روزا ياسين

نيغاتيف (رواية توثيقية) من ذاكرة المعتقلات السياسيات – الحلقة الأولى

null
روزا ياسين حسن

لا أعرف إن كان ثمة ما يسمى: رواية توثيقية!

لكني أعتقد أن التخييل هو الفضاء الذي تزهر فيه الروايات. والتوثيق عكس ذلك تماماً. أي أن الدروب تحت تأثيره تكون مرسومة قبل البدء بالكتابة! بالتالي فالعالم التخييلي، الأجمل في السرد برأيي، هو في التوثيق محدّد بمسارب لا يحيد عنها، بنهايات منجزة سلفاً، وبشخصيات معروفة ومؤطرة خارج تطور لغوي، ينبغي أن يكون حراً، وخارج تنويعات السرد والحكاية يعبث بهما الخيال الخلاّق.

لكن الأمر كان هنا مختلفاً!

لأن التخييل سيعمل، كالعادة، على ليّ القصة الحقيقية. بمعنى آخر سيعمل على حقن ما حدث بنكهة ما لم يحدث، بالتالي ستبقى التجارب، المتاهات، الحيوات، كل ما كان هناك ولم يكتشف، ولم يعرف عنه، قيد التخييل فحسب. وهذا ما لم أرده.

كان علي إذاً أن أضحّي بروعة التخييل الروائي، الذي ما زلت من أشدّ المتحمسين له، في مقابل حفظ الحقيقة، أو لنقل، بمعنى أدق، حفظ التجربة.

ولمَ رواية؟!

ربما لأن ما حدث هناك لم يحدث إلا لتكتب عنه الروايات.

روزا ياسين حسن

دمشق 2007

* * *

بمثابة مقدمة:

وأسير غدا له السجن لحدا

فهو حي في حالة الملحود

البحتري

(إني أتحصن في هذه القلعة، وأكابد هذا الحصار، لا لكي أرضي سلطاناً أو أحمي إمارة، إني هنا كي لا يقال في قادم الأيام اجتاح تيمورلنك هذه البلاد ولم يوجد من يقاوم).

مقولة أطلقها أزدار آمر قلعة دمشق: الشخصية المؤثرة في مسرحية سعد الله ونوس “منمنمات تاريخية“.

ستتلخص في هذه المقولة، برأيي، فكرة أساسية قد تنظم نسقاً كاملاً من حيوات الدونكيشوتيين الفدائيين، حيث يندرج المئات وربما الآلاف ممن وقفوا في وجه الطغاة على مرّ الزمن، الذين كانوا باعتقادي موقنين أن الطريق إلى النهاية قريب، وأن ما ينتظرهم إما أقبية السجون المظلمة أو حبال المشانق أو الرصاص الغادر.

تجربة المعارضة السياسية في بلاد الديكتاتوريات، وبمختلف أطيافها، جزء لا يتجزأ من هذا النسق، سواء بعملها السري أو العلني، هي التي عملت على تأكيد مقولة بريشت: فغداً لن يقولوا كان زمناً صعباً، بل سيقولون لماذا صمت الشعراء؟.

التجربة النسائية بين صفوف المعارضة تؤكد أيضاً على ذلك، وما تجربتها في المعتقلات إلا انسحاب لإجهار الصوت في زمن الصمت، حين تتحوّل الأنوثة، بمعناها التاريخي النظري والمكرّس، لتصبح قادرة على الوقوف في وجه الطغيان وظلمة المعتقلات.

كان من الممكن أن يستمر العمل بهذا الكتاب لسنوات أخرى! ذلك أن عدد المعتقلات، اللواتي رحت أكتشفهن كل يوم، كان يزداد ويزداد! هذا ما جعلني أضطر إلى حصر العدد وإلا فلن ينتهي الكتاب. فيما لم يملكني وهم الإحاطة بالتجربة كاملاً في كتاب واحد، لأنها، حقيقة، تحتاج إلى كتب كي يتم رصدها بشكل وافٍ.

أثناء بحثي كنت أصطدم على الدوام بالرعب المعشش في قلوب الكثيرات من المعتقلات، خاصة المعتقلات الإسلاميات، مما جعل تجربتهن تبدو، على الرغم من كل المحاولات للإحاطة بها، ناقصة، فأية واحدة قابلتها منهن لم تجرؤ على الكلام، عدا استثناءات قليلة جداً، وسط هيمنة الخوف القديم في دواخلها. وأعتقد أن هناك بحقّ ما يبرر ذلك الخوف. لذلك كان لابد من اتباع أساليب مختلفة لكشف بعض الجوانب المتفرقة في تجاربهن الغنية، وفي كشف الحقيقة الأكثر غنى، بمعناها الإنساني المؤلم، من كل التجارب الأخرى. وعلى الرغم من قناعتي أن الإيديولوجيات تغيب في المعتقل، وهذا ما حاولت أن أسلّط الضوء عليه، إلا أنها ستبدو حاضرة هنا بشكل أو بآخر، ذلك أن ما تعرضت له المعتقلات الإسلاميات مختلف عما تعرضت له الشيوعيات (باعتبار أن الكتلتين الأساسيتين للمعتقلات كانتا من هذين التيارين).

لكن ثمة أمر رافقني طيلة فترة العمل كاد يتحول إلى هاجس، وهو أن أختار بين أمرين أساسيين: الوفاء للتجربة غير العادية، أو الوفاء للكتابة. أنا شخصياً اخترت الأخيرة لإيماني ألا تجربة تستمر إلا حين تدوّن، والضياع كتب على كل شيء لم ينقش في الحجر. ذلك أن ما استحوذ على اهتمامي، منذ اللحظة الأولى، هو أن أستطيع إخراج كتاب ممتع إلى قارئ مفترض، كتاب يحاول أن ينقل، لذلك القارئ أيضاً، بعض الويلات والانتهاكات التي ارتكبت بحق النساء، والرجال على السواء، دون أن يعلم بها.

لذلك قد يبدو لقارئ ما أن تجربة كاملة تلخصّت في الكتاب بقصة واحدة أو قصتين!. الأمر لا يعني، بكل تأكيد، تقليلاً من قيمة التجربة برمتها، ولكن ربما كان له علاقة بما قلت قبل قليل: الوفاء للكتابة فحسب.

لطالما ناوشتني في هذا الموضوع تساؤلات عدة:

لِمَ الكتابة عن السجن؟

هل سيحقق النص الجمال المطلوب؟

هل سأغدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟

يرى إيتالو كالفينو، الكاتب الإيطالي، إننا في الكتابة بحاجة إلى تركيز فولكان، الإله الحداد القابع في فوهات البراكين، وحرفيته المهنية لتسجيل مغامرات عطارد، الإله الخفيف الرشيق بقدميه المجنحتين.

أسمح لنفسي أن أستعير القول هذا في معرض حديثي: كم نحن في حاجة إلى حرفية اللغة ودلالاتها اللامتناهية وإلى نحت الكلمات كي نستطيع التعبير عن ذاكرة السجون المعششة في أرواحنا! وكم نحن في حاجة إلى ألم السجن وتجربته المشدودة كوتر في أعماقنا كي نهب اللغة تلك الحقنة من الواقعية المؤلمة حد الإنهاك! ولأن تجربة المعتقل تجربة من غير الممكن تدوينها، كما قلت آنفاً، في كتاب، ولن ينجزها كاتب واحد بالتأكيد، ولأن كل ما يدونه المرء يتحول، شاء أم أبى، إلى نسخة ممسوخة بل مشوهة من المعيش، لذلك ينبغي معاملة الكتاب، وكل ما يمكن أن يكتب عن السجون، كومضات ضوء تتوالى في العتمة، لن يتضح المشهد إلا بتوالي تلك الومضات وتكثيفها في تجارب متعددة بتعدد مسارات الطغاة، متنوعة بتنوع أساليب تعذيبهم وقمعهم، وعميقة عمق أقبية السجون.

لنعتبرها إذاً محاولة لتدوين جزء من تاريخ نسوي سياسي غيّب سنيناً طويلة كما غيّبت تجربة المعارضة عموماً وبمختلف أطيافها. باختصار، التجربة لا تقال بعيداً عن ظرفها الإنساني. المهم هو الخروج من الجحيم وأنتن ما زلتن مفعمات بالحب والحياة والرغبة بالفرح.

إلى لينا. و، عرفاناً بالجميل يا صديقتي.

إلى ناهد. ب وهند. ق وضحى. ع، ابتساما تكن أضاءت الكثير من المناطق المعتمة داخلي.

إلى كل الصبايا المعتقلات

عليكن العمل كثيراً لفضح القليل من المسكوت عنه.

* * *

في كتابه “أنت جريح” يترجى الكاتب التركي أوردال أوز جسده، بلسان بطل روايته، كي يساعده على الاحتمال أثناء التحقيق، يترجّاه كي يصمد كيما يحمله سالماً إلى منطقة الأمان. ومنطقة الأمان هنا مختلفة اختلاف الزمان والمكان والشخصية والتقنية المستخدمة والخاتمة أيضاً!

حين ينتهي التعذيب يشكر معتقل أوز جسده، من كلّ قلبه، لتبدأ حياة السجن المتطاولة الممتدة.

همست لينا.(1) أن كلمات أوردال أوز، وحدها، كانت ترنّ في أذنها وهي تتلقى ضربات الكرباج اللاسعة على باطن قدميها. بلسانها كان بطل الرواية يترجى جسدها أن اصمد يا جسدي، وبروحها كانت الرواية تنكتب كلمة كلمة! حين انتهى التعذيب شكرت هي الأخرى جسدها، كما فعل بطل “أنت جريح” تماماً. لكن ما قرأته لينا بدا شديد التأثير قبل اعتقالها، وجعلها تشهق منتحبة لساعات ممتدة، تحوّل إلى حكاية هزيلة ومجتزأة إذا ما قورنت بالذي عاشته داخل المعتقل خلال سنوات سجنها الطويلة!

تتحوّل الكتابة في مواجهة المعيش قزماً لا يستطيع أن يبلغ مبلغ الرجال، أو مسخاً عاجزاً ومثيراً للضحك. لأن ما تلمسه أجسادنا، لمس الحقيقة، لا يمكن للغة، مهما فاحت منها رائحة التجربة، أن تجسده بعمقه الجوّاني.

ـ هذا ما يحدث تماماً.. تتغير كل نظرتنا إلى الحياة بعد أن نخرج!

أعقبت حديثها.

كلماتها تلك كانت أشبه بأسطورة أورفيوس(2).

ذلك أنه لم يكن قد مضى وقت طويل على زواجه من حبيبته يوريدس حين لدغتها أفعى قابعة في العشب. ماتت وهي بعد عروس شابة. صدح أورفيوس بحزنه لكل من يتنفس الهواء من الآلهة والناس، فلم يجد أحداً يبحث له عن زوجته في أقاليم الموتى. حينئذ قرر أن يهبط بنفسه لإنقاذها من العالم السفلي عن طريق كهف مهجور وعميق. هناك، في مجاهل الموت، وقف العاشق أمام عرش بلوتو وبروسربين، عزف على قيثارته، وغنّى باكياً وجده.

كان غناء أورفيوس مؤثراً حتى أن إلهيّ العالم السفلي سمحا له باصطحاب حبيبته إلى عالم الضوء، عبر ممرات الظلام الشاهقة، شريطة ألا يلتفت إلى الوراء حتى يخرجا إلى الهواء الأرضي.

سار الحبيبان بصمت مطبق حتى اقتربا من المخرج. لكن هاجس فقدانها من جديد جعل أورفيوس يلتفت إلى الوراء ليلقي نظرة على حبيبته، نظرة واحدة لاغير. هكذا خسرها إلى الأبد.

هل يكون لظلام السجون ظلمة العالم السفلي! وذلك السّلم الشاهق، يفصل صقيعها القاسي عن دفء الخارج، هو الدرب الطويل ذاته الذي يقطعه كل معتقل ومعتقلة في محاولة للتخلص من رواسب الانكسار والألم! رواسب تراكمت على أرواحهم خلال سنوات السجن!.

ستبدو نظرة أورفيوس إلى الوراء كنظرة المعتقل/ المعتقلة إلى سنواته/ سنواتها المنقضية في هواء السجن الفاسد! لكن ربما كان ما نمضيه في السجن يبرمجنا لنوع من التهديم الذاتي(3)! وعلينا أن نحارب ضد هذا الشعور الذي يبقى معنا حتى عندما نخرج من السجن.

لمَ لا يكون مجرّد نبشنا لممارسات القمع هو طريقة للخلاص منها، طريقة لمقاومة ذاك التهديم الذاتي يأكلنا من جوانيتنا.

لكننا نكتشف حين نخرج أن الحكاية مختلفة تماماً. نكتشف أن هناك مناطق من أنفسنا حرقت نهائياً وليس من السهل أن نتابع الحياة معها. تغدو تفاصيل العيش بعد السجن مختلفة تماماً عما كانت قبله.

الحب غير الحب!

الفرح غير الفرح!

حتى للذة طعم مختلف.. كأن الروح استحالت إلى روح أخرى!

ربما كان أهم ما نستطيع فعله هو أن نبقى أناساً، بكل ما تعنيه الكلمة من حياة وفاعلية، أن نسير أبعد من طعم ذلك الرماد الذي بقي في أفواهنا.

هل تبدّل الكتابة طعم الرماد؟!.

ربما بدّلت ذلك لدى الكاتبة المصرية فريدة النقاش،(4) وهي أول من سجّل تجربة المعتقل بقلم امرأة عربية، بعد أن سجنت طويلاً كمعتقلة سياسية في سجون السادات. ثمة جملة أطلقتها النقاش في الكتاب ربما كانت تيمة أساسية في بلاد الطغاة، كل الطغاة:

(لم يعمل أحد بالسياسة من أبناء جيلي ويفلت من تجربة السجن. أصبح السجن إذاً جزءاً من الوجدان الوطني العام).

هذا ما تؤيده كاتبة أخرى، اعتقلت طويلاً في السجون المغربية، وهي فاطمة البويه(5).

دوّنت البويه كتابها في المعتقل، ثم نشرته بالعربية بعنوان: حديث العتمة، وبالفرنسية بعنوان: امرأة اسمها رشيد. رشيد هو الاسم الذي أطلق عليها في المعتقل حين كانت صلبة كرجل! تقول فاطمة البويه إن الدور الأساسي في إقناعها بالنشر كان للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي، بعد أن مرّ أكثر من عشرين عاماً على كتابته. والمرنيسي عملت كذلك على كتابة التاريخ المغربي بعيون مناضلات وسجينات سياسيات سابقات.

هل الكتابة عن “الوراء” كافية لتعود كل أحلام السجين/ السجينة بعالم الألوان إلى رمادية العالم السفلي؟ ليستحيل الولع بالقادم، الغريب برمته، إلى انتكاسة مريرة؟ أم هي محاولة لنبش ما دفن هناك وقتله إلى الأبد باصطحابه معنا إلى النور؟!!

لا يهمّ. لندع الحديث جانباً، ذلك أن صراخ المحقق، الداخل للتو إلى الغرفة، صعق ناهد.ب(6) وهو يقتحم المكان مصمّاً مبهماً.

لم تكن قد مرّت دقائق على خروجه بعد انتهاء حفلة تعذيبها بالدولاب،(7) حفلة استمرت ساعات. قدماها لا تكادان تحملانها على الأرض الباردة، وألم فظيع يجمّع حواسها كاملة في أسفلهما المنتفخ والمدمّى. كانت تترنح جاهدة للوقوف.. أو ما يشبه الوقوف.

الطمّيشة،(8) التي تغطي عينيها بالكامل، لا تترك مجالاً إلا لخيط نور رفيع آت من الأسفل. العرق يتسلّل إلى عينيها، يكيّل الملح حارقاً داخلهما، ورؤية ضبابية تلوح لطرف حذاء المحقق الأسود لاغير.

أجابت عن السؤال للمرة العاشرة بلامبالاة كي تفهمه أنها عرفت صوته ولم يخدعها:

ـ ناهد..

ما هو عملك؟

ـ مهندسة!..

ـ أنت مهندسة!!.. أنت شرموطة.

لم تجد ناهد نفسها إلا وهي تصيح كمن نسي تعبه فجأة وكممسوسة:

ـ البلد كله يعرف من هم الشراميط ومن هم غير الشـ

أتت الضربة مجنونة مباغتة على وجهها لتسكتها تماماً، وتلقيها بعيداً على بلاط الأرض العاري والقذر.

لم تدرِ ناهد إلا ومقدمة حذاء عريضة ومرّة تحاول الدخول بشراسة في فمها وهو يُفتح على الرغم منها. لم تكن تمتلك أية طاقة على تحريك أي جزء من جسدها المسجى كجثة لامبالية فيما سيل الشتائم وحده يمور في الغرفة، ويتواصل منهالاً عليها.

في المكان نفسه كان ثمة فتاة أخرى تدخل زمن الاعتقال تدعى هند.ق.(9) لكن أول ما قامت بفعله هند حال دخولها إحدى منفردات فرع الأمن1، وحالما أغلق السجان الباب الحديدي، أن شرعت تدقّ على جدران الزنزانة، تدقّ بهيستيرية علّها تصيب ولو دقّة خافتة من منفردة مجاورة على جدران منفردتها، تشعرها بوجود حياة ما في هذا الظلام الميّت والمميت.

إنه اعتقالها الثاني، لذلك كانت تتكهن، من معرفتها بالمكان، أن المنفردات المجاورة مليئة بالمعتقلين. كانت تحسّ الجو المحيط المحقون بالأنفاس والهمهمات المكبوتة. بالفعل، بعد ثوان أجابت على دقاتها اللهفة دقات أخرى على الحائط اليميني للمنفردة. بدأ الحديث بالدقات على الفور: لغة المعتقلين المعروفة.

سأل الطارق:

ـ من أنت؟ ما هي تهمتك؟

ـ أنا واحدة.

ـ أعرف أنك وحدك!!

ـ لا.. أنا واحدة.. بنت يعني.

الدهشة، أي التوقف عن الدق، هي ردّ الفعل الوحيد بدر عن الطارق المجاور. يبدو أنه فوجئ بوجود نساء في هذا المكان! ذلك أني كنت من أوائل المعتقلات في الفرع قبل أن تبدأ حملة الاعتقالات المسعورة سنة 1987.

استمرت الأحاديث بيننا طويلاً ذاك اليوم. كلما ابتعدت خطوات السجان أهرع إلى الحائط لهفة ليعلو صوت الدقات، وكلما اقتربت خطواته الطارقة على بلاط كوريدور الفرع، المليء بالمنفردات المتقابلة، تتلاشى أصوات الدقات.. حتى راح الخدر يستقر في أطراف أصابعي وهي تحتك بالحائط العاري الخشن طيلة الوقت. بعد أيام استطاع الطارق إخبار هند أن هناك طاقة في أعلى سقف المنفردة، تحت السقف المستعار، وهي محدّدة بالشبك تطلّ على الفراغ فوق سقف المنفردة الأخرى. تستطيع المعتقلة، إذا تسلقت جدران المنفردة الضيقة، أن تسمع صوت الآخر الهامس من هناك. نجحت هند، بعد عدة سقطات، أن تتسلق المنفردة، ساعدها جسدها النحيل على ذلك بوضع ساقيها على حائطيها المتقابلين حتى وصلت إلى أعلى واستمعت إلى صوت الشاب:

محمد.ع كان اسمه.

حاول الهرب من الجيش إلى تركيا، لكنهم استطاعوا القبض عليه على الحدود ليتّهم بالفرار من خدمة العلم، ويرمى هنا منذ ستة أشهر. حدّثني عن جحيم عاشه في الجيش، وعن جحيم كان ينتظره منذ لحظة إلقاء القبض عليه وحتى مجيئه إلى هنا.

ـ معك دخان؟!! سأموت من أجل سيجارة.. وليس لدي نقود..

همس محمد من بعيد مترجياً.

ـ معي..

أجبته ضاحكة.

من خيوط البطانيات العسكرية العفنة، بالكاد تدرأ برد آذار المجنون في تلك السنة، استطعت، تنفيذاً لتعليمات محمد، أن أنسج حبلاً طويلاً ومتيناً، ربطت إليه صابونة، كنت قد اشتريتها من السجان، وربطت إليها باكيت دخان “حمراء طويلة”، كنت قد اشتريته أيضاً بأضعاف ثمنه ودخّنت منه ثلاث سجائر فحسب في الليل. رميت الحبل والباكيت في آخره عبر الطاقة إلى منفردة محمد المجاورة. لم أنجح في المرة الأولى، لكن في الرمية الثانية انزلقت الصابونة، ومعها الحبل والباكيت، إلى زنزانته. بهذه الطريقة المبتكرة استطعنا، نحن الاثنين، أن نتبادل الكثير من الأشياء: كبريت، محارم، رسائل، وأشياء أخرى لم أعد أتذكرها جيداً.

ثم راح محمد يحرق أعواد الثقاب بالعشرات، يكوّم الشحار تلة صغيرة في زاوية منفردته ليكتب به كحبر. أما عيدان الثقاب فقد تحولت إلى أقلام نفيسة، تخطّ الرسائل على ورق كان يوماً ما أغلفة لباكيتات الدخان. يكتب، ثم يرمي رسائله الملتهبة إليّ.. يكتب ويرمي. رسائل عشق رائعة تحملني بعيداً عن قبري. رسائل عشق تحيل عتمة وبرد منفردتي إلى غرف حميمة، حميمة ودافئة. في ذلك الوقت استطاع محمد، الذي لم أر وجهه يوماً، أن يجعلني عاشقة ولهانة في منفردة منسية من فرع الأمن.

ـ أنا باقٍ هنا، وأنت بالتأكيد ستخرجين قريباً.. وحينها أتمنى أن تذهبي إلى أهلي، وتتعرّفي عليهم، وتطمئنيهم عني.

هذا ما قاله محمد واثقاً في الأيام الأخيرة، وكان قد مرّ حوالي الشهر على اعتقال هند في المنفردة المجاورة.

ذات صباح جاء السجان، رمى لها الفطور في القصعة المعدنية قائلاً: جهّزي نفسك ستنقلين إلى سجن النساء(10).

لم يكن للخبر وقعه الفرح المتوقع!

كان على هند أن توصل إلى محمد قرار انتقالها المفاجئ. دقّت على حائط المنفردة لهفة قلقة لتخبره بتحقق نصف نبوءته لا غير، وبأنها ستخرج لكن إلى سجن النساء. بما أن محمد لم يكن يمتلك أية نقود فقد عملت هند على رمي ما تبقى معها له. ربطت الأوراق النقدية بالصابونة، وراحت تحاول قذفها عبر الطاقة دون أن تستطيع ذلك.. كان عليها أن تتمّ المهمة بسرعة وقبل مجيء السجان، لكن توترها زاد الأمر سوءاً.

رمتها مرة تلو الأخرى.. مرة تلو الأخرى.. دون أن ينجح الأمر. أخيراً، قبل دخول السجان بثوان، نجحت هند في إيصال هديتها الثمينة إلى محمد قبل انتقالها.

لكنها نسيت في ذلك اليوم مسابح نوى الزيتون التي صنعتها طيلة الشهر المنصرم، نسيت أيضاً رسائل محمد الحارّة تحت البطانية العسكرية. وخرجت لتظلّ أكثر من ست سنوات بعدها في المعتقلات: في سجن النساء الأول، ومن ثم سجن النساء الثاني.

أما محمد، كما عرفت هند فيما بعد، فقد ظل حوالي ست سنوات بعدها معتقلاً في فرع الأمن1 قبل أن يطلق سراحه في سنة 1990

<!– /* Font Definitions */ @font-face {font-family:”Cambria Math”; panose-1:2 4 5 3 5 4 6 3 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:roman; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:-1610611985 1107304683 0 0 159 0;} @font-face {font-family:Calibri; panose-1:2 15 5 2 2 2 4 3 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:swiss; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:-1610611985 1073750139 0 0 159 0;} @font-face {font-family:Tahoma; panose-1:2 11 6 4 3 5 4 4 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:swiss; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:1627400839 -2147483648 8 0 66047 0;} /* Style Definitions */ p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal {mso-style-unhide:no; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:””; margin-top:0cm; margin-right:0cm; margin-bottom:10.0pt; margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:”Calibri”,”sans-serif”; mso-fareast-font-family:Calibri; mso-bidi-font-family:Arial; mso-ansi-language:FI;} .MsoChpDefault {mso-style-type:export-only; mso-default-props:yes; font-size:10.0pt; mso-ansi-font-size:10.0pt; mso-bidi-font-size:10.0pt; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-fareast-font-family:Calibri; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-bidi-font-family:Arial;} @page Section1 {size:612.0pt 792.0pt; margin:72.0pt 72.0pt 72.0pt 72.0pt; mso-header-margin:36.0pt; mso-footer-margin:36.0pt; mso-paper-source:0;} div.Section1 {page:Section1;} –> بإذن من الكاتبة روزا ياسين حسن، خصيصا لصفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى