ثورة مصر

«عصفور» باليد ومليون طائر حر في الميدان

منذر بدر حلوم
أفتتح مقالي برثاء لحال (عصفورٍ) كان يُنتظر منه أن يغتسل بماء الغضب فيتطهر من عار أُهديَ إليه في طرابلس أمس. أسبل (عصفور) جناحيه هناك وأسبل معه أجنحته سربٌ من مثقفين وضعوا على عيونهم طمّاشات نحو الاحتفال بالعار. اهتدوا في طيرانهم بحاسة الشم. ولست أدري إن كانوا أقاموا، هناك، فرقاً بين (العقاب) خوان غويتيســولو و(النسر) آكل الجيف. تحية لغــازي أبو عــقل الذي أفادني بالفرق بين الطائــرين وكتــب، في جريدة (الكلب) ان مُنحت الجائزة لعصفور: «كيفَ يرضى بمثلِ هذا أديبٌ كان في الظن «كامل الأوصاف»؟
«كلبُنا» قال: إن هذا انتحارٌ. دونَ موتٍ إن جئت للإنصاف»، وتحية لميشيل كيلو وعادل محمود اللذين ما زالا قادرين على الاندهاش. فذات يوم، جلس صديقاي يتأمّلان السماء أثناء رحلة صيد، وراعهما أن يشهر مرافقهما بندقيته باتجاه طائر (جميل)، بدا لهما كأنّما استقر على منصب في السماء. قال الرجل ساخراً: «لو تعرفان عينه على ماذا وأين سيحط!» كان ثمة من أفرغ أمعاءه الغليظة في مكان صَبا إليه الطائر ذو الطلة الخادعة. الطائر الحر يعرف كيف يطير وأين يحط. وغيره يعرف! ستجد من يقول. لكن ذلك ليس أفضل على أية حال. فالفرق كبير بين مقام ومقام، كما بين هواء وهواء وبين ماء وماء. هي ليست دعوة إلى إطلاق النار! بل ليعش الـ(عصفور) الميت دالاً على موقفه، منفّراً من مثاله. ليعش طويلا فذلك أفضل للثقافة بكثير.
كان يُنتظر من (عصفور) أن يشرب من ماء ميادين مصر فإذا به يشرب من دماء شهدائها قبل أن يلم جناحيه في قبضة يد الطاغية، أقول: أسفي على الثقافة يا عصفور! وعتبي على أصدقائي لأنهم أوهموني بأنّك كنت حيّاً في يوم من الأيام. ولست أدري إن كان يجدر هنا إبداء الأسف، فالصداقة، عندنا، تحتمل كل شيء. تحتمل تلاوة الفاتحة على قبر (بوعزيزي) والانصراف من هناك إلى مائدة عامرة بثمار النهب والفساد. أم أنّها يجب أن لا تحتمل ذلك الخليط الفظيع كله! ليس فقط الصداقة تحتمل ذلك، بل وبنياتنا النفسية أيضاً تحتمل أن نجني ثروةً من أموال الفساد، من نهب مال الشعب، ونُصَدّر كتبنا بإهداء للفقراء والمحرومين؛ وأن نجتمع على مائدة واحدة من يدعو إلى إعدام واحد منّا على رأي عبّر عنه في بيان سياسي ومن هو في مقام المطلوب إعدامه. وتُرفع الأنخاب. وأمّا في الثورات فذلك غير ممكن. ولذلك ولغيره فالثورة تبعث النشوة في نفوس بعض من يجتمعون على مائدة واحدة وتبث الرعب في نفوس بعض آخر منهم. أم أنّ ذلك ممكن حتى في ثوراتنا التي تشبهنا! تقول ثوراتنا مثلما نقول، ولعل ذلك أمراً طيبا هنا: «المحبة فوق كل شيء»، أم هوالفهم الخاص لـ (أحِبّوا أعداءكم)؟
هي ليست دعوة إلى العداء! وحتى مفهوم العداء عندنا يُرجع إلى بنيات نفسية وبيولوجية ذات علاقة بالدم. وأمّا الحديث عن البنيات الطبقية فبات يثير السخرية. ألم يسقط الاتحاد السوفياتي ويفرح الإسلاميون؟! ومع ذلك فالثورة ممكنة بطبقيتها وخارج طبقيتها. هكذا هي ثورة تونس وهكذا ثورة مصر. وربما بسبب من ذلك، جاءت ثورة الشعوب العربية اليوم لتكون ثورة حياة. هي ثورة ترفع الحياة قيمةً عليا، وتنبذ فكرة الموت والخراب. هي ثورة من أجل العيش المشترك، وهي ثورة من أجل فكرة المشترك ومفهوم الشراكة. ثوراتنا اليوم، فكرة العدالة فيها خاصة ومحددة، ومحصورة بفئة ضيقة من أصحاب الأمر والنهي، وفكرة الشراكة فيها لا تقوم على مشاركة في الثروة، إنما على الحد الأدنى اللائق من العيش، فكل ما هو زائد عن كفاف يومنا خارج مطلب التشارك.
الثقافة أبعد نظراً
ثورة الشعوب العربية اليوم، فعل حياة. والفعل، في الثقافة مهم بذاته وليس بنتائجه، وأمّا في السياسة فالعبرة في النتائج. الثقافة أبعد نظراً بهذا المعنى من السياسة. فليس لجهلها بأهمية المستقبل تحتفل الثقافة بـ(الآن)، بل لأن المستقبل هو بالضبط ما يعنيها، تراها تحتفل اليوم بنبض الساحات في تونس وفي القاهرة، وغداً في كل مكان من أرض ثَقُلت عليها أقدام الظَلام. أجل، فللظلام أبواط، وقعها لا يزال يقلق كل من ما زال لديه حس في كثير من الأرض العربية. لكن الثقافة يلطّخها أبناؤها بالعار، وليس عارها أقل قبحاً من عار السياسة. محنة الثقافة أنّها تقوم على رموز، وحساسيتها هنا. المثقف والثقافة شيء واحد. وأمّا السياسة فتحتمل الفصام. يبدو مقبولاً أن يكون هناك ساسة متضاربون في سياساتهم، أو لنقل في أهدافهم، ومع ذلك تراهم يلعبون على بيدر واحد، ومن هذا البيدر يغرفون الجنى في سهوة من أصحاب الغلال أو في ذهول. في السياسة، ميزة للشخص، ترفع من شأنه، أن يجيد التلاعب ويتقن الخداع، أمّا في الثقافة فعار على الشخص أن يفعل ذلك. الأقنعة أدوات رجل السياسة، وهو يُمتدح حين يعرف أيها يرتدي عند اللزوم، أمّا رجل الثقافة فعار عليه أن يكون لديه قناع سوى روحه أو وجه الروح. أم أنّ لوزير ثقافة الموت رأياً آخر؟
طلب الانسجام بين القول والفعل، طلب التوافق بين الشكل والمضمون، طلب أخلاقي، يقع خارج السياسة. وأمّا الثقافة فتقع كلها في منطقة الأخلاق. وبهذا المعنى تبدو معارضة الاستبداد فعلاً في الثقافة بمقدار ما هي فعل في السياسة، فعلاً في الأخلاق بمقدار ما هي فعل في حقول تبدو خارج مقولة الأخلاق. أن تختار اليوم بين أن تكون مع ثورة الشعوب العربية ضد طغاتها يعني أن تختار بين أن تكون كريم النفس عزيزها وأن تكون نذلاً سافلاً. فالمسألة ليست في الاختيار بين سياستين ونمطين يمكن وضعهما على كفة الميزان. الميزان هنا لا محل له. مجرد القبول بفكرة الميزان، في ظرف كالظرف العربي، يعني الانحياز، يعني الوقوف ضد الشعب. كما أن أية نظرة تتأمل النتائج التي يمكن أن تؤول إليها ثورات الشعوب العربية ولا تعلي من شأن الثورة بحد ذاتها، نظرة تضمر تواطؤاً مع الواقع، قبولاً بأن يكون حق الشعب بالخروج على ظلامه مجرد وجهة نظر. أليس هناك من يقول اليوم بوطنية الدكتاتور على الرغم من كل الخراب الذي يخلّفه في الأوطان فيجعلها عاجزة عن مواجهة أي عدو، ويقول ببقاء الدكتاتور لبقاء الوطن! ثورة الشعوب العربية اليوم، ثورة على محتقري عقل الشعب ودائسي قيمه الأخلاقية والمعرفية والجمالية وممتهني كرامته وسالبي لقمته ومقيدي إرادته. الثورة اليوم، ثورة في السياسة، كما هي ثورة في الأخلاق، وهي ثورة في المعرفة وفي العلم، وهي، بكلّيتها، ثورة في الثقافة. العقل الثائر الحر ينتج العلم وأسباب القوة، خلاف العقل المستكين الذي لا ينتج إلا الظلام والجهل والضعف. وكل قول يرى في الثورة مجرد لعبة من الخارج ومن أجل الخارج قول يحتقر الشعوب العربية ليس أقل مما يحتقرها طغاتها. الطاغية، أيها الوزير، ليس وجهة نظر كما أنّ الشعب ليس وجهة نظر أيضاً.
النزول إلى الشارع ثقافة تواجه ثقافة التفرج على الشارع من شرفات فنادق (الخمس نجوم وسبع نجوم) التي طالما عقدتْ فيها ثقافة قاهرتـ(ك) مؤتمراتها. بالأمس كانت هذه الكاف تعني شيئاً واليوم هي تعني شيئاً آخر. ومع ذلك فالشرفة ليست مكاناً تأتي منه رائحة الياسمين فحسب، فإلى هناك تصل روائح الغازات المسيلة للدموع، وروائح البــارود من بنــادق رجال الأمن. أم أنّ الــوزير يعــاني الزكام؟ وكــما أنّ الشرفة مكان للفرجة فهي منصة للتحــليق ومحل للانسلاخ. بعضنا ينسلخ إلى أبطال، وبعضنا إلى ديدان. أم أنّ العلة في الحاضنة. طوبى للأمهات ينجبن من أجل البطولة و(للغلابة) يُحضّنون الغضب، وأسفي على من هجروا حضن الشعب.
وبعد, ففي سكوتها عن ثقافة تفرش السجاد تحت أقدام الاستبداد، تجد ثقافة خائفة، متأملة، منتظرة، ترصد المشهد من الشرفة بانتظار أن تتغير الساحات والشوارع التي تطل عليها. أمّا أن يطير مثقف من شرفته عابراً الجثث إلى قصر الطاغية لأداء يمين الولاء، فذلك عار. هو عارٌ، على الثقافة أن تعرف كيف تتطــهر منه. عار المثقف، هو عار الثقافة. جرّب أن تفصل بين الثقــافة والمثقف في أعين البشر، لا مكــان للتأمل ولا وقت لذلك. التأمل يحتاج إلى مسافة تفصل صاحبه عن الواقع. جرّب أن تفصل النار عن وقودها، إلا إذا كنت مستعداً لأن تصيــر أنت نفسك وقوداً لها.
يبدو أن المثقــف الكبــير مات. مات كثيراً قبل أن تحرق الثــورة آخر أقنعتــه. لم يكن عصفور يوماً ضد نظام مبــارك، ولم يجــهد في إخفاء ذلك، لكنه اليوم ضد الشعــب بكل وضــوح، ولن يكون بإمكانه إخفاء ذلك مهـــما حاول. كان يجب أن تدعهم يُنصّبون واحــداً من جنرالات الأمن متوحشاً على ثقافتهــم الزائــلة، أم أنّه العماء، عماء وزارة وضعــتها نصب عينيــك، وزارة ستُنتزع منك غداً أو بعد غد، كما وضــعت كرسي طه حسين، الكرسي الذي لم تعد جديراً به، أخلاقياً ومعرفياً. فمعرفتك بمجتمعك أضعف من أن ترفعك إلى كرســي رفيع الشأن، وأنت الأعرف بأخلاق طه حســين وبموقفه من مجتمعه!
لإثبات أنّهم أحياء يثور الأبناء، ولإثبات أنّ ضمائرهم ما زالت حية يثور الآباء. الثورة على الاستبداد فعل حياة، فأين المثقف الكبير من نبض الحياة اليوم، وما قيمة الثقافة إن كانت لا تعكس نبض الحياة!؟
(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى