صفحات مختارة

سوق الكتابة.. هل تخضع، دائماً، لقانون العرض والطلب!؟

null

عبد الله القحطاني

كلمة: السوق، معروفة الدلالة، للقاصي والداني، كبيراً كان أم صغيراً. وهي تذكَّر وتؤنَّث. وقد آثرنا استعمالها، هنا، مؤنّثة، لأسباب متعلّقة بالموضوع المطروح!

استعمال كلمة: السوق، لا يعني أن المستعمل مثقّف! لكن الإبحار في دلالاتها، يحتاج إلى ثقافة مميّزة! لأنها بحار واسعة، بل محيطات هائلة، عميقة الأغوار، متنوّعة الأشكال والأهداف! والسباحة فيها، أو في أيّ منها، تحتاج إلى خبرات واسعة، كيلا يغرق السابح، أو المبحِر، دون أن يجد من يرثي له! فـفيها تشتبك، وتصطرع، أخلاق البشر، جميعاً، بسائر مستوياتها، النبيلة السامية، والمتدنّية الهابطة (السوقية!). ولن نكثر من ضرب الأمثلة، هنا.. حسبنا الإشارة العجلى، إلى بعض أسواق المال (أسواق الأسهم والسندات، وما يجري فيها، من لعَب ومناورات، ومؤامرات شيطانية.. ومن كوارث إنسانية!).

سوق الكتابة، هي واحدة من هذه الأسواق. وهي، بحدّ ذاتها، مجمّع هائل ضخم، لأسواق شتّى، واسعة الميادين، متنوّعة الساحات! فسوق الكتابة الأدبية، مثلاً، تضمّ أسواقاً شتّى، كسوق الشعر، وسوق القصّة، وسوق الرواية، وسوق المقالة، وسوق النقد! وكل ذي أرب فيها، يتذوّق.. ويتسوّق!

سوق الكتابة السياسية، أعقد هذه الأسواق، وأخطرها، وأكثرها مزالق! لأن السياسة، بطبيعتها، عمل غير فردي، ولا يمكن أن يكون فردياً، حتّى لو حقّق مصالح فردية، لأناس بأعيانهم، في ظروف معينة! فالكتابة السياسة، يمارسها فرد للجماعة، التي قد تكون حزباً، أو تحالفاً، أو دولة، أو شعباً، أو أمّة بأسرها! وكل متسوّق لهذه الكتابة، متأثّرٍ بها، سلباً أو إيجاباً.. إنّما يتأثّر ضمن هذا المناخ الجماعي، ليعود، هو، فيؤثّر في الناس، ضمن هذا المناخ الجماعي! وربّ كلمة سياسية، أدّت إلى قيام مظاهرة، أو ثورة.. أو أسهمت في إسقاط نظام حكم! كما أنها قد تحمل لقائلها، أو كاتبها، نوعاً من النفع أو الضرر، مادياً أو معنوياً! وربّما بلغت خطورتها عليه، حدّ السجن، أو القتل، أو النفي والتشريد، أو مصادرة الأرزاق!

من أنواع الكتابات السياسية:

(1) من حيث الأخلاق:

المبدئية، والمصلحية، والصادقة، والكاذبة، والمنافقة، والسامية، والمبتذلة..

(2) من حيث الجدّة والتكرار:

المبتكرة، والمكرّرة: المكرّرة بلفظها ومعناها، والمكرّرة مع بعض التطوير والتحوير، والمكرّرة من قبل صاحبها نفسه، والمكرّرة من قبل الآخرين!

(3) من حيث النفع والضرر:

ـ النافعة لصاحبها، مادياً أو معنوياً.. ولغيره، من حزب، أو جماعة، أو تحالف، أو شعب، أو دولة، أو وطن..!

ـ النافعة لصاحبها، فردياً.. الضارّة لحزبه، أو شعبه، أو وطنه.. والضارّة لصاحبها ضمن الضرر اللاحق بحزبه، أو شعبه، أو وطنه!

ـ الضارّة لصاحبها، فردياً.. النافعة لحزبه، أو شعبه، أو وطنه.. والنافعة له، بالتالي، ضمن النفع الذي يناله الحزب، أو الشعب، أو الوطن!

ـ الضارّة لصاحبها، فردياً.. ولحزبه وشعبه ووطنه، جماعياً.. والضارّة له، أيضاً، ضمن الضرر العامّ، الذي يلحق بجماعته.. فضرر صاحبها، هنا، مضاعَف عليه!

(4) من حيث القدرة على التأثير، السلبي والإيجابي:( والتي تتحكّم بقوّة تأثيرِها، وضعفِه، جملة من الخصائص المتعلّقة بها، وجملة من الظروف المحيطة بها!)

ـ ذات التأثير الشديد، في الحال والمآل، وعلى أزمنة متطاولة!

ـ ذات التأثير الشديد في الحال، لكن تأثيرها مرحلي، سريع التلاشي!

ـ ذات التأثير الضعيف، أو الضعيف جداً، أو منعدمة التأثير، في الحال، وفي المآل!

(5) من حيث درجات الوعي، بأهمّية الكلمة وخطورتها:

ـ التي يقولها المتمرّس، الخبير بأنواع الكلام، وأسواقه، وتأثيراته، ودرجات هذا التأثير.. وبالظروف المناسبة وغير المناسبة، لكل نوع من أنواع الكلام! وهذه تكون ـ في الأصل ـ أكثر الكلمات تأثيراً إيجابياً، لصاحبها ومجموعته.. وأشدّها تأثيراً سلبياً، على أعدائه، أو خصومه، الذين ينافسهم، أو يصارعهم! والسياسة ـ بطبيعتها ـ لا تخلو، البتّة، من تنافس وصراع، بين أفراد وكتل، وأحزاب ودول!

ـ التي يلقي بها صاحبها، لا يلقي لها بالاً، فتكون وبالاً عليه، وعلى المجموعة التي ينتمي إليها، من قبيلة، أو حزب، أو تحالف، أو شعب.. وهو يظنّ أنه يحسن صنعاً!

ـ التي يقولها صاحبها، بعد دراسة وتروّ، فتسبّب له، ولمجموعته، وبالاً لم يكن في حسبانه! لأنه لا يملك، في الأصل، القدرة الكافية، لدراسة السلبيات والإيجابيات، التي تحدثها الكلمة.. ويحبّ أن يخدم نفسه ومجموعته، بكلمة فيها بعض الإخلاص! أو يحبّ أن يتفاصح، أو يتظرّف.. أو يصبّ نقمته على بعض الناس، الذين يظلمونه، ويظلمون جماعته، من أهل، وحزب، وشعب..!

(6) وتبقى الحكمة الفردية، أولاً، هي المقياس الأول، والأهمّ، للكلمة؛ من حيث كل ما ذكِر آنفاً. وهي نسبية، بطبيعتها، تتفاوت من شخص إلى آخر! كما أن التوهّم بامتلاكها، يختلف من شخص إلى آخر! فربّما اعتقد أحد الحمقى، أنه أوتيَ الحكمة وفصل الخطاب، وأنه، وحده، المؤهّل، للفصل بين الأمور! فيجرّ نفسه، ومَن حوله، إلى كوارث، لا يعلم مداها إلاّ الله.. وهو يحسب أنه يحسن صنعا! وواجب المتضرّرين من (حكمته!)، هو شكمه بحزم، كيلا يهلك الحرث والنسل، ويحرق بلاده، وهو جالس يغنّي، ويستمتع بمنظر اللهب المتصاعد من جحيمها.. وربّما ردّد قول المعرّي:

وإنّي، وإن كنت الأخيرَ زمانـُه لآتٍ بما لمْ تَستطعْه الأوائـل!

(7) يبقى، التذكير بالعنوان، على ضوء السطور المذكورة آنفاً، فنقول: إن سوق الكتابة السياسية، لا تخضع، دائما، للقانون الراسخ، الذي يحكم السوق، وهو قانون العرض والطلب! فقد تَفرض بعض الكلمات، نفسَها، بطريقة اقتحامية، دون أن يشعر الناس بحاجتهم إليها، ابتداءً، فتحدث تأثيراً هائلاً، سلبياً أو إيجابياً.. أو تحدث السلب والإيجاب معاً، لفئات متعارضة، على مبدأ: مصائب قوم عند قوم فوائد! وذلك على مستوى وطن، ودولة، وشعب.. أو على مستوى إقليم كامل، بل على المستوى الدولي أحياناً!

(8) ويبقى، أخيراً، واجب الإشارة، إلى القانون اللطيف، الذي اكتشفه الإمام الشافعي، ذات يوم، متأخّراً، وبنى عليه نوعاً خاصاً من الفقه.. والذي أولاه علماء الاقتصاد، بعض ما يستحقّ، من العناية والاهتمام.. وهو ذلك الذي عبّر عنه الشافعي، بقوله:

لكلّ ساقطةٍ في الحيّ لاقِـطةٌ وكلّ كاسدةٍ، يوماً، لها سوق!

وسندع هذا القانون الطريف، في حدود الحيّز الذي اكتشفه فيه الشافعي، دون تفصيل في الحديث، عن أهمّيته البالغة، في ظروف معيّنة، يتحوّل فيها إلى قانون أساسي، وهامّ، في حياة الكثيرين.. عند فساد الأذواق!

المركز الإعلامي للأخوان المسلمين في سورية

الخميس 22 أيار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى