صفحات ثقافية

في الذكرى الثانية والعشرين لرحيل فواز الساجر هذا التجاهل المتعمد… إلى متى؟

null
لم يعد خفياً على أحد أن تاريخنا العربي فيما يتعلق بتكريم المبدعين الحقيقيين لم يكن يوماً عادلاً أو منصفاً بالمطلق، إلا في حالات نادرة نتطبق على أنصاف المبدعين أو مدعييه مع الأسف، هذا الواقع التي عودتنا عليه الجهات القائمة على إدارة المؤسسات الثقافية الرسمية يتلخص بالتعتيم شبه المتعمد على تكريم أو إحياء ذكرى أصحاب المشاريع الثقافية الحقيقية التي كان لها أثراً كبيراً في تطوير وتقدم حياتنا الثقافية بمختلف جوانبها وتياراتها ومشاربها. هذا ما ينطبق على الرحل المبدع فواز الساجر الذي مرت الذكرى 22 لرحيله «توفي في 16 من أيار عام 1988أثر نوبة قلبية حادة» كئيبة رتيبة مثل كل عام، دون أن يذكر هذا المبدع الكبير الذي قدم عمره كله عن طيب خاطر لبناء اللبنة الأولى للمسرح السوري المعاصر. هكذا تعودنا أو بالأصح عودنا القائمون على الشأن الثقافي الرسمي، في الوقت الذي يحتفي العالم كله بمبدعيه محولاً ذكرى وفاتهم أو ولادتهم إلى فعاليات ثقافية متنوعة تبرز جوانب أبداعهم الحقيقية تخليداً لذكراهم. ترى ألا يستحق الراحل فواز الساجر تكريماً متواضعاً من قبل القائمين على الشأن الثقافي الرسمي ولو لمرة واحدة بطريق الصدفة؟
يقول الراحل سعد الله ونوس عن إحدى اللقاءات التي جمعته مع الساجر صديق مشواره الفني وهمه الإبداعي :«جلست وفواز في أحد المطاعم القريبة من مسرح القباني: والآن!! قالها وهو يغص بالبكاء. أجبت: ألن نعمل في التجريب المسرحي؟ المسرح مازال فكرة في أذاهننا والجميع ينتظرون الكيفية التي سنحقق بها فكرتنا. …ومن يضمن ؟إن عرضنا القادم لن يطوى….. لا أحد…. وإذن…. لا شيء… قدرنا أن نعمل بلا ضمانات.. بعد قليل كفكف دمعته وانغمسنا في حلم جديد»
وبعيداً عن الأسلوب السردي الذي تعتمده مجمل المقالات الصحفية القليلة والقلية جداً التي تناولت المبدع الرحل، سنحاول هنا تقديم محطات مختلفة من حياته وصور من أسلوب عمله الاستثنائي من بعض المقتطفات التي اخترناها من شهادات أصدقائه وزملائه ومعاصريه المنشورة في العديد من الصحف والدوريات.
فاطمة ضميراوي: فواز …إنه سر الحب وسر المسرح
التقيت به، صدفة، بعد شهرين من عودته من موسكو، في مسرح الشعب في حلب، ثم عملت معه في مسرحية «مأساة غيفارا» للمسرح الجامعي، ودعاني بعدها لنحتفل بعيد ميلاده، وبعد خمس سنوات دعاني أيضاً لنتزوج في يوم ميلاده. لو سألتم فواز هل هذه صدفة؟ لأجابكم بابتسامته الخبيثة الجميلة: لقد أردت أن أجمع المصائب كلها في يوم واحد. لست أدري ما أقوله عن خمسة عشر عاماً عشناها معاً، يسافر فألحق به، وأسافر فيلحق بي، ويتبلور الحلم، أكثر. حلم رسمه فواز في إحدى رسائله: صورة كبيرة بالألوان لزوجين سعيدين على طبق من البرغل. خمسة عشر عاماً ونحن معاً رغم التشرد والسفر الطويل، وأسأله قبل أيام من رحيله الأخير: أليس غريباً أننا معاً، وبعد كل هذه السنوات؟ فأجاب بابتسامة طفل يتخابث: إنه الحب يا امرأة، سر المسرح، وسر الحياة.
سعد الله ونوس: الساجر فتح باباً جديداً للإخراج المسرحي في سورية
حين عاد فواز الساجر، بعد أن أتم دراسته، كان الإخراج المسرحي في سورية مجرد تنفيذ متفاوت الجودة للنص المكتوب، وكان العمل مع الممثل يعني التدريب على الالقاء، وتنظيم حركة تبرر هذه الالقاء، أو تخفف قليلاً من رتابته. أما عناصر العرض الأخرى، الديكور والموسيقا والإضاءة، فقد كانت إما تزيينية، أو تطبيقات شبه حرفية لإرشادات المؤلف، وفي مثل هذا العمل، ما كان ممكناً الحديث عن رؤية إخراجية، أو عن إبداع جديد للنص. مع مجيء فواز الساجر، سيبدأ تاريخ جديد للإخراج المسرحي، ستظهر الرؤية الإخراجية، وسيكون المخرج بمثابة إبداع جديد للنص. انتهى عهد التنفيذ، ورصف عناصر العرض في عملية تلزيق ينقصها الترابط والوحدة العضوية، الذي تتساوق فيه كل العناصر بدأ من تكوين الفضاء وحتى اللوحة الأخيرة مروراً بأداء الممثلين والإيقاع ومختلف المواد السمعية البصرية الأخرى.
نعمان جود: حلم لم يعش طويلاً
التقيت مع فواز الساجر وسعد الله ونوس على حلم كبير هو المسرح التجريبي، كان ذلك بعد عودة الساجر من الاتحاد السوفييتي عام 1986م، شعرت انه استفاد كثيراً من دراسته العليا، وتعمق في توظيف عناصر العمل المسرحي نحو الأقوى والأفضل والأجمل، كان يشاهد العمل كأي متفرج عاشق للمسرح، وحينما باشرنا العمل في عمله الأخير «سكان الكهف» كان التنفيذ سهلاً، لأن اللغة المشتركة بيننا نضجت، ولأن هذا العمل يعتمد على عدد قليل من الممثلين، وقد تغيرت صورة هذا العمل أكثر من مرة خلال ثلاثة أشهر، ولم نكن راضين عنه بشكل تام، قال إن الظروف تدعونا لتقديم هذا العمل في أقرب وقت ممكن، وبعد ذلك سنبحث عن صيغة أخرى للعمل.
كنت اتمنى أن نتابع رحلتنا معاً، ولكننا خسرنا فواز، وهو خسارة لا تعوض، بفقدانه فقدت الأمل، وحينما صحوت من هول الصدمة قلت علينا أن نتابع، لأن فواز كان مدرسة فنية كاملة، تعلمت فيها ولن أتخلى عن مبادئها في تعاملي مع النص والمخرج ما دمت حياً. فواز الساجر حلم جميل لم يعش طويلاً.
د.نبيل الحفار: سيبقى فواز الساجر علامة بارزة في المسرح العربي
تعرفت إليه صيف عام 1972م في حلب بعد شهور قليلة من إنهائه دراسة الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفييتي، كان يضج بالحيوية والحماس، راغباً بمباشرة العمل بهدف تحقيق الأفكار الفنية الفكرية التجديدية التي يحملها، والتي أراد بها تحريك ركود المسرح العربي السوري على صعيد التعامل مع النص والممثل وسائر مكونات العرض المسرحي. كان يريد للمسرح أن يلعب دوراً مخالفاً لما هو سائد كان على المسرح في رأيه أن يعمق الفكر ويوقظ الوعي وأن يكون في الوقت نفسه ممتعاً ومبهجاً عبر خصوصية جماليته وأدواته، وكان يصر على تحقيق هذه المهمة عبر التعامل مع النص المحلي والعربي، ولذلك فإن ثمانية أعمال من أصل أحد عشر عملاً حققها خلال ثلاثة عشر عاماً كانت مؤسسة إما على نصوص عربية أو على اقتباسات محلية من نصوص عالمية.
صحيح أن الموت لا يرحم أحد ويفرق بين البشر، فهو حقيقة لا مفر منها، ولكن عندما امتدت يجه هذه المرة لتخطف من بيننا فواز الساجر جاءت ضربته موجعة حتى اليأس ومؤلمة حتى القهر… فجعنا وذهلنا ولم نصدق، أو يترك الساحة هكذا فجأة وهو في ذروة فعاليته واوج عطائه، وقبل أن يحقق المشاريع الكبيرة التي كان يحضر لها بدأب ويتحدث عنها بحماس؟
ترى ما الذي جعل القامة الإنسانية الشامخة تهوي وهي مفعمة بالتفاؤل وحب الحياة؟ أهو الانهاك أم الخذلان والحصار أم كل ذلك معاً؟
لقد ذهب فواز، كما ذهب من قبله زملاءه العمالقة نجيب سرور ومحمود دياب وصقر الرشود وغيرهم. وتركنا للذهول والحيرة… لكنه سيبقى بيننا دائما عبر أعماله الإبداعية الكثيرة والكبيرة وعبر فكره التربوي الناضج والمؤسس… سيبقى فواز علامة بارزة ومضيئة في مسيرة الفن المسرحي العربي.
Anas Zarzar

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى