ميشيل كيلو

النظام الشمولي والمواطن


            ميشيل كيلو

بلغ اليأس عند المواطن العادي والبسيط مبلغه. وبلغ غضبه، خاصة إن كان غير مسيس، درجة الشماتة بوطنه والتنصل منه. ولم يعد خافياً على أكثر الخلق بساطة وهامشية ان هناك أزمات لا يرغب أحد من أهل الحكم في التصدي لها، أو لا يستطيع حلها، وأن هؤلاء سعداء لأن ضحيتها هو المواطن المسكين، العاطل عن العمل في أحيان كثيرة،
القليل الدخل والمستبعد من الحياة العامة دوماً، في حين يفيد منها المسؤول، الجهة، التني تنهب عوائد عمل الشعب وثروات بلدها القليلة، التي لم تنهب بعد، وتتخذ السلطة مواقف تشي بعدم فهم ما يحدث أو بعدم الاكتراث به، وتتبنى أولويات غير تلك التي يجب أن تلزم نفسها بها وتعمل على تحقيقها؛ أولويات تحول بينها وبين الاهتمام الجدي بأية مشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية… إلخ، حتى صار العربي العادي، المواطن البسيط، يعتقد أن حكومته ليست في الحقيقة غير لعنة نزلت به، وعقاب سماوي فرض عليه، وأنه ضحيتها لذنب يجهل أنه اقترفه.

 

من المعروف أنه لا توجد أية صلات بين المواطن وحكامه، فإن وجدت كانت من أسوأ نمط، أي من النمط القائم على طابع سلبي وشحنة عدائية تجعل منها علاقات تناقض وتناف متبادل، فهي تدفع الحاكم الى إذلال المواطن، وتجبر المواطن على قبول نوع مخيف من الهوان يعبر عن نفسه في احتمائه من حكامه بالخوف، حصنه الآمن، الذي يعتقد أنه يستطيع وحده حمايته وإبعاده عن عين الحاكم ويده، ووضعه في موقع الميت الباقي على قيد الحياة، أي الذي يعيش دون أن يمارس الحياة، فكأن المواطن يعرف بحدسه أن السعيد هو من لا يرى حاكمه ولا يسمح لهذا برؤيته، وأنه لا يكون سعيداً، إلا إذا انسحب من الحياة وتواري وراء أسوار خوفه المرتفعة، ليس لأنه يريد أن يراقب ما يجري حوله، بل لأنه لا يريد أن يرى أي شيء منه، ولا يسمع أي خبر عنه.

في ظل سلطة استأسدت على المواطن، وفرضت حضورها الأمني في كل مكان من وطنها، وخاصة داخل قلوب وعقول مواطناتها ومواطنيها، تأرنب هؤلاء وصار لهم هدف وحيد هو الاختفاء عن أعين حاكمهم المعادي لهم، الذي يعرف أنه يلاحقهم ويرصدهم، ويسعى الى بث الذعر في أوصالهم، ويقرر كل شيء في حياتهم، بما في ذلك رغباتهم الدفينة وعواطفهم المكبوتة، بعد أن نجح في تقطيع صلاته بالآخر، الذي قد يكون مشروع جحيم بالنسبة له، بالمعنى الوجودي للكلمة، فهو قد يشاركهم الألم والذل ذاتهما، لكنه ليس رفيقهم أو صديقهم، إنهم الغرباء الذين لهم مصلحة في تعرضه لبطش السلطة، ما دام نزوله به يمتص شيئاً من زخمه ويحول دون وصوله إليهم، فمن الحماقة، إذن، أن يحتج أو يعترض عليه.

لكن المأساة لا تتوقف هنا. فالنظام الذي يسحق مواطنه يصير بمرور الوقت شبيها به، أرنباً خائفاً ومذعوراً في الداخل، ونعامة تدفن رأسها في الرمال كي لا ترى الخارج. ذلك، يجعل سقوط المواطن مقدمة لسقوط الوطن، وسقوط العباد أول سقوط البلاد، ويمكّن الكارثة من بلوغ من هم فوق وضحاياهم الذين تحت، ويجعل كل ما هو غال ونفيس رخيصاً: من الاستقلال الى الحرية الى الكرامة الوطنية… وكل ما هو أصيل وجوهري طارئاً وزائلاً: من حق الفرد في الحياة الى حق الدولة في الوجود.

مضى حين من الدهر اعتقد حاكم النظام الشمولي فيه أن انفراده بالحياة العامة مصدر قوة له، وأن إخراج المواطن منها علامة على سطوته وقدرته. واليوم، يبدو من الجلي أن لا قوة لدولة تذل مواطنيها، ولا كرامة لحكومة صادرت كرامة شعبها، ولا قوة لنظام أضعف مجتمعه وزرع الخوف في قلبه، وأن المواطن هو الأساس الذي عليه تنهض حياة الدولة، والذي ينهار كل شيء فيها، إذا ما انتفى وجوده أو أجبر على الانزواء وراء جدران عجزه ويأسه!

هل يفهم الحاكم العربي هذه الحقيقة فينجو بجلده، أم يواصل تقويض وجوده بتقويض وجود جذر السياسة والشأن العام، عنيت المواطن العزيز الحر، الذي لم يعرضه نظام للاذلال أو التهميش إلا وتداعى كبيت من كرتون أو كقصر من رمال؟

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى