صفحات الشعر

قصائد للشاعر الإسباني بِنْخامينْ برادو

null
ترجمة رفعت عطفة

الشيء وضدّه: (إلى رافائِل ألبِرتي1910-1999)
عكسُ الإنسانِ النظيفِ الماءُ الوسخُ
وعكسُ البحرِ المرأةُ العمياء.
مَنْ يهدم جسراً، يبني هُوةً.
الندوبُ ضرباتٌ لا تُنسى.
هناك حقائقٌ بلا حدود وأشياءٌ تنفدُ.
الأنهارُ هي ماتشادو. (هو الشاعر أنطونيو ماتشادو)
وأنا أحببتُكِ بلا تحفُّظٍ.
تُلْمَحُ العقاربُ تحتَ ضوءِ القمر،
لكنّها تعودُ’لتصبح سامّةً وقاتمة من جديد.
هو ذا الأمرُ بهذه البساطة.
أن تقاتلَ من أجلِ الرمادِ
يعني أنّكَ تتنازلُ عن النار.
وكلمةٌ تُقالُ عصفورُ يطيرُ.
موتُكِ تحت جلدي،
مثلَ حشرةٍ في كأسٍ مقلوب.
ماذا أستطيعُ أن أقولَ أكثرَ؟
أنّني أحببتُك من جنوبِكِ إلى شِمالِكِ، بلا قرار،
بأظافري وأسناني،
بلا أسرارٍ ولا مكائد.
أنّني لم أبغِ أن أسمعَ صوتَكِ ثانيةً،
أن أنظرَ إلى صورِنا،
أن أراكِ تُداعبين بأناملِكِ الزرقاءَ
الكلابَ التي تأكلُ فضلاتِ حياتِكِ.
أنا لا أريد إلاّ ظلمةً ودخاناً.
جئتُ لأقولَ لك: إنّني نسيتُكِ؛
وإنّني سأعودُ لأنساكِ كلَّ يومٍ،
كلَّ يومٍ من أيّامِ حياتي.
2
طريق
هو الطريقُ الذي يقودُ من الظلِّ إلى الحلمِ،
من ضوءِ القمرِ
إلى الخِنْجَرِ خفيّاً بين الأغصان.
هو الطريقُ الذي يقودُ من الماسةِ إلى السرقة،
من المرأةِ التي تنامُ إلى الطفلِ الذي يختنِقُ.
كلُّ هذه طرقٌ.
هو الطريقُ الذي يقودُ من الحِبْر إلى شكسبير،
من الزهرةِ إلى أيدي حفّاري القبور.
الطريقُ الذي يقودُ من جلدِكِ إلى الزبدِ،
من الذهبِ إلى السُّمِّ.
كلّ هذه الطرق
سرنا فيها.
كلّ هذه الطرق
هي الواقع، هي الحياةُ.
الطريق الذي يقودُ من البحرِ إلى النواقيسِ،
من كاد حتى حتماً،
من الأبراجِ
إلى السيّارةِ التي تدهورت على الثلجِ.
في كلِّ هذه الطرقِ أبحثُ عنك.
في كلّ هذه الطرقِ تتبعينني.
3
الريح السوداء
هي الريحُ السوداءُ تأتي من عيْنَيّ الذئب.
الريحُ السوداءُ تُبَدِّلُ الحبالَ بالزواحف،
تُقَرِّبُ قناديلَ البحرِ من الجلد،
تتكلّمُ لغةَ ورقٍ مُمزَّقٍ.
هي الريحُ السوداء.
هي الريحُ السوداءُ تضيف إلينا أجنحةَ ملاكٍ سقط،
وتلتهمُ في الغابةِ قلبَ النهار.
هي الريحُ السوداءُ تبحثُ عن البلورِ المكسورِ،
للبيتِ المقفول،
وتَنْحتُ فيه نجمةَ الموت.
هي الريحُ السوداءُ
جاءت من شفتيك إلى شفتيّ.

تمرُّ ساعاتي، تمرّ أسابيعُكِ
وكلُّ شيء كما هو دائماً:
أنتِ تنظرينَ إلى الساعات،
وأنا أريدُ أن أمنحَ الماءَ شكلَ يديَّ.
هي الريحُ السوداءُ،
كلمةُ يُحرّكها العقربُ.
تمرُّ لياليَّ، تمرّ صباحاتُكِ،
الصقيعُ يشحذُ سكاكينَهُ،
والفطرُ ينمو في الأحلامِ المجروحة.
هي الريحُ السوداء،
ونحنُ يستلقيان بجانب البحر،
هي على الرملِ المسلوخِ عن الشمس،
وهو على رملِ القمرِ الأبيض.
أيّتها الريحُ السوداء،
لا غفّارة لنا، نحن ابنا تلك اللحظة.

4
المتفائل
من أجلِ الليلِ الذي يطرحُ من النور مرايا.
من أجلِ العنب الذي يجمع بلوراً حلواً ونسياناً.
من أجلِ الطريقة التي ينمو فيها
مرجانُ القصيدة في الكلمات.
من أجلِ الرقم ثلاثة.
أغنيةِ النبيذِ، مُتعدِّدةِ اللغات.
من أجلِ الأملِ، الذي كان في الرايات الحمراء.
من أجلِ الصداقة، التي تملأ بالأركان دائرةَ الحياة، التي لا’تلين.
من أجلِ السمكة،
التي تفتتح، سفارةَ البحرِ في فمنا.
من أجلِ الطحين، الذي ينزلُ بالقمرِ إلى أيدينا.
من أجلِ كلِّ أولئك
الذين يعرفونَ
كيف أمر ثِرنودا،
أن يطلبَ من حياته
عنواناً ومعنى.
من أجلِ عينيّ دِ ديلون.
من أجلِ الثلج،
من أجلِ الجاذبيّةِ
التي تُشكلها فوضى الحبّ،
وترتيب الرغبة.
من أجلِ المطرِ والجزرِ..
من أجلِ كلّ الذين يؤمنون
بأنَّ عملَ الخير
أسهلُ من استحقاقه؛
الذين يفقدون الإيمان
بين طرق النواقيس؛
الذين عندما يأكلون خبزاً
يعرفون لغةَ القمحِ.
من أجلِ الريحِ
التي تحلم بصحارى شاقوليةٍ،
والمعدنِ الذي يُشعل نوره المنبوشِ،
والشمعةِ التي تضعُ خُلاصتها البركانية على الجلد.
من أجلِ البحرِ.
من أجلِ الموسيقى.
البشرِ الذين يعرفون
أنّ الهروبَ
من الحقيقة،
لا من الكذِبِ ممكنٌ دائماً.
لأن بيت الشِّعر السابقِ لم يكن الأخير،
من أجلِ الأمل بألاّ ينسوه.
5
العاشق (3)
هذا لا، يا حياتي،
هذا ما لن أعطيه لك،
أنا الذي أعطيكِ كلّ شيء.
الهوّات دون زوغان.
النور دون حروق.
العاطفة، التي هي نَمِرٌ يقفز عبر دائرة مشتعلة.
الكذبات الجميلة كالحرباء،
التي تُخفي لونَ الحقيقة.
هذا لا، يا حياتي.
الملاحف التي تقود إلى زنازين بيضاء.
النصر الذي مجموعه هزيمتان.
الوفاء مع الجراح.
السلام بين سكاكين.
القلب الذي يشترط ميزاناً.
لن أعطيكِ هذا.
أنا الذي لأجلكِ الماءُ يعودُ من الثلج؛
الصخرةُ استيقظت ذاتَ صباح تمثالاً؛
أنا الذي أهبكِ حياتي؛
أنا الذي وددتُ أن أهِبَكِ حتى موتي،
هذا أبداً لا،
هذا ما لن أعطيه لكِ.
6
المهاجر
سأتكلّم عن رجلين في قصّة واحدة. الأوّلُ
يقترب عبر البحر
ويعرف طعمَ ملوحةِ الموت.
عانى الحربَ والسلْبَ،/
ومن يدري ما إذا عانى السجنَ،
التعذيبَ، صيدَ جلدِه، عواطِفِه، نوعِه، أصلهِ،
أفكارِهِ، أو ببساطةٍ سوطَ الجوعِ القاسي أيضاً.
باختصار، رجل بلا آمال.
الثاني وصل أيضاً إلى مدينة أخرى
ويهربُ
من بلدٍ
تحكمُهُ الجريمةُ.
وذات يومٍ عرَفَ الاحترامَ
والشهرةَ،
لكنّه اليوم مثل نبيذٍ مسفوح:
مرادف أسود للدم المسفوك.
الرجلُ الأوّل يأتي إلينا
ويحلم بسلام المشَاغِلِ،
جنّةِ عدْنِ المتاجرِ الكبرى، المحايدة،
موسيقى المناشِر، المُربّعة: بأيّ شيء
أفضل
من مصيره.
الثاني،
الذي يهربُ
والألم ما يزال يصاعدُ دخانه من روحهِ،
حلم مرّة
أنّ الرصاصَ
يمكن أن يغتال أشخاصاً
لكنّه لا يغتال حقّاً أبداً ؛
حلم بكاتدرائياتٍ
ليست ملاذاً للذئب؛
بالشمسِ، في أعماق المناجم.
الرجل الأوّل هو بابلو،
الخبّازُ؛ حسّانُ الخيّاط،/
أو إِبو البنّاء./
والثاني يُكنّى، مثلاً،
بِـ ثِرنودا،
أو خيمِنِثْ،
أو ألبِرتي
ومنه يولد الذعرُ،
كما تنمو في الأعناب
عادة النور البنفسجية.
كان هناك من يقارن بينهما
فلا يرى بينهما سوى هوّة.
لكن لا بدّ أنّ هناك من يرى بينهما جسراً:
العدالة في جانبٍ
والتاريخُ في آخرَ.
اسأل نفسكَ
من
تُشبهُ
منهما.
اسأل نفسَكَ،
أيّاً
منهما
تريدُ
أن تكون.
7
الشاعر
لا أودُّ أحياناً أن أقضم أغنية في التفاحة؛
أن أسمعَ أنَّ أناكندةَ النهارِ تلتفّ بطيئةً في الساعة؛
أن أبحث في جدران المرئيّ البيضاء
عن شقوق الواقع المظلمة.
أشعرُ أحياناً بالغيرة ممنّ ليس مجبراً
على أن يفتحَ كوّةَ نورٍ في كلِّ اسمٍ،
تُبيِّن جحيمه ومعناه؛
من لا يرى في السلَّمِ
العمودَ الفقريَّ الرهيبَ لتِنّينِ الأقبيةِ،
أو لا يستشعرُ في الصلبان بمرساةِ الموت.
كم يجب أن يكونَ جميلاً قاموسٌ
الكلماتُ فيهِ
ليست كلماتِ سرّ،
ليست مفاتيحَ،
انتصاراتٍ،
لا شباكاً، ولا جمارك،
بل هي ذاتها: إعصار، ندبة، غابة،
محبّ،
صمت،
كاسِر أمواج…
لا أريدُ، أحياناً،
أن أتَخَيَّلَ أنّكِ موجودةٌ،
ولا أن أحلمَ
بأنّ خطوطَ’قصيدتي
تُخَلّفُ خدوشَها
على جلدك.
لأنَّ من الحلاوة أن نقصَّ
السلكَ الشائكَ للأشعار المشطوبة؛
أن نَعْرَفَ أنَّ في الذرة يُهجّى نمرٌ؛
أن نهبط إلى الكلمات بحثاً عن موسيقاها؛
نصيرَ مركزَها، كما الجرح عاصمة للألم؛
وأحياناً من القسوة القبول بأنّك تعانين
من لعنة كلّ ما عليه أن يقتنع بأن يكون غير محدود لأنّه ليس دقيقاً:
كلّ قصيدة تُعالج
ما لم تستطعه القصيدة السابقة.
قولي لي ما إذا كان عليّ أن أندم أخيراً.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى