صفحات ثقافية

‘علة وجود الأدب’ محاضرة لحامل ‘نوبل’: مخاطبةالمرء لذاته نقطة انطلاق الأدب!

null
غاو كسينغجيان
لست أدري إن كان القدر هو الذي رمى بي فوق هذا المنبر، ولماذا لا نسمي قدرا تلك المصادفة التي تصنعها سلسلة الحوادث العارضة؟ لن أتطرق هنا إلى سؤال وجود الله، لكني رغم أني اعتبرت نفسي دائما ملحدا كنت دائما أكن لهذا اللغز توقيرا كبيرا.
لا يمكن للفرد أن يصير إلها ولا يمكنه بدرجة أكبر أن يضع نفسه موضع الله. فسيادة الإنسان الأسمى على العالم لا يمكنها إلا أن تعزز غياب نظام داخل هذا العالم، وأن تجعله أكثر فوضوية. فخلال هذا القرن ما بعد النتشوي، خلفت الكوارث التي تسبب بها الإنسان أكثر الصفحات سوادا في تاريخ الإنسانية. فالكلمات الخرقاء لفيلسوف نرجسي حتى النخاع لا تشكل مع ذلك شيئا مقارنة بالجرائم التي يولدها اللجوء الدائم للعنف من قبل هؤلاء الناس السامين الذين يسمون مسؤولي الشعب ورؤساء الدول وقادة الأمم السامين. لا أريد أن أستغل هذا المنبر لكي أغالي في الحديث في السياسة والتاريخ، فقط أردت انتهاز الفرصة الممنوحة لي لكي أُسمع صوت كاتب وصوت إنسان وفرد.
فالكاتب إنسان عادي، ربما كان أكثر إحساسا، وأصحاب الحساسية المفرطة يكونون دائما أكثر هشاشة. فالكاتب لا يتحدث باعتباره ناطقا باسم الشعب ولا باعتباره يجسد العدالة، يكون صوته بالضرورة ضعيفا ومع ذلك فصوت هذا الصنف من الناس هو الأصدق.
أود بالمناسبة أن أقول أن الأدب لا يمكنه أن يكون إلا صوت الفرد، وأنه لم يكن في يوم من الأيام غير ذلك. فحين يصير الأدب نشيد بلاد من البلدان وراية أمة من الأمم، وصوت حزب من الأحزاب، ولسان طبقة أو جماعة، مهما كانت الوسائل المستخدمة لنشره ومهما كانت قوة إشعاعه، وحتى لو امتد ليغطي الأرض والسماء، فإنه لن ينجو من فقدان طبيعته الحقة، ولن يعود أدبا آنئذ بل يكون أداة من أدوات خدمة السلطة والمصالح.
لقد واجه الأدب هذه المأساة خلال القرن المنتهي. وبالنظر إلى أيّ ٍ من العهود الماضية، فإن الأدب خلال القرن العشرين كان الأكثر انطباعا بالسياسة والسلطان وتعرض الكتاب خلاله لأقوى قهر وأكبر الأضرار.
وإذا حافظ الأدب على علة وجوده ولم يصر أداة سياسة، فلا يمكن إلا أن نعود إلى صوت الفرد لأن الأدب يتولد أولا عن أحاسيسه ويتشكل انطلاقا من التعبير عنها. لا يعني ذلك أن الأدب يقطع مع السياسة بالمطلق، أو أن عليه بالضرورة الاختلاط بالسياسة؛ فما يسمى الالتزام الأدبي أو الالتزام السياسي للكاتب، وكل ذلك الصنف من مسائل الجدال قد شكلت آفة أقضت مضجع الأدب خلال القرن المنصرم. فالتقليد والتجديد اللذان يمضيان مجتمعين، واللذان صارا محافظة وثورة، قد غيرا دائما وجه الأسئلة الأدبية إلى صراع بين التقدم والرجعية، فزرعت الإيديولوجية القلاقل. فكلما تزوجت السلطة الايديولوجيا وصارا قوة حقيقة، تعرض الأدب والفرد للنكبة.
فحين نجد أن الأدب الصيني خلال القرن العشرين كان بلا قطرة دم إلى حد الاختفاء أحيانا، فذلك لأن السياسة كانت تهيمن على الأدب، ولأن الثورة الأدبية والأدب الثوري قد وضعا كلاهما الأدب والفرد في وضع ميئوس منه. لقد أدت الحملة التأديبية باسم الثورة ضد الثقافة الصينية التقليدية إلى المنع الرسمي للكتب وتعريضها للمحرقة، وعدد الكتاب الذين تمت تصفيتهم وسجنهم وإخضاعهم للأعمال الشاقة خلال المئة عام الماضية لا يكاد يعد وبنسب لا تمكن مقارنتها مع أي سلالة من السلالات الإمبراطورية التي حكمت الصين طول تاريخها. ودون الخوض في مسألة حرية الإبداع فقد أدى هذا الوضع إلى بروز صعوبات جمة للكتابة الأدبية باللغة الصينية.
لم يكن للكاتب الذي كان يرغب في حرية التفكير ويرفض الصمت حل غير الفرار. وحين يطول صمت الكتاب، الذين تشكل اللغة ملجأهم، يكونون كما لو أنهم ينتحرون. فالكاتب الذين يريد تجنب الانتحار وتجنب التسجيل على فهرس الكتاب المحرمين ويرغب في التعبير بصوته الخاص، لا يمكنه تجنب الفرار. وإذا ما استذكرنا تاريخ الأدب في الشرق والغرب نجد أن الأمر كان دائما كذلك: من كويان إلى دانتي، إلى جويس إلى سولجنتسين ثم إلى كل المثقفين الصينيين الذين لجأوا إلى المنفى بعد مجزرة تيان آن مي، هو القدر المحتوم للشعراء والكتاب الذين أرادوا إنقاذ أصواتهم.
لكنه إبان السنوات التي مارس فيها ماو تسي تونغ ديكتاتوريته المطلقة كان حتى الفرار أمرا مستحيلا. فالمعابد المختبئة في قلب الغابات والتي حمت مثقفي عصر الإقطاع كانت قد سويت بالأرض، وكانت حتى ممارسة المرء للكتابة في خلوته تعرضه لخطر قاتل. وإذا ما أراد أحد حفظ فكرة مستقلة، لم يكن له مخاطب غير شخصه هو ولا يمكنه مخاطبة ذاته إلا في سرية تامة. أود أن أؤكد أنني وعيت بضرورة الأدب تحديدا في هذا الوقت بالذات بينما لم تكن ممارسته ممكنة: فالأدب هو ما يسمح للإنسان بالحفاظ على وعيه بذاته كإنسان.
يمكن القول إن مخاطبة المرء لنفسه تشكل نقطة انطلاق الأدب، بينما يأتي التواصل من خلال اللغة في الدرجة الثانية. حين يضخ الإنسان أحاسيسه وأفكاره داخل اللغة ثم يلجأ بعدها إلى الكتابة آنئذ يولد الأدب. وحين يواصل لاحقا الكتابة دون غاية نفعية ودون حتى أن يفكر بنشر ما يكتب، ويقطف بفضلها متعة، بل ويقطف حتى تعويضا ما عن آلامه، يكون قد بلغ المكافأة. وإذا كنت قد باشرت كتابة روايتي ‘جبل الروح’ في فترة كانت أعمالي فيها محظورة على الرغم من نوع من الرقابة الذاتية، فقد كان الأمر يروم خالصا البوح بأسرار وحدتي الداخلية، والبوح بها لنفسي دون الأخذ بالحسبان أن ذلك سينشر في يوم من الأيام.
واعتبارا لتجربتي الخاصة، يمكنني أن أزعم أن أساس الأدب هو اعتراف الإنسان بقيمته، فلحظة الكتابة هي لحظة إثبات الإنسان. يتولد الأدب أولا من حاجات الكاتب للإرضاء الشخصي، لأن العمل لا يجد له صدى وسط المجتمع إلا عندما يتم، ثم إن طبيعة هذا الصدى لا تتعلق بإرادة المؤلف. يقدم لنا تاريخ الأدب العديد من روائع الأعمال الخالدة التي انتقلت للأجيال اللاحقة ولم تكن قد نشرت خلال حياة مؤلفيها؛ فلماذا إذن استمر هؤلاء في الكتابة إن لم يكن ذلك لكونهم كانوا يجدون وهم يكتبون اعترافا بذواتهم؟ تبقى حياة مؤلفي أعظم الروايات في تاريخ الأدب الصيني، أي تلك المواهب الأربع الهائلة التي كتبت ‘التنقلات نحو الغرب’، و’ على ضفة الماء’، و’ زهر في قارورة من ذهب’ و’ الحلم في الجناح الأحمر’، تبقى هذه الحياة عصية عن الاثبات مثلما هي عصية حياة شكسبير. وحدها سيرة ذاتية صادقة لشي نايان ظلت محفوظة: فإذا لم يكن هذا الرجل قد كتب فقط لكي يخفف عن نفسه، كما يصرح بذلك هو نفسه، كيف له أن يستثمر طاقة حياة بأكملها في عمل بتلك الضخامة لم يلق أي مكافأة في حياته؟ ألا ينطبق ذلك على شيخ الرواية الحديثة كافكا والشاعر الأعمق خلال القرن العشرين فرناندو بيسوا؟ وإذا كان هؤلاء قد لجؤوا إلى اللغة، فإن ذلك لم يكن البتة بنية تغيير شكل العالم، لقد عبروا عن ذواتهم وهم واعون تمام الوعي بأن الفرد عاجز: تلك هي الجاذبية التي تملكها اللغة.
إن اللغة هي التبلور الأسمى للحضارة الإنسانية. ولما كانت دقيقة وعميقة ولا تكاد تدرك، وغاية في الاكتساح أيضا، فهي تنفد إلى أحاسيس الإنسان وإلى معارفه وتربط بين الذات الحساسة وبين معرفة العالم. إن ثمرة عمل الكتابة ثمرة عجيبة، إنها تسمح لأفراد معزولين أن يتواصلوا حتى لو كانوا من جنسيات أو أجيال مختلفة. فالطابع الفوري للكتابة الأدبية والقراءة يتحد بهذه الصفة مع قيمة خلودهما.
أعتقد أن الكاتب الذي يصر اليوم على إبراز ثقافة قومية ما يعتبر مشبوها بعض الشيء. أما في ما يتعلق بمسقط رأسي وباللغة التي أستخدم، فأنا أحمل بداخلي التراث الثقافي الصيني، فالثقافة تكون دائما وثيقة الصلة باللغة، وانطلاقا منهما تتشكل أنماط أصيلة من الإحساس ومن المعرفة، ومن التفكير والتعبير، تكون ثابتة نسبيا. لكن الطاقة الإبداعية لدى الكاتب تبرز بالتحديد حيث تكون اللغة سابقة إلى الظهور، فيضيف هو إبداعه حيث تكون اللغة لم تعبر عن ذاتها بعد بالكامل. وباعتباره مبدعا لفن لغوي، فليس من الضروري أن يلصق الكاتب بنفسه طابعا قوميا جاهزا يسهل التعرف عليه لأول وهلة.
إن الأعمال الأدبية تجتاز الحدود وتتعدى اللغات بفضل الترجمات، وتتجاوز أيضا الأعراف الاجتماعية وبعض العلاقات الإنسانية الخاصة التي يشكلها التاريخ والمكان، لكن ذلك البعد الإنساني الذي تكشف عنه في العمق قابل للتواصل به كونيا ونقله إلى الإنسانية جمعاء. بالإضافة إلى ذلك فإن كل كاتب في وقتنا الحالي يتأثر بالعديد من الثقافات الأخرى غير ثقافته الخاصة. إن إبراز خصائص ثقافة قومية بعينها، ما لم يكن لأغراض الدعاية السياحية، يعتبر حتما أمرا مشبوها.
فكما أن الأدب يتجاوز الإيديولوجية والحدود بين الأمم والوعي القومي، فإن أساس وجود الفرد يتجاوز هو كذلك المبادئ مهما كانت. إن حياة الإنسان توجد دائما فوق المذاهب والنظريات بخصوص الوجود ذاته. والأدب طريقة للاهتمام عموما بصعوبات الوجود الإنساني، دون مواضيع محرمة. إن حدود الأدب كانت دائما خارجاً عن دائرة الأدب، حدوداً سياسية واجتماعية وأخلاقية وعرفية تحاول كلها أن تحصره داخل إطارات كي تجعل منه عنصرا نوعيا للزخرفة والزينة.
لكن الأدب ليس زخرفا دون فائدة، ولا أناقة تتبع صرعة المجتمع، بل إن له أحكامه وقيمته الخاصة وهو ما يسمى الحكم الجمالي. فالحكم الجمالي المرتبط دائما بالأحاسيس هو الحكم الوحيد الممكن بخصوص العمل الأدبي. وهو بالفعل متغير بين الناس لأن الأحاسيس الإنسانية ناتجة عن أفراد مختلفين، ومع ذلك فهذا الحكم الجمالي الذاتي يستجيب أيضا لمعايير يشترك العموم في التسليم بها. فبفضل القدرة على الحكم التي اكتسبها الناس من خلال تكوينهم الأدبي، يمكنهم عند القراءة إدراك الشعر والجمال اللذين ضخهما المؤلف في العمل، وكذلك السمو والغرابة، والحزن والعبث والطرافة والسخرية.
لا يصدر الشعر فقط عن نشيد الوجدان، فنرجسية الشاعر التي لا تعرف الحد تعتبر مرضا طفوليا. بالفعل عندما نتعلم الكتابة لا يمكن تجنب هذا الأمر؛ ثم إن للتعبير عن الأحاسيس مستويات متعددة. فتأمل نظرة هادئة خير من سمو روحي مفرط. إن الشعر يختفي في داخل هذه المراقبة للعالم عن بعد. وإذا كان هذا النظر المراقب يفحص أيضا الكاتب نفسه ويأخذ بنفس الطريقة مكانه فوق شخوص الكتاب والمؤلف، فإنه يصير عين الكاتب الثالثة، أي نظرا محايدا بأقصى ما يمكن. آنذاك سيمكن تفحص كوارث وقذارات عالم البشر التي مع تسببها بالمعاناة والقرف والغثيان ستوقظ الرحمة وحب الحياة والتعلق العاشق.
لا أعتقد أن الحكم الجمالي المتجذر في الإنسان قد يتقادم ولا يبقى مسايرا لذوق العصر، رغم أنه في الأدب كما في الفن تتغير الصرعات مع مرور السنين. لكن الفرق بين الصرعة وحكم القيمة في الأدب تكمن في أن الصرعة تفضل فقط ما هو جديد، وتلك آلية معتادة في اشتغال السوق لا يستثنى منها سوق الكتاب. فإذا ما كان على الحكم الجمالي لدى الكاتب أن يقتفي ميول السوق، فيفترض أن يعني ذلك انتحار الأدب. وبالتالي أعتقد أنه فيما يدعى اليوم مجتمع الاستهلاك بالخصوص يجب اللجوء إلى أدب بارد.
قبل عشر سنوات عندما انتهيت بعد سبعة أعوام من كتابة رواية ‘جبل الروح’ كنت أمجد هذا النوع من الأدب، حيث أقول:

(بحكم طبيعته الذاتية ليس للأدب أي علاقة بالسياسة، إنها مسألة فردية خالصة، مسألة ملاحظة ونوع من استذكار لتجربة ما، أفكار وأحاسيس، تعبير عن حالة نفسية، وبنفس الآن مسألة إرضاء وإشباع للفكر وللتفكير.
إن ما نسميه كاتبا ليس شيئا آخر غير فرد يعبر عن ذاته ويكتب، ويمكن للآخرين أن يسمعوه أو لا يسمعوه، يقرؤوه أو لا يقرؤوه، فالكاتب ليس بطلا يرافع دفاعا عن الشعب، ولا وثنا يمكن عبادته، وبدرجة أهم ليس مجرما أو عدوا للشعب، وهو لما يتعرض لبعض المتاعب بسبب أعماله، فالأمر فقط لأن هذه الحاجة تأتي من الغير: فحين تحتاج السلطة إلى صناعة أعداء لكي تلفت نظر الشعب يكون الكاتب ضحية. والمحزن أكثر من ذلك أن الكاتب الذي يتعرض لهذه الآلام يكون عرضة لأن يخيل إليه أن هناك مجدا كبيرا في أن يكون المرء ضحية.
إن العلاقات بين الكاتب والقارئ في الحقيقة ليست إلا ضربا من الرابط الفكري والروحي الذي يقوم من خلال وساطة عمل من الأعمال بين فردين أو مجموعة أفراد ليسوا محتاجين لأن يلتقوا ولا أن تكون بينهم علاقة. والأدب باعتباره نشاطا إنسانيا، لا يمكنه الاستغناء عن فعلين اثنين: القراءة والكتابة وهما تحركان ينتجان عن الاختيار الحر. لهذا فليس للأدب أي واجب تجاه الجمهور.
لماذا لا نسمي هذا الأدب الذي استعاد قيمه الذاتية الأدب البارد؟ فهو لا يوجد إلا لأن الجنس البشري بعيدا عن إشباع حاجاته المادية يبحث عن نشاط ذي طبيعة محض روحية. وبطبيعة الحال فهذا الأدب ليس وليد اليوم، لكنه إذا كان عليه في الماضي أن يصمد أمام السلطة السياسة وقهر العادات الاجتماعية، فهو اليوم عليه أن يكافح زيادة على ذلك ضد غزو قيم السوق التي يقوم عليها مجتمع الاستهلاك، ولكي يبحث لنفسه عن مجال للوجود يتوجب عليه أولا القبول بالوحدة والعزلة.
سيجد للكاتب الذي يكرس حياته للاشتغال بالإبداع دون شك صعوبات لجعله مصدرا للعيش، وسيكون عليه البحث عن وسيلة أخرى للحياة، لذلك يمكن أن نقول أن الإبداع الأدبي نوع من الترف، وإشباع لحاجة عقلية خالصة. ولا حظ لهذا الأدب البارد في النشر والانتشار إلا بفضل جهود الكتاب وأصدقائهم. يعتبر كاو كزيوكين وكافكا مثالين على ذلك. ليس فقط لأن أعمالهما لم تحظ بإمكان النشر خلال حياتهما، بل لأنهما لم يتمكنا من خلق مدرسة أدبية ولا أن يصيرا نجوما وسط المجتمع. فهكذا كاتب يعيش على هامش المجتمع وداخل فجواته، إنه يكرس حياته كلها لهذا النشاط الروحي دون أن ينمو عنده أدنى أمل بأن يجني من ذلك أي أجر، وهو لا يبحث عن أي اعتراف اجتماعي، كل ما يبحث عنه متعته الخاصة.
إن الأدب البارد أدب فرار المرء لحفظ حياته، إنه أدب الحماية الروحية للذات لتجنيبها الخنق من قبل المجتمع، فإذا لم تقو أمة على تقبل هذا النوع من الأدب غير النفعي، فليس في ذلك بؤس للكاتب فقط بل الأمر محزن لهذه الأمة).

أما فيما يخصني أنا، فأعيش سعادة الحصول خلال حياتي على هذه المكافأة وهذا الشرف العظيم من قبل الأكاديمية السويدية، وهي مكافأة لكل أصدقائي عبر العالم الذين لم يدخروا جهدا لترجمة أعمالي ونشرها وأدائها ونقدها. ولا يمكنني في هذا المقام تقديم الشكر لهم واحدا تلو الآخر لأن اللائحة ستطول أكثر من اللازم.
لا بد أن أشكر فرنسا التي استقبلتني بالأحضان، لقد وجدت في هذا البلد المجيد بأدبه وفنونه شروطا للإبداع الحر كما وجدت قراء وجمهورا. كنت محظوظا أن لا أعاني كثيرا من الوحدة رغم أني كرست حياتي لعمل إبداع فيه ما يكفي من الوحدة. وأود أن أقول كذلك أن الحياة ليست احتفالا بأي حال، فالعالم لا يشبه في كل أرجائه هذه السويد الهادئة التي لم تعرف الحرب منذ مئة وثمانين عاما: والقرن الجديد أبعد من أن يكون قد حصنته الكوارث العديدة التي عرفها القرن المنتهي. فالذاكرة لا تنتقل بالوراثة كما تنتقل المورثات. والجنس البشري بالرغم من هبة الذكاء التي يمتلك ليس ذكيا كفاية ليستخلص الدروس الضرورية، فالقدرات الإدراكية لدى الإنسان قد تكون أحيانا ضحية لحمى خبيثة تهدد وجوده.
فليس أكيداً البتة أن الإنسانية ماضية من تطور إلى تطور. فخلال التاريخ، وهنا لا يمكنني أن لا أذكر تاريخ الحضارة الإنسانية، لا تتطور الحضارة بصفة منتظمة. هناك ركود خلال العصر الوسيط بأوروبا وقلاقل بآسيا خلال العصور الحديثة وحروب عالمية في القرن العشرين وحذلقة متنامية في طرق قتل الإنسان: إن الإنسانية لم تبرز ميولا إلى أن تصير أكثر حضارة على مر مسلسل التقدم العلمي والتقني .
لا التفسير للتاريخ من خلال نوع من النزوع علمي ولا الاستنباطات المأخوذة عن رأي تاريخي مؤسس على منطق جدلي موهوم، لا شيء من كل ذلك بإمكانه تفسير الأفعال الإنسانية. إن أصناف التعصب للعوالم الحالمة وكذلك الثورات الدائمة التي اجتاحت وعاثت فسادا لما يزيد عن قرن من الزمن قد انتهت الآن، ألا يتذوق الناجون من ذلك الفناء مرارة الأمر؟.
نفي النفي لا يقود حتما إلى الإثبات، والثورات لم تحقق دائما الإنجازات. ولنأخذ بداية الفكرة الحالمة بعالم جديد لاجتثاث العالم القديم، فقد تمت ممارسة نظرية الثورة الاجتماعية كذلك على الأدب فحولت ما كان جنة للإبداع إلى ساحة للحرب، وانقلبت على القدماء وداست التراث الأدبي وتمت العودة إلى الصفر: وحده الإصلاح صار مقبولا أما تـاريخ الأدب فقد فسر على أنه مسلسل انقلابات واضطرابات.
لا يمكن للكاتب في حقيقة الأمر أن يتقمص دور الخالق، ولا يجب عليه كذلك أن يظن نفسه أنه المسيح المخلص، فليس فقط أن ذلك سيتسبب له في خلل عقلي سيقوده إلى الجنون، بل سيحول كذلك العالم الحالي إلى وهم. فحين يحيط بالمرء فضاء للعذاب تصير الحياة مستحيلة بطبيعة الحال. صحيح أن الآخرين هم الجحيم لكن حين تكون الأنا خارج السيطرة أليس ذلك جحيما أيضا؟ لا يكتفي المرء بأن يكون آنئذ ضحية باسم المستقبل، بل يطلب من الآخرين أن يكونوا ضحايا كذلك.
لا يجب الاستعجال في ختم تاريخ هذا القرن العشرين: إذا ما بقينا محصورين في خرائب الإطارات الإيديولوجية، لن يكون التاريخ قد صلح لشيء يذكر وسيكون على الأجيال القادمة أن تصححه.
إن الكاتب ليس نبيا؛ فالأمر العاجل هو العيش في اللحظة الراهنة وإبطال الفخاخ المنصوبة وترك الآمال غير المجدية والتبصر المباشر مع مراقبة الذات في ذات الآن. لكن الأنا هي كذلك فوضى مطلقة، وحتى مع الشك بهذا العالم وبالآخرين، فلا شيء يمنع من التفكير حول الذات. إن أصل الكوارث وأنواع الاضطهاد تقع بالفعل دائما خارج الذات، لكن جبن الإنسان وارتباكه من شأنهما الزيادة في حدة معاناته والتسبب بالتعاسة للغير.
إن أفعال الإنسان عصية على التفسير بدرجة تجعله يجد صعوبة قصوى في فهم نفسه، وليس الأدب في حقيقة الأمر إلا مراقبة للإنسان من قبل نفسه، وحين يتفحص الإنسان نفسه تنبت آنئذ قشة وعي تضيء أناه.
لا يروم الأدب الهدم والتخريب لكنه ثمين لكشف ما لا نكاد نعرفه من الإنسان أو لإبراز الوجه الحقيقي لعالم نعتقد أننا نعرفه والذي نجهله في حقيقة الأمر. إن الحقيقة بكل تأكيد هي الصفة الأكثر أساسا في الأدب وأقلها قابلية للدحض.
قرن جديد بدأ – هل هو جديد حقا؟ لندع ذلك جانبا -، الثورة الأدبية والأدب الثوري سينتهيان مع تفكك الإيديولوجية. والأوهام المثالية الحالمة التي هيمنت على المجتمع خلال أكثر من قرن قد تبخرت الآن: إن الأدب بمجرد تحرره من عقال هذا المبدأ أو ذاك عليه أن يعود إلى صعوبات الوجود الإنساني، فالصعوبة الأساسية لوجود الجنس البشري لم تتغير كثيرا وتبقى موضوعا خالدا للأدب.
عصرنا هذا بلا نبوءات ولا بشارات، وأظنه هكذا أحسن. لقد انتهى الزمن الذي كان فيه الكاتب يقوم بدور النبي والقاضي، فقد غدت نبوءات القرن الماضي مجرد خدع. لا طائل من وراء خلق خرافات مطلقة يصدقها الناس عن المستقبل، والأفضل للمرء أن ينتظر فاتحا عينيه ملأهما. والأفضل للكاتب أن يعود إلى موقع الشاهد ويترجم الواقع ما أمكنه.
لكن ذلك لا يعني أن وظيفة الأدب تكمن في تسجيل الواقع. يجب العلم أنه نادرا ما تقدم لنا الشهادات كل الواقع وأنها غالبا ما تقنِّعُ الأسباب والدوافع المولدة للأحداث؛ أما الأدب فحين يتصل بالواقع يكون بإمكانه كشف كل شيء دون استثناء، بدءا بدواخل الناس العميقة وانتهاء بمسار تطور الأحداث؛ هنا تكمن قوته، بشرط أن يبرز الكاتب واقع الوجود الإنساني كما هو، دون اختراعه اختراعا.
إن تبصر الكاتب ودقته في رصد الواقع والتقاطه تحدد قيمة العمل الأدبي وهذا جانب لا يمكن أن تعوضه مهارات الكتابة ولا تقنيات التأليف. وفي حقيقة الأمر، تختلف الآراء بخصوص ما يسمى الواقع، كما تتنوع طرق ملامسته من شخص لآخر، لكنه يمكن الانتباه لأول وهلة ما إذا كان الكاتب قد زين أوجه الواقع المتعددة أو أنه قد عرضها دون لف ولا دوران. إن تحويل السؤال حول الواقع إلى تأمل مجرد مرتبط بالمعنى هو مسألة من اختصاص النقد الأدبي الذي نتج عن ايديولوجيا بعينها، وهذا الصنف من المبادئ والعقائد لا علاقة له بالإبداع.
فمجابهة الواقع أو عدم مجابهته بالنسبة للكاتب ليست فقط مسألة منهج إبداع، إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بموقفه في الكتابة. فمعرفة ما إذا كان المكتوب واقعا أم غير واقع يعني كذلك: هل الكاتب صادق في كتابته؟ فالواقع هنا ليس فقط حكم قيمة أدبي، بل إنه يكتسي معنى أخلاقياً. والكاتب لا يتحمل بأي شكل من الأشكال مهمة التربية الأخلاقية. إنه يعرض بعمق الشخوص المتنوعة المتغيرة التي تملأ هذا الكون، ويعرض معها نفسه بما فيها جانبه الحميم. يكاد يساوي الواقع في الأدب بالنسبة للكاتب الأخلاق، بل وحتى الأخلاق العليا.
فالخيال بين يدي الكاتب المتشدد في موقفه في الكتابة يجب أن يكون له شرط مسبق وهو التعبير عن حقيقة حياة الإنسان، وذاك مكمن القوة الحيوية في الأعمال الخالدة التي أبحرت عبر القرون. وإذا كانت التراجيديا الإغريقية ومسرحيات شكسبير لا يمكن أن يتجاوزها ميل العصور فلأنها كذلك.
ليس الأدب مجرد نسخة من الواقع، إنه يجتاز طبقاته الخارجية وينفذ إلى أعماق بواطنه. إن الأدب كاشف الخيال الذي يحلق عاليا فوق التمثلات العامة معتمدا رأيا شموليا ومنظورا يرصد الأمور من ارتفاعات عالية لكي يكشف تفاصيل الأوضاع وخباياها.
وبطبيعة الحال يلجأ الأدب كذلك إلى الخيال، لكن هذا الرحيل العقلي لا يعني سرد أي شيء، فالخيال المنفصل عن الأحاسيس الواقعية والمبتعد عن تجربة الحياة للمضي قدما نحو التخييل لن يكون إلا دون قوة تذكر. العمل الأدبي الذي لا يقنع حتى كاتبه نفسه لا يمكنه التأثير في القارئ. لا يكتفي الأدب في الواقع بالارتواء من تجربة الحياة اليومية، والكاتب ليس منغلقا على معيشه. ما رآه وما سمعه، ما تم وصفه في الأعمال الأدبية القديمة، كل هذا قد يصير ما يحسه بنفسه بفضل عدوى اللغة، إنه مرة أخرى مكمن سحر اللغة الأدبية.
تمتلك اللغة مثلها مثل الأسحار والصلوات قوة ترج الإنسان رجّاً، ومكمن فنها أن الراوي يمكنه أن ينقل للغير ما يحسه، وليس الأمر مجرد نظام من الشفرات والرموز بل إن هناك بناء للمعاني يكتفي ببنيته النحوية الخاصة. إذا ما تناسينا الإنسان الحي الذي يوجد خلف اللغة، قد تصير البناءات المنطقية ذات الطبيعة المعنوية بكل سهولة مجرد لعبة عقلية.
ليست اللغة مجرد ناقل للمفاهيم والرؤى، إنها تتصل في ذات الآن بالإدراك وبالحدس، ولهذا السبب لا يمكن للرموز ولا للمعلوميات أن تعوض لغة الكائنات الحية. بغض النظر عن قول الكلمات، لا يمكن التعبير عن إرادة المتكلم وحوافزه ونبرته وحالته الفكرية فقط من خلال عالم المعاني والبلاغة. لا يمكن التعبير عن معنى اللغة الأدبية بحق إلا إذا تلفظها إنسان حي بصوته، ذلك أنه سيستعمل كذلك سمعه، ولن يجعل منها مجرد أداة تفكير تشتغل بطريقة مستقلة. إذا كان الإنسان يحتاج إلى اللغة، فليس ذلك فقط لتبليغ المعنى بل ليستمع ويتعرف على وجوده بذات الوقت.
لماذا لا نحاكي هنا مقولة ديكارت لنصرح في ما يتعلق بالكاتب: ‘أنا أعبر إذن أنا موجود’. أنا، أي الكاتب، قد تكون الكاتب نفسه أو الراوي، أو حتى شخصية من شخوص الكتاب، وقد تكون هو، وكذلك أنت. الراوي- الذات يمكنه أن ينتقل من واحد إلى ثلاثة. إن التعرف على الضمير المتكلم هو نقطة انطلاق في التعبير عن أحاسيسه ومعارفه، وهو يعد منطلق ميلاد أنماط مختلفة في السرد. يحقق الكاتب أحاسيسه ومعارفه في هذا المسار للبحث عن نمط سردي أصيل.
في رواياتي أستخدم الضمائر بدلا من الشخصيات التقليدية وأصف البطل من خلال استعمال ضمائر ‘أنا’،و ‘أنت’، و’ هو’. وحين تستعمل نفس الشخصية ضمائر مختلفة للتعبير عن ذاتها فالمسافة التي يقيمها ذلك تمنح مجالا داخليا أرحب لأداء الممثل. وبالمناسبة فأنا ألجأ لتغيير الضمائر في كتاباتي المسرحية.
لم تنته ولن تنتهي أبدا كتابة الأعمال الروائية والمسرحية. فالإعلان عن وفاة هذا الجنس الأدبي أو الفني أو ذاك هو إعلان غاية في التفاهة.
أما اللغة التي نشأت بالتوازي مع بداية الحضارة الإنسانية فإنها لأمر خارق، وقوتها التعبيرية أبعد ما تكون عن الاستنفاد، ويكمن عمل الكاتب في الكشف عن طاقاتها الكامنة وتطويرها. ليس الكاتب بإله، وليس بإمكانه أن يفني هذا العالم رغم أنه شاخ. لا يمكن للكاتب كذلك أن يبني عالما مثاليا رغم أن العالم الحالي من الغرابة بما لا يسمح بفهمه، لكن الكاتب بإمكانه إلى حد ما أن يكرس ذاته لتعبير جديد. لا يزال هناك مجال للحديث فيما تحدث فيه الأولون، كما يمكن أيضا بداية التعبير من حيث توقفوا.
إن التدمير والتخريب في الأدب ينتميان إلى هراء خطاب الثورة الأدبية. إن الأدب لم يمت، ولا يمكن كذلك تصفية الكاتب. لكل كاتب مكان بين الرفوف. وما دام هناك قراء ليقرؤوه فهو باق. وإذا استطاع كاتب أن يترك في خزانة الأدب الإنساني، الغنية جدا، كتابا سيقرأ مستقبلا ففي ذلك سلوى عظيمة.
أما الأدب، سواء تعلق الأمر بالكتابة بالنسبة للمؤلف أو القراءة بالنسبة للجمهور، فهو يتحقق في الحال، وفي ذلك متعته. أما أن يكتب المرء للمستقبل، فإن لم يكن الأمر مجرد تظاهر فهو خداع للنفس وللغير. إن الأدب قد وجد للأحياء، بل هو إثبات حياة للأحياء في اللحظة الراهنة. إن هذه اللحظة الخالدة، لحظة إثبات حياة الفرد، هي علة وجود الأدب من أجل الأدب التي لا تتزحزح، إن كانت هناك حاجة للبحث عن علة وجود لهذه الحرية الهائلة الممتدة.
عندما لا ينظر المرء إلى الأدب كمورد رزق بل يكتب بحثا عن المتعة في الكتابة وينسى لماذا يكتب ولمن يكتب، تغدو الكتابة لا غنى عنها، ويصير من المستحيل ترك الكتابة، ليكون الأدب قدرا محتوما. ليس في الأدب منفعة، وذلك تحديدا أحد خصائصه الذاتية. أما كون الكتابة الأدبية صارت مهنة فتلك نتيجة محزنة لتوزيع العمل ضمن المجتمع الحديث، وهي نتيجة مؤسفة غاية الأسف بالنسبة للكاتب.
وفي أيامنا بالخصوص، حيث يغزو اقتصاد السوق كل شيء، صارت الكتب نفسها كذلك منتجات تجارية. ودون الحديث عن حالة الكاتب المعزول المتوحد، فالمدارس والحركات الأدبية تختفي تماما وهي تجابه السوق العمياء التي لا تعرف حدودا. وإذا ما رفض الكاتب الانصياع لقوانين السوق، وأراد أن يبدع دون أن يجد نفسه بصدد صناعة منتجات ثقافية لإرضاء ذوق الأسلوب الرائج، فلن يكون في غنى عن البحث عن سبيل آخر للعيش. لا علاقة للأدب برواج الكتب ولوائح المبيعات، أما وسائط الإعلام فتقوم بالدعاية أكثر مما تصنع الكتاب. فحرية الإبداع ليست منحة ولا أمرا يمكن اقتناؤه، إنها ناجمة قبل كل شيء عن حاجة داخلية للكاتب نفسه.
فبدل أن أقول إن بوذا يوجد في داخلك، بالأحرى سأقول إن الحرية توجد في داخلك ويبقى السؤال: هل ستستخدمها؟ فإذا استخدمت الحرية لتقايضها مقابل شيء آخر فإنها مثل الطائر ستطير بعيدا.
إذا كتب الكاتب ما يرغب في كتابته دون انتظار الأجر، فإن الأمر لن يكون فقط إثباتا لذاته فقط، بل وكذلك نوعا من التحدي للمجتمع. لكن هذا التحدي ليس خدعة، إذ لا يجب على الكاتب اعتبار نفسه بطلا أو مقاتلا، خصوصا وأن البطل والمقاتل حين يكافحان، فإن ذلك لا يكون من أجل قضية نبيلة، بل من أجل تحقيق إنجاز مفخرة، وكل ذلك يقع خارج مجال العمل الأدبي. إذا ما كان للكاتب تحديه الخاص للمجتمع، فإنه يكون من خلال الكلمات. لذلك عليه أن يعتمد على ما يبتدعه من شخوص وظروف في أعماله وإلا لن يسيء إلا إلى الأدب. إن الأدب ليس صرخة غضب، ولا يمكنه تحويل النقمة الفردية إلى استنكار عام. لا تصير أحاسيس الكاتب، باعتباره فردا، أدبا إلا إذا غرقت في العمل الابداعي، فيمكنها بهذه الطريقة أن تجتاز امتحان الزمن فتخلد.
ولذلك فمن الأفضل القول إن أعمال الكاتب هي التي تتحدى المجتمع وليس الكاتب نفسه. والأعمال التي تعبر الأزمان هي بكل تأكيد ردود قوية على العصر والمجتمع اللذين عاش فيهما الكاتب. فحين يكون صخب الأحداث وصخب الفاعلين فيها قد هدأ، يكون الصوت المرتفع من العمل الإبداعي ما زال يدوّي، إذا بقي هناك قراء ليقرؤوه.
في حقيقة الأمر، لا يمكن لهذا التحدي أن يصل إلى تغيير العالم. فالمسألة تتعلق فقط بفرد يبحث أن يتجاوز الحدود العادية لمحيطه الاجتماعي من خلال حركة قلما توسم، لكنها مع ذلك ليست مألوفة تماما: ها هو مصدر فخر أن يتصرف المرء كإنسان. إذا ما ارتبط تاريخ الإنسانية فقط بقوانين يصعب معرفتها وبحركة مستمرة لتيارات عمياء، ولم يمكن الاستماع لصوت متشعب لفرد من الأفراد، فسيكون ذلك محزنا جدا. في هذا المنحى، يكون الأدب متمما للتاريخ. فحين يفرض قانون التاريخ الضخم نفسه على الكائنات دون أن يمنحهم حق الاختيار، يكون على الإنسان هو كذلك أن يترك أثرا صوته. لا يملك الجنس البشري التاريخ فقط، فقد مُنِح الأدب كذلك، وهو يشكل ذلك النزر اليسير الضروري من الثقة في النفس التي يحفظها الإنسان على الرغم من تفاهتها.
أيها السادة الأكاديميون، أشكركم على مكافأتكم للأدب بجائزة نوبل هذه، ولقد منحتموها لأدب لم يسلم من معاناة الجنس البشري ، ولأدب لم يسلم من الاضطهاد السياسي، لكنه أدب ظل ثابتا على استقلاله، رافضا كل استعباد. أشكركم على منحكم أروع جائزة لأعمال بعيدة عن مناورات السوق ولأعمال لم تلفت الأنظار، لكنها أعمال تستحق القراءة. وأشكر في ذات الآن الأكاديمية السويدية لأنها سمحت لي بالتواجد فوق هذه المنصة التي تتطلع إليها عيون العالم قاطبة، وأشكرها على الإنصات لي، وعلى السماح لفرد ضعيف بأن يُسمع صوتا خافتا ومرتبكا لم يألف الناس سماعه في الإعلام. أظن أن ذلك هو هدف جائزة نوبل للآداب. أشكر لكم منحي هذه الفرصة.

******
غاو كسينغجيان (ولد 1940) كاتب روائي ومسرحي ومخرج وناقد مسرحي ورسام، صيني الأصل فرنسي الجنسية، سرعان ما فرض نفسه كأحد رواد المسرح والأدب الطليعيين، مما كلفه مضايقات خطيرة، وهو يعيش منذ عام 1988 في باريس- ويكتب بالفرنسية بالإضافة إلى الصينية – حيث يواصل أعماله الأدبية والفنية، كما يدعى في مختلف أرجاء العالم، وقد حصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 2000. ومن أشهر أعماله رائعته الروائية ‘جبل الروح’.
(المترجم)
علة وجود الأدب
محاضرة غاو كسينغجيان في الأكاديمية السويدية خلال حفل تسلمه جائزة نوبل لسنة 2000
إشارة إلى قولة جان بول سارتر الشهيرة ‘الجحيم هو الآخرون’ (Lenfer, cest les autres )
ترجمة: المبارك الغروسي
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى