانتهازية وبممالأة النازية والفاشية، والمعقد بالاوديبية (الشخصية) والزاعم شفاء مرضى لم يشفهم، وحالات لم يحلها!
اذا اعتبرنا كتاب اونفري حدثاً فإن الحدث الموازي هو كتاب ريجيس دوبريه “رسالة إلى صديق اسرائيلي”. فبالنبرة الحاسمة والدقيقة والنظرة التاريخية والتحليلية وبعقل حر، حي، جريء، تعرض لكل ما ترتكبه اسرائيل في فلسطين.
بالطبع، استنفرت عليه اقلام وأصوات “يهودية” وفرنسية للرد عليه، منها “صديقه” السفير الذي وجه اليه الرسالة ايلي برنافي، وكذلك المخرج اليهودي كلود لانزمان وكذلك جان كريستوف رومات وايار كلينيرغ (مؤرخ يهودي) وآخرون… وهذا يعني ان بعض المثقفين الفرنسيين واليهود وسواهم، ما زالوا على عماهم خصوصاً بعض الذين يدعون دفاعاً عن “حقوق الانسان” وحق الشعوب في تقرير مصائرها ويدعون ادانة العنف والعنصرية والبربرية والاستعمار والفكر الاستيطاني لا سيما هذا المهرج برنار هنري ليي، هذا الصهيوني الذي يزعم انه “فيلسوف” (ومن الفلاسفة الجدد ايضاً) والذي وبعقله العنصري يبرر كل جرائم اسرائيل ويزور الحقائق في مقالاته الاسبوعية في مجلة “لوبوان” الفرنسية.
يقول دوبريه في كتابه (نتمنى ان يترجم إلى العربية) “اسرائيل تقدم نفسها كبطل الغرب في الشرق الاوسط: فبصفتي غربياً ، يحق لي ان اقول لمن يسمي نفسه “بطلي” ما توحي إلي ممارساته. ثم انا انسان وكل ما يعني الانسانية ليس غريباً عني” ويقول “هناك اسرائيلان اثنتان ولست يائساً من احتمال تغلب واحدة على الأخرى. اسرائيل الانغلاقية، المتقوقعة على نفسها، الانعزالية، النرسيسية، العنفية، العنصرية”. واسرائيل الاخرى التي تضيق آفاقها يوماً بعد يوم. اي تلك اسرائيل الأقلية باطراد، الديموقراطية والتي تعترف بحقوق الفلسطينيين.. وعليه يقول المفكر الغيفاري لم تكف اسرائيل عن نكء الجراح برش الملح فوقها كل يوم”، اذ يبدو ان الدولة الاستيطانية لم توقف سياساتها الاستيطانية عبر اقتلاع الفلسطينيين وتهجيرهم واحتلال اراضيهم. ويورد دوبريه ارقاماً مذهلة لا نعرف كيف تجاوزها هؤلاء الذين ردوا عليه: تدمير 18ألف منزل فلسطيني. 70 ألف فلسطيني اعتقلوا بطريقة أو أخرى منذ 1967. 11 ألف قتيل حتى الساعة. 500 إلى 600 حاجز في الضفة. وانطلاقاً من هذه الوقائع المسنودة يستخلص دوبريه: “لم يُكتب يوماً ان كرامة مستعادة لشعب تعني الانحطاط ولا التشريد المنهجي للجار ولا القمع ولا الترويع ولا الترهيب ولا الاهانة ولا الاذلال. لم يُكتب أو لم يُقل ان الانتقال من النجاة من الموت إلى الحياة يعني قتل مئات الألوف من المسلمين والمسيحيين باعتماد الطريق العكسي (43 بالمئة من الفلسطينيين يعيشون تحت عتبة الفقر). ويشير دوبريه في كتابه ان عبر العمليات العسكرية والأمنية الأخيرة قتل 1500 فلسطيني و450 طفلاً و140 إمرأة مقابل 13 إسرائيلياً بحسب احصاء اليونسيف”.
ويضيف دوبريه “اذا كانت البربرية تتحكم بالعالم فبأي معجزة يمكن ان يكون قد نجا الضحايا (اليهود) من اكبر عملية بربرية مع اولادهم. وركز على الشعور الفوقي التبريري ” فتميز وجود ما لا يشكل تفوقاً في النوع” انها طعنة في صميم النرجسية اليهودية التي ترفع شعار “تفوق العرق اليهودي باعتباره العرق المختار من الله!” (شعب الله المختار!) ويلتقي مع ادغار موران في مقالته المشهورة في تماهي الدولة الاسرائيلية واليهود والصهيونية “اذا كانت الكُنس ترفع العلم الاسرائيلي وتقرع الطبول فكيف تريدون ان يتعامل مثلاً “مغاربة البربيس” بجدية بعدم الخلط بين يهود فرنسا والدولة الاسرائيلية؟”.
ومن اجمل ما ورد في الكتاب “حقكم (اي الاسرائيليون) في الحياة مستقلين لا يستمد من الهولوكست وانما من اكثرية المجتمع الدولي” رائع! وكلنا يعرف ان اسرائيل رمت وراء ظهرها كل قرارات الامم المتحدة ومجلس الأمن والمجتمعات المدنية في العالم، رافعة الهولوكست بديلاً من كل ذلك، وتبريراً لقتل وارتكاب كل يوم “هولوكست” بهم.
ودوبريه الذي صرح “اعرف انهم سينقضون عليّ” اي اللوبيات الصهيونية داخل فرنسا وخارجها سواء على المستوى الصحافي او الفكري او الفني. والغريب ان الردود المباشرة التي اشرنا اليها ونشرت في مجلة “لوبوان الفرنسية” (حتى الآن) كانت “مطلقة” وشعاراتية وخطابية وعدوانية. اذ لم يرد واحد من هؤلاء على ما اورد دوبريه من وقائع وارقام وتصريحات. وانما تجاوز كل ذلك ليحول بعضهم المسألة إلى “عاطفية” او شخصية ونفسية او دعائية.. او اعلامية او عدائية. وفي طليعة الذين ردوا عليه المخرج السينمائي كلود لانزمان الذي عمد إلى الديماغوجية وتزوير الوقائع وتبرير الاستيطان والقتل ليحول الضحية الفلسطيني جلاداً والجلاد الاسرائيلي ضحية كما هي العادة منذ ما قبل اغتصاب فلسطين. واجمل ما قاله هذا المخرج الصهيوني المُعلّب عن كتاب المفكر الفرنسي “اضجرني نص دوبريه” آه! نعم اضجره لأنه فضح ما فضح من اكاذيب الكيان ليحلل وما “ابهى تحليله” عندما يضيف: دوبريه يتكلم بالمعادلات وكل صيغة من صيغه وبدلاً من ان تقدّم الفكرة فانها تجمدها” (!) ليتوصل لانزمان بذكائه العنصري إلى القول “كأنما يريد دوبريه ان يبرهن في كل لحظة انه ذكي…” وينتقل هذا المخرج البوق إلى محاولة الغاء حتى رأي دوبريه عندما يقول “دوبريه يماشي الأجواء السائدة في مرحلة كاملة من الأفكار المشتركة المعادية لاسرائيل والتي تغذيها وسائل الاعلام.. ليلعب دور الفارس” ليخلص إلى هذا الحكم السخيف” دوبريه ليس فقط انه لا يحب اسرائيل بل انه لا يفقه شيئاً عنها”. هكذا وصم هذا المفكر الكبير بالجهل، والتواطؤ والانخراط في جوقة “معاداة اسرائيل”! انها اللغة السائدة عند المثقفين المتعاطفين مع الكيان الصهيوني او اليهود المتعصبين. والغريب ان “مفكرين” يُزعم انهم كبار أو فنانين “عالميين” مشهورين بتعاطفهم مع “المنبوذين” والمقهورين والمظلومين والمضطهدين، يبدون عماء بالنسبة إلى الكيان الصهيوني فينحازون إلى القتلة والمحتلين واللصوص على حساب الفلسطينيين.
انها لعبة الازدواجية والفصامية والعنصرية معاً والتزوير؛ واسوأ ما صرح به مثلاً لانزمان انه من الخطأ القول ان معظم الشعب الاسرائيلي صار متعصباًَ ومتطرفاً بل ان هؤلاء أقلية وان الأكثرية التي وصفها هي التي تصنع ديموقراطية اسرائيل! انه رد سخيف تدحضه نتائج الاستطلاعات وكما دحضته نتائج الانتخابات الماضية التي فاز فيها اليمين المتطرف واوصل نتننياهو إلى رئاسة الحكومة اكثر: لم يجبنا هؤلاء عن سؤال: لماذا الشعب الاسرائيلي (بما انه ديموقراطي مدني) مفتون بالجنرالات والضباط ومجرمي الحروب الذين ينتخبون ويكتسحون صناديق الاقتراع و”الضمائر” الجماعية في الكيان الصهيوني.
لم اعجب بدوبريه اعجابي به في كتابه الأخير حيث وقف وقفة المثقف والمناضل الشجاع في وجه عتاة اللوبي الصهيوني علماً بانه يعرف جيداً ما آل اليه وضع بعض الذين واجهوا الكيان وجرائمه كادغار موران وشومسكي (الذي منع قبل ايام من دخول اسرائيل لأنه ضد سياستها الاستيطانية ومع حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. شومسكي هذا المفكر الاميركي (اليهودي) الكبير، المفكر اللغوي والسياسي والأدبي والفلسفي الذي شنت عليه اللوبيات الصهيونية الأميركية وغيرها حملة تشهير وتشويه وادانة واتهامه بالانحياز إلى “الارهاب” وخيانة شعبه المختار من الله! وكذلك روجيه غارودي.. ومن قبله سيلين! اذاً دوبريه يعرف ما ينتظره. ويعرف التهم التي ستوجه اليه، التهم الجاهزة لكل من ينتقد السياسية الاسرائيلية: معاداة السامية، الانحياز الى الإرهاب الفلسطيني، خيانة شعبه؛ وايضاً نعته بالجهل، والغباء.. كما فعل هذا المريض العنصري لانزمان وكما قد يفعل بعض العباقرة من الفلاسفة والمفكرين الجدد كبرنار ليي او فالكلروت أو حتى كلوغسمان…
من دون ان ننسى بعض الانتهازيين الذين يساندون اسرائيل ارتباطاً بمطامعهم الخاصة.
المهم، انه في ذكرى اغتصاب فلسطين الثانية والستين وفي ظل “احتفال الكيان الاسرائيلي” بالدم الفلسطيني وبالاحتلال والجرائم جاء صوت عال! جاء ضمير ثقافي انساني فكري عالٍ، وقدم للقتلة هدية رائعة كل ما فيها ينضح بادانة اسرائيل وكشف الوقائع والوقوف مع الحق الفلسطيني!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى