صفحات ثقافية

شُرْفَةُ امرئ القيس

null
صلاح بوسريف
[1] في مَا يُكْتَبُ اليومَ من شِعْرٍ، أشياء كثيرةٌ تجري خارجَ الشِّعر. في المغرب مثلاً، حتى لا أُعَمِّمَ فرضيتي على غير الأرْضِ التي أنا جُزْءٌ منها، تفتقدُ الكتابات التي توالتْ بعد الثمانينيات لكثيرٍ من الخيال. لن أتَحَدَّث عن الإيقاع. هذه مُعْضِلَةٌ أخرى، لا داعِيَ لإثارتها هنا.
مَنْ يعرفون أهميةَ الخيال، ليس في الكتابة فقط، بل في معرفة ذكاء الشُّعُوب، وازدهار حضاراتها، بما فيها ابْتِداعَاتُ التقنيةِ، يُدْرِكُون جيِّداً أنَّ اللُّغَةَ، حين نستعملُها كشرطٍ للإبداع وللتعبير عن المُحْتَمَل، أعني كَدَمٍ شخصيٍّ، هي التي تَنْجُو بنا من عَطَبِ المُشْتَرَكات، وتَنْأَى بالشِّعر عن استعمال لُغَاتٍ مُسْتَعارَةٍ؛ هي نَفْسُها التي تَجِدُها عند أكثر من واحدٍ، تُسْتَنْسَخُ، ليس بما فيها من ألفاظ، بل بما فيها من مجازاتٍ، وتراكيب، وهذا ما يجعلُ فَقْرَ الخيال فيها يُشْبِهُ فقر الدَّمِ، أعني الدَّمَ الشِّخْصِيَ، كما سَمَّيْتُه قبل قليل.
[2]
في قراءتي لِمَا صَدَرَ من كُتُبٍ، سَمَّت نفْسَها شِعراً، قبل أن يُسَمِّيها غيرُها، كانت هذه الحقيقة تفرضُ نَفْسَها عَلَيَّ. تَشْتَرِكُ، أغلب هذه الكُتُب، في لُجُوئِها إلى النثر. ليس النثر فيها اختياراً في الكتابةِ، بل إنه نوع من الهُروب من بعض أدوات ‘بناء الشِّعر ‘. ما يُضَاعِفُ من غرابة هذا الوضع، تَسْمِيَةُ هذه الكتابات قصائد، دون وَعْيِ الفرق بين الشعر والقصيدة، في الشِّعرية العربية القديمة، وفي ما صاحبَها من نقد. كتاباتٌ، تُسَمِّي نَفْسَها بما تُدِينُهُ!
في غير العربية، مُشْكِلُ التَّسْمِيَة غير مطروح، لأنَّ اللُّغَةَ تَجِدُ في اشتقاقاتها، ما يكفي لِتَرْبِطَ به صلة القرابة بين Po’sie وPo’me . ما لا يَتَحَقَّقُ في العربية، ونَسْتَمِرُ في استعماله دون وَعْيِ خَطَر التَّسْمِيَةِ.
ليس ثمَّة مُراجعاتٍ، في المفاهيم والتَّسْمِيَاتِ فقط، حتى اللُّغَة التي هي الأداة الوحيدة المُتَبَقِّيَة من رصيد الشِّعر، في يَدِ هؤلاء، لا تَسْتَشْعِر حَرارَتَها في يَدِهِم. تعبيراتٌ باردَةٌ، صَمَّاء، النثر بما فيه من ماءٍ، ليس طَيِّعاً، أو مِلءَ اليَدِ، إذا افتَرَضْتُ أنَّ هؤلاء يَعُون معنى الكتابة، ودورها في تحريف مسار الشِّعر، وعلاقته باختلاجات الجَسَد، وليس بحاسَّة دون غيرها.
حين تصير اللغةُ، كمفرداتٍ، هي ما يحكُمُ علاقة هؤلاء بالكتابة، تضيع جمالية اللغة التي هي قُدُومٌ من هذا الماء، الذي أَدْرَك النقد العربي القديم ضَرُورَتَه كشرط لشعرية الكلام، ولفتنة القول بتعبير الجاحظ.
[3]
تُوَفِّرُ مثل هذه الكتابات، عند مَن امْتَصَّتْهُم لُغَةُ الصُّحُف، على المُتَرْجِمِين كثيراً من العَناء. فهي لا تحتاجُ لترجمة، أصلاً، لأنها، في تراكيبها، وفي تعبيراتها، آتية من غير فِتَنِ العربية، ومن غير سياقاتِ هذه اللغة التي لها توقيعاتُها التي بدونها، لا نستطيعُ معرفة فرق الهواء، بين خيالاتِ الآخَر، وما نبتدعُه نحن من خيالاتٍ.
امرؤ القيس، جابَ اللغةَ بخيالاتٍ، تَرْجَمَتُها فَرَضَت على هذا الآخَر، أن يكتشف خُصُوصيات العربية كلُغَة في مقابل غيرها، وفَرَضَت عليه، أيضاً، أن يَلْمَسَ ابتداعات الشَّاعر، ودَمَه الشَّخْصِيَ، الذي كان كافياً لتمييزه عن طَرَفةَ، وتمييز طرفة عنه، وهو ما يمكن أن يجري على مَنْ أَتَوْا بَعْدَهُما من الشُّعراء.
أبو العتاهية، خرجَ عن نمط التراكيب البلاغية التي كانت بَدَتْ لامرئ القيس خارجَةً عن عُرْفِ الكلام العام. جاءت لغتُه بسيطة، تَخَفَّفَت من وِزْرِ امرئ القيس، ومن وزر غيره ممن سبقوه، وصارت اللغةُ في يَدِ هذا الشاعر، تَحْتَمِلُ كُلَّ المعاني، ولا فرق في شَفَافَتِها بين غَرَضٍ وآخر. لكن هذا الانزياح الذي اسْتَحْدَثَهُ هذا الشاعر، جاء نتيجة خيالاتٍ، فَرَضَت على الشاعر أن يُعِيد اكتشاف اللغة ذاتها، وأن يُناهِز ماءَها، دون أن يَسْقُط في ما سادَ في زمنه من ترجماتٍ، أو علاقاتٍ للعربية بغيرها من اللغات المُجَاوِرَة.
مَنْ يقرأ ديوان أبي العتاهية، تََلْتَبِسُ عليه المسافة بين الشِعر والنثر، ولو أنَّ أبا العتاهية كتب بغير الشكل العمودي، لََوَجَدَ القارئ نفسه أمام طريقة في قول الشِّعر، لا أقولُ جَبَّت ما قبلها، لكنها نَأَتْ بنفسها عن العام والمُشْتَرَك، أو كما قال هو نفسُه ‘لو شِئْتُ أن أجْعَلَ كلامي كله شعراً لَفَعَلْتُ ‘. هذه إحدى تبعات اتِّهام الشاعر بابتعاده عن الشِّعر، أي بخروجه عن عروض الخليل.
ينطبقُ هذا على بشَّار والسيد الحِمْيَريّ، وهو ما ينطبق على صريع الغواني، وعلى البهاء زُهير [581 ـ 656].
[4]
هؤلاء، حين اختاروا الكتابة بِلُغَةٍ من هذا القبيل، كان اختيارُهم مَشْرُوطاً بأُفُقِ الرؤية الذي ذهبوا إليه. لم تكن كتاباتُهُم بلا دَمٍ، لم تكن تعبيراً بلسانٍ مُسْتَعارِ، أو بالأحرى لم تكُن تَلْفِيقاً للكلام، أو اقتضاءً بمجازات فَقَدَت ماءَها، فهُم كانوا عارفين بلغة القرآن، حَفِظُوه، وكانوا عارفين بقديم الشِّعر، وحديثه في زمنهم، لكنهُم لم يُجْبِروا خيالاتِهم على النَّوْمَ في غير أَسِرَّتِها.
[5]
مَنْ يقرأ شُعراء ‘قصيدة النثر ‘، بغض النظر عن التسمية، وأعني الذين ذهبوا إليها بِدَمِهِم، سَيَلْمَسُ حُضور المُفْرَدِ فيها. وحتى لا نستطيب وَهْمَ الفرادة أو الخصوصية، فأنا أعني بالكلمة، ما يُضْفيه الشاعر على المُشْتَرَك مِنْ ماءٍ، يكون هو ما يَحْفَظ له حَقَّ تَمَلُّك التجربة، والاسْتِفْرادِ بها.
هذا المفرد، هو تلك الحِيَاكَةُ التي كانت من قبل عِيبَتْ على أبي تمَّام. المقصود هنا حياكَةُ اللغةِ، وفق بناءٍ فيه من يَدِ الشَّاعر، ما يجعَلُ لَمَسَاتِها تُثِير قَلَق غيره، وتُفْضِي إلى الاعتراض على طريقته في الكتابة.
الاعتراض هو أحدُ معاني التأجيل. ما نعترض عليه اليوم، فنحن نُؤَجِّلُه إلى حينٍ.
[6]
لم يكن الذهاب إلى الشِّعر من شُرْفَةِ النثر، هَرَباً من الوزن، كما يحدُثُ في كتابات هذه الأجيال التالية على جيلي، بل كان تأكيداً لاسْتِنْفاذِ الوزن لمَجازاتِ اللغة، ولخيالاتِها. الذين كتبوا من هذه الشُّرْفَة، كانوا عارفين بشُرْفَة امرئ القيس، خَبَرُوها، كما خبروا الغرب، على الأقل في بعض جهاته، وكانت كتاباتُهم بَحْثاً عن دَمٍ، أي عن شيء تَتَمَيَّزُ به كتابتُهم. لم يتنازلُوا عن خُصُوصية اللُّغة، حتى حين شَرَعُوا في تَدْمِيرِها بنفس آليات بنائها. كان الخيال، عندهُم، هو الأرض التي بَدَتْ قابلةً لشجرٍ يَسَعُ فِتَنَ الرِّيحِ.
[7]
ليس النثر لُغَةً، أو طريقةً في الكتابة. النثر أُفُقٌ لكتابةٍ، تُعيدُ صياغة الوُجود وفق رؤيةٍ بعيدةٍ. وهو نفس وضع الشِّعر. الحديث عن لُغَتَيْنِ، واحدةٌ للنثر وأخرى للشِّعر، فيه جَهْل بقيمة اللُّغَة، باعتباره، أولاً، خيالٌ، وتوقيعٌ شخصيٌّ، وهي في أَصْلِها لِسَانٌ واحِدٌ، كان مُسْتَعْمِلُوهُ الأوائل، يعملون على مَلْئِهِ بمجازاتٍ، كانت هي طوقُ النَّجاة الذي جعل الألْسُن تتعدَّد، لأنها، في نهاية المطاف، هي تعبيراتٌ، بتسْمِياتٍ مختلفةٍ.
فحين تقبل اللغة الترجمةَ، فهي تكشف عن هذا الأصل البعيد الذي كان المُشْتَرَكَ الذي منه خَرَجَت مجازات اللغة، وتباينَت، في تراكيبها، وفي صَيَغِ تعبيرها، أعني خيالاتِها.
في جَهْلِنا بالنصوص الأولى، لا نستطيع معرفة ما جرى في أَوَّل الكلام. فحِرْصِي على قراءة هذه النصوص، وتأمُّل طُرُق التعبير فيها، أو كيف كان هذا الإنسان البعيد ينظُر إلى وُجُوده، جعلني أكون شديد الحذر في تسمية الأشياء، واخترتُ أن تكون اللغة في يَدِي لغةً واحدةً، أنا مَنْ يُسَمِّي بها الأشياء، كما سَمَّى هؤلاء وُجُودَهُم
هذا، في تَصَوُّري، ما جعل هايدغر يعتبر اللُّغَةَ من أخطر النِّعَم. وبتعبيره، فَمَنْ يَسَمِّي الأشياء، يَتَمَلَّكُها.
[8]
كتاباتُ الذين سبقونا، هي تَسْمِيَة، وهي سَعْيٌ لِتَمَلُّّك العالم، وليس التَّمَلُّك إلاَّ أحد شُرَفِ الخيال الكثيرة التي، في حالة انفراطها، نكون مَوْجُودين بغيرنا، لا بذواتنا.
هذه هي الحالة الراهنة، لكثير مِمَّا نُسَمِّيه شعراً. فُقْدَانُ التَّسْمِيَة، هو فقرٌ في الخيال، وهذا ما يجعلُ من شُرفَة امرئ القيس، تبقى إحدى الشُّرَف التي سَمَّت الوُجُود بذاتها، وليس بآلةٍ، أو بتعبير الفارابي، كُلُّ موجود بغيره، فهو مَوْجُودٌ بآلةٍ. اسْتِدْراج اللُّغة لِلُغَاتِ الآخرين، هو قَتْلٌ لِلّغَة ذاتها، وهو تكريس لِلِّسَان الوَاحِد. أبهذا المعنى نفهم الحاثة أو ما بعدها، مجرَّد سؤال.
[9]
عدد الذين كتبوا في هذا المجرى من الشُّعراء المغاربة، أي في مجرى الابتداع، وتَسْمِية الوُجود، من الأجيال الشَّابَّة، قليل. وهؤلاء هُم مَنْ يكتبون دون ادِّعاءٍ أو تَمَلُّقٍ. لم تُغْرِهِم المؤسَّسات، فهُم، بما لهم من حاسٍّةٍ شعرية بعيدةٍ، أصَرُّوا على أن يكونوا هُم، ولم يقبلوا أن يَكُونوا ناطقين بألسنة أَحَدٍ، أو خارجين من قُمْصَانِ غيرهم.
يسيرون على مَهَلٍ، ولم يقبلوا قط أن تأكُلَهُم لُغَةُ الإعلام، أو يُصْبِحُوا عَجَلاتِ في عَرَبَات الآخرين. الشَّاعـر حَذِرٌ بطبعه، يقـرأ الإشارات، ويلتقط شَفراتها بذكاءٍ، كما أنَّ الشَّاعر، هو شخصٌ لا يّسْتَجْدِي الكتابةَ بغير الكتابةِ، كما لا يقبل أن يكون ظلاًّ لغيره، أو لِسَاناً يَشْتَغِلُ وفق الطَّلَب مثل القَتَلَة المُسْتَأْجَرين. يقبل بالقتل، لأنَّه يعرف أنَّ في القتل، مثل الاعتراض، معنى التأجيل، وهو في جميع الحالات، ليس ساعِيَ بريدٍ، يَنْقُلُ خطابات غيره، لِمَنْ لا تَعْنِيهِم، لأنَّه يكتُبُ استجابةً لنداءٍ قادمٍ من مجهولاتِ ذاته، من هذا المستقبل الذي نقرأهُ اليوم باعتباره تاريخاً، أو ماضياً مَضَى بالأحرى.
[10]
فـي يَدِي أعمالُ هؤلاء، أقرأُها، وأُدْرِكُ أنَّها تَفْتَحُ زَمَنَها علـى مَهَلٍ، وهي حاضرةٌ بالفعل، لا بالقوَّةِ. وحين صارَ هؤلاء أصدقاءَ لي، كانت نُصُوصُهُم هي رسائل الشِّعر التي جمعتني بهم، وجاء اللقاء في ما بعد، أكَّدَ لي أنَّ الشاعرَ، يأخُذُ اسْمَهُ مِمَّا يكتبُه، لا بما يُسَمِّي به نفسَهُ.

‘ شاعر من المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى