صفحات سورية

عــن الحـريــة

null


حسام عيتاني

من بين الافكار التي طرحها الفيلسوف الانكليزي ادموند بيورك في نقده اللاذع للثورة الفرنسية بعد أعوام قليلة من قيامها، أنها بإخفاقها في تحقيق المثال الذي وعدت الشعب الفرنسي والعالم به، سوف ترتد حكما الى طغيان يبدو معه النظام الملكي القديم أرحم وأعدل.

تحققت مخاوف بيورك قبل أن يجف حبر كلماته، ليس عبر الارهاب الذي أطلقه روبسبيير وأصحابه وأدى الى موجة من الإعدامات والتصفيات وصلت الى إعدام روبسبيير ذاته، فهــذا كــان من الامور التي بدت في تلك اللحظــة التاريخيــة مما لا مفر من القيام به لترسيـخ سلــطة الثورة، وفق منطق الثورات والتغييرات التاريخية الكبرى، بغض النظر عن أخلاقياته. بل ان الطغيان جاء من خلال استيلاء بونابرت على الحكم وانقلابه على النظام الجمهوري وإعلان نفسه امبراطورا، ليجعل ما كان بعض ألمع مفكري أوروبا ينظرون اليه كحروب تحرير من بقايا الأسر الملكية الإقطاعية، حروب غزو وفتح واستيلاء على أراضي الآخرين ونشر للاستبداد.

سارت الثورة الفرنسية التي رفض بيورك مجرد الحديث عن جعلها نظيرة للثورة الانكليزية في الاربعينيات من القرن السابع عشر، من هزيمة الى هزيمة حتى نجحت القوى الرجعية الاوروبية في إعادة الملكية الى فرنسا، محققة ما هو أسوأ من الجزء الثاني من نبوءة الفيلسوف الانكليزي. فالثورة لم تنقلب على حكم طغيان فحسب، بل ان الثورة كانت هي ما مهد الطريق أمام أشد أنواع الحكم الملكي فسادا ولسلسلة جديدة من الثورات والحروب.

قليلون اليوم من يذكرون بيورك ومحاججته ضد الثورة الفرنسية. بل قليلون هم من يدعون الى النظر في الخيارات التي تضعها الأحداث والتاريخ أمام الشعوب كطرق يمكن السير عليها أو الامتناع عنــه. ولعــل هناك قدراً من الحكمة في القول ان الحتــمية التــاريخية تصبــح كذلــك بعد حصولها لا قبله، على ما دلت تجارب كثيرة ليس أقلها أهمية مصير الثورة البلشفية التي جاءت تحقيقا لحتمية تاريخية تقول بانتصار الاشتراكية وانتهت بانتصار حتمية اخرى تعلن انتصار الرأسمالية… حيث تبين أن الطبقة العاملة يمكن أن تكون أول من يخون حزبها على ما فعلت في أحواض بناء السفن في غدانسك وكررته بحدة أكبر في موسكو وغيرها. وهذا حديث طويل.

غير أن ما تريد هذه الاسطر أن تقوله ليس مكانه في صفحات التاريخ الاوروبي، بل في الواقعين العربي واللبناني. فليس بالامر الهيّن أن تكون الانقسامات اللبنانية والعربية متعلقة بما كان يعتبر بداهات ومُسلّمات، كالموقف من الاحتلال الاسرائيلي والعلاقة بالغرب عموما وبالولايات المتحدة. يمكن تلخيص مجمل هذه القضايا بعبارة واحدة هي الازمة الشاملة التي يعيشها العالم العربي في مواجهة الحداثة (لا العولمة على ما اكتشف منتدى عقد قبل أيام استمرأ اجترار الافكار والمواقف).

ويجوز هنا الانتقال الى المزيد من الاختصار بالقول ان الكلمة التي وصل العــرب اليهــا وعجــزوا عن تجــاوزها هي الحريــة: في المعــتقد والتعــبير والرأي والسلــوك الشخصــي… وكل ما يشتق من ذلك من حقوق في التجمع السياسي والثقافــة وفي الرفض والانشقاق والامتناع عن تلبية الدعوات القطيعية

ولعل الحرية هي ما يفتقده المرء أكثر ما يفتقد عندما تضيق الخيارات العامة لتصبح الحياة مجموعة تأملات في استكشـاف فضائل الاختناق أو الموت خنقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى