صفحات مختارةغياث نعيسة

اليسار ، في التجربة و الآفاق

غياث نعيسة
” إن أردت أن تكون متفائلا ، فلا تهزأ و لا تنوح ، بل افهم ”
سبينوزا
أثارت مجلة “الآداب” بفتحها ملف اليسار اهتماما كبيرا لدى المعنيين بهذا الشأن، و أعادت إلى الحياة قضية اعتقد عدد كبير من اليساريين “السابقين” أنها قد ماتت و دفنت.  و لكن الواقع اعند من رغباتنا. فالعودة إلى الحديث عن ماركس و اليسار لا يعبر عن عودة “لموضة” جديدة،  بفعل الأزمة المالية العالمية، بل هي تعكس الصراعات الفعلية على ارض الواقع ، من النضالات الاجتماعية و ” الانتصارات” الانتخابية لليسار في أمريكا اللاتينية ، إلى تصاعد اليسار و النضالات عموما في دول أوربا واسيا وأفريقيا..
ما سنطرحه في مقالتنا هذه ليس بالضرورة ردا أو نقاشا على كل ما ورد في ملف العدد 4-5 لمجلة “الآداب ” ، إنما هي مقاربة تنطلق من موقف لا يدعي الحيادية أو البحث من جديد عن إعادة تسمية المعاني و المفاهيم و الوقائع ، و كأنها و لادة من عدم، كما فعل ادم في تسمية الأشياء .
لأننا نعتقد انه لا يمكننا أن نفهم الحاضر و لا أن نستشف المستقبل دون أن يحضر فهم التجارب السابقة في كل لحظة.  و أننا عندما نواجه معضلة في مطابقة الواقع على فهمنا النظري إنما لب المشكلة يكمن في الفهم النظري نفسه. لهذا فان تطور النظرية الماركسية إنما تم بفضل الإسهامات الثمينة لعدد من المفكرين الماركسيين بعد ماركس ، مثل لينين و تروتسكي و روزا لوكسمبورغ و غرامشي وغيرهم الأقرب إلى عصرنا.
كاتب هذه الأسطر ينتمي في تجربته إلى بداية تشكيل الحلقات الماركسية ، في مطلع سبعينات القرن العشرين، في سورية. و بالتحديد المبادرة في تشكيل  الحلقات الماركسية الثورية أو بالتعريف الشائع ” التروتسكية” ، و بالرغم من قلة عددنا في البداية ، كغيرنا من الحلقات ، و جدة اطروحاتنا في الواقع السوري و داخل يساره ، إلا أن هذه الحلقات نمت و لعبت دورا هاما في نضال اليسار السوري الراديكالي لغاية التسعينات ، ورغم تفكك أحوالها مع حالة القمع المعممة التي أصابت كل تيارات المعارضة وليس اليسار فحسب، لكن عدد من مبادريها بقي لهم نشاط دائم على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي إلى يومنا   في التجربة و النظرية
قدمت الماركسية فهم عميق لتناقضات النظام الرأسمالي لم تستطع أي نظرية أخرى أن تقدم ما يقاربها ، وقدمت أيضا هضما لتجارب النضال للجماهير الواسعة مع أفق لبديل عن الرأسمالية.
هذا التراث الفكري و النضالي لا يزال ضروريا و لا غنى عنه لفهم عصرنا و لإعادة نهوض اليسار من جديد.
لم تغير الأزمة المالية الراهنة و لا واقع العولمة من حقيقة أن النظام الرأسمالي العالمي يقوم على السعي للربح و على المنافسة . وهما مصدرا حيوية النظام الرأسمالي من جهة. و أزماته المتكررة و وحشيته من جهة أخرى.
في المقابل، استندت الماركسية – لماركس و انجلز- في تحليلها للرأسمالية على التأكيد على أن التغيير والبديل الاشتراكي إنما يقوم بهما الطبقة العاملة و جماهير المأجورين ، أي أن الأخيرين ليسوا موضوع التغيير بل هم ذاته.  لإقامة السلطة العمالية عبر هيئات و مجالس منتخبة مباشرة منهم، أي إدارة المأجورين لحياتهم بأنفسهم مباشرة. مما يعني، وباختصار، تقوم الماركسية على المقومات الأساسية التالية: ضرورة النشاط الذاتي للعمال و المأجورين و التنظيم الذاتي لهم و الحكم(أو الإدارة) الذاتي لهم، أي إدارة الناس لشؤون حياتها عبر مجالس و هيئات منتخبة مباشرة منهم. لهذا السبب إنما يجب أن تكون الاشتراكية شكلا أرقى و أعمق ديمقراطية من الديمقراطية البرجوازية.
لكن النموذج الشائع للاشتراكية “القائمة فعلا” الذي شكله الاتحاد السوفياتي و دول أوربا الشرقية و الصين وكوريا وو.. بعد الحرب العالمية الثانية ، و المروج له بفضل الولاء الأعمى للأحزاب الشيوعية الرسمية القوية  على صعيد اليسار العالمي بإيديولوجيتها الستالينية ،  نسف الأسس التي قامت عليها الماركسية الكلاسيكية. وقدمت هذه البلدان كأنموذج –منفر- للاشتراكية المنشودة التي ناضل من اجلها وبإخلاص أجيال عدة من اليساريين المخلصين . بل المصيبة ، أن هذه الدول وإيديولوجيتها الستالينية مست حتى الأحزاب القومية اليسارية التي تبنت الماركسية في مخاض تطورها مثل  أقسام من حزب البعث أو حركة القوميين العرب.
و أصبح الشغل الشاغل لكل حزب شيوعي أو ماركسي أو يساري جديد هو سعيه و لهفته للحصول على اعتراف الاتحاد السوفياتي بشرعيته . ولم تنحصر هذه العقدة بالحصول على صك الشرعية على الأحزاب الشيوعية الرسمية وانشقاقاتها المتعددة بل مست غالبية القوة اليسارية ، وعلى سبيل المثال ، قدمت فلسطينيا، نموذجي الجبهتين الديمقراطية والشعبية.
في تلك المرحلة ، شكلت لنا ” التروتسكية” سلاحا نظريا غنيا جدا و نقدي لكل ما يجري حولنا ، يعيد الصلة بالاشتراكية الثورية ، التي لفظتها الايدولوجيا اليسارية السائدة.
قدم لنا تروتسكي ، إعادة الـتأكيد على دور الطبقة العاملة والمأجورين  باعتبارها ذات الثورة الاشتراكية ، و أن معيار أي تغيير في المجتمع  هو الدور الذي تلعبه الطبقة العاملة فيه.
قدم تروتسكي نظريته في الثورة الدائمة وارتباط المهمات الديمقراطية بالمهمات الاشتراكية في البلدان المتخلفة وقانون التطور المتفاوت و المركب. وأيضا نقدا شرسا لكل أشكال التبقرط والاستبدالية.
و قدم تروتسكي لنا ، سلاحا هاما ، هو انه لا يمكن بناء الاشتراكية في بلد واحد، لان ضغط النظام الرأسمالي العالمي سيشوه ويعيق نمو أي دولة عمالية معزولة.  ونتيجة لهذا طرح أهمية الطابع الأممي للثورة.
لذلك ، فأننا و إن لم نكن نرى في الاتحاد السوفياتي و دول أوربا الشرقية أنموذجا للاشتراكية ، بل كنا نرى فيها أشكالا “مشوهة” أو “منحطة” للدول الاشتراكية  ، وهي استنتاجات  طرحها تروتسكي قبل اغتياله رغم استناده إلى الأسس النظرية الأساسية للماركسية الكلاسيكية كما اختصرناها أعلاه إلا انه حافظ حتى وفاته على تعريف هذه الدول بأنها دول عمالية رغم انتصار الثورة – المضادة الستالينية فيها، إلا أن التيار الواسع للتروتسكيين لم يطور هذه الاطروحات و تمسك بها بجمود – باستثناء أقلية اعتبرت منذ الخمسينات في القرن العشرين أن هذه الدول هي رأسمالية الدولة-  ، و لهذا أخذنا عن تروتسكي ضرورة الدعوة إلى “ثورة سياسية” في هذه الدول لتستعيد الطبقة العاملة سلطتها.
لكن الانهيارات التي حصلت والثورات فيها ، رغم ترحيبنا بها وخلاصنا من الأنظمة الاستبدادية فيها ، لم تؤدي إلى استعادة الطبقة العاملة لسلطتها ، كما كان مأمولا ، بل أن جزء من الفئة الحاكمة نفسها ساهمت في هذه “الثورات” من اجل الرأسمالية .
لم تصب الصدمة فقط الأحزاب الستالينية و الموالية للسوفيات فحسب بل أصابتنا جميعا. كيف يمكن لدول “اشتراكية”؟ أن تتحول ،دون حرب، إلى دول رأسمالية بمطالبة و فورات شاركت فيها الطبقة العاملة نفسها؟
معايير السلطة العمالية
هل الصين  دولة “اشتراكية” ، و شنغهاي تنازع الموقع الأول للبورصة العالمية للرأسمالية اليوم؟ كما يقول عدد من اليساريين، استنادا إلى أن الحزب “الشيوعي” هو الحاكم. هل كوريا الشمالية بل و كوبا دول اشتراكية.؟
إذا كان الجواب نعم ، فان تجارب انهيار الاتحاد السوفياتي و دول أوربا الشرقية لم تعلم أحدا. فالبديل “الاشتراكي الذي يدعو هؤلاء إليه الناس ليس، في هذه الحالة، أفضل من النظام الرأسمالي القائم على الديمقراطية البرلمانية، بل في بعض الأحيان هو أسوأ منه، هل هذه هي الاشتراكية.؟
باختصار ، يمكن القول ، انطلاقا من تجربة ما سمي بالدول “الاشتراكية” ، إن دور الطبقة العاملة فيها هو الشرط الجوهري اللازم الوجود في تحديد طبيعتها، وليس هذا بالقول فقط بل في الواقع تحديدا. أي أنها – الطبقة العاملة و المأجورين- تحكم من خلال هيئاتها ومجالسها المنتخبة مباشرة و ديمقراطيا(و ليس حزبا يحكم باسمها). و أن مقولة أن شكل الملكية هو المحدد ، لم يعد كافيا وحده ، فحتى في الدول الرأسمالية توجد ملكية الدولة ، و في صين اليوم توجد أيضا ملكية الدولة فهي ليست إلا شكل قانوني لا يحدد حقا طبيعة الدولة. وأخيرا ، لم يعد القول بالاقتصاد الموجه كشرط لتحديد الطابع “الاشتراكي” للدولة صالحا ، بل الأهم هو تحديد انه اقتصاد موجه من قبل من؟ و لصالح من؟ . و التجربة السابقة أكدت أن غياب السيطرة والرقابة العمالية المباشرة تلغيه كمحدد للطبيعة”الاشتراكية” للدولة.
لقد أثبتت  أيضا التجارب في الدول المسماة سابقا “اشتراكية” أن النظام الرأسمالي العالمي لم يمارس فقط الضغط أو يشوه الدينامية الاقتصادية في هذه الدول “الاشتراكية” بل الحقيقة هي أن النظام الرأسمالي العالمي  يحدد قوانين حركة الاقتصاد في كل رقعة على الأرض.  فالاشتراكية في بلد متخلف ستفرض عليه عملية “التراكم ” لمنافسة الرأسمالية ، ويجد نفسه في عملية تماهي مع آليات النظام الرأسمالي.
إن الدرس الجوهري من التجارب السابقة هو أن مجتمع ما يكون اشتراكيا بقدر ما أن الطبقة العاملة و المأجورين والناس تحكم نفسها من خلال مجالسها المنتخبة مباشرة و ديمقراطيا. ما عدا ذلك هو مسخ للبديل الاشتراكي المفترض أن يكون أرقى من الرأسمالية ليس فقط على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بل على الأخص على صعيد الحرية الإنسانية ، و أن ديمومة الاشتراكية في هذا البلد مرهونة بانتشارها عالميا.
الإصلاح و الثورة
إنها واحدة من الخرافات البالية ، تلك التي تقول برفض اليسار الراديكالي للإصلاحات.  لأن لحظة التغيير الجوهري (أي الثورة) إنما هي لحظة قصيرة مقارنة بسيرورة تراكم النضالات الجماهيرية ( ألم يسميها ماركس بلحظة الولادة ، القصيرة مقارنة بفترة الحمل الطويلة؟).
الاشتراكيون الثوريون ليسوا ضد الإصلاحات . لأسباب عديدة. منها أن الوعي السائد في أي مجتمع هو وعي الطبقة السائدة، و أن وعي  شرائح العمال والمأجورين في نضالاتها هو  وعي متفاوت ، وفي نضالاتها تسعى الناس أولا إلى العمل على تحسين شروط عملها  و حياتها ، من خلال مطالب ديمقراطية واجتماعية ومعيشية و قومية… و لأن الاشتراكيين الثوريين لا يرون التغيير كعمل تآمري أو انقلابي لحزب أو نخبة فان واجبهم هو أن يكونوا في خضم هذه النضالات لتجذيرها ومنع تذبذبها والاستفادة من تجارب النضالات السابقة في فهمها و تعميم تجارب النضالات و ربطها فيما بينها . هذا هو دور الاشتراكيين الثوريين ، و من هنا تبرز أهمية وجود حزب عمالي اشتراكي جماهيري.
إن مراكمة تجارب النضالات وبعض الانتصارات الجزئية و كفاحية عالية لجماهير العمال و المأجورين – بالترافق مع أزمة سيطرة و هيمنة للطبقة السائدة- و بوجود أحزاب عمالية اشتراكية نضالية جماهيرية تجعل من لحظة التغيير إمكانية واقعية.
فالتغيير (الثورة) هو فعل تقوم به غالبية الطبقة العاملة لصالح غالبيتها. انه فعل تحرر ذاتي، هذا هو المفهوم الماركسي للثورة.
بيد أن الوعي الشائع لدى الجماهير – بغياب أزمة ثورية- هو وعي إصلاحي . لكن عصر الإصلاحات قد ولى . و هذا ليس كلام لفظي، انه الواقع.
نعم ، كان هنالك فسحة للإصلاحات في النظام الرأسمالي من أربعينات إلى نهاية سبعينات القرن الماضي و هذا تجلى في جملة من الإجراءات على صعيد الأجور والضمان الاجتماعي و غير ذلك مما أطلق عليه بدولة الرفاه في أوربا ، و لم تأت هذه الإصلاحات في اغلب الأحيان الا بعد نضالات جماهيرية كبيرة . و أعطى هذا الواقع “تبريرا” لوجود أحزاب اشتراكية – ديمقراطية جماهيرية ، لسبب بسيط هو أن الجماهير في تلك الحقبة التاريخية لمست أن هذه الأحزاب سهلت عدد من الإصلاحات الهامة ، فأعطتها مصداقية.
لكن الحال تغير ، و بالذات منذ ثمانينات القرن الماضي ، لم يحصل فقط توقف للإصلاحات الكبرى في هذه الدول الأوربية بل حصل تراجع عن العديد من الإصلاحات المكتسبة ، مثل التراجع عن قوانين البطالة والتسريح إلى قوانين التعويضات الاجتماعية والتقاعد وغير ذلك من الخدمات العامة. وتجلى دور الأحزاب الاشتراكية – الديمقراطية اليوم على كونه مجرد إدارة ليبرالية “اجتماعية” للنظام الرأسمالي مع نهاية عصر الإصلاحات. و هذا هو مصدر أزمة هذه الأحزاب في البلدان التي تعتبر فيها أحزابا نافذة. و خصوصا أوربا والبلدان الاسكندينافية. إنها لم تعد أحزاب إصلاحية ( أو قادرة على الإصلاح) بل كأحزاب اليمين أصبحت أحزاب إدارة ليبرالية للرأسمالية. دعاة الإصلاح الجديين اليوم في أوربا( بل و في العالم) هم أحزاب اليسار الراديكالي.
هذا من الأسباب التي تدعو للرثاء من رؤية بعض القوى الماركسية في المنطقة العربية، التي اعتقدت- و توهمت- أنها تحولت إلى روح العصر بتبنيها الاشتراكية –الديمقراطية في وقت لم يعد لهذه الأخيرة أي روح.
لا يعني هذا اندثار الأحزاب الإصلاحية في أوربا و العالم، أبدا. إنها ستبقى موجودة طالما بقي وعي إصلاحي  لدى جماهير الناس ،  لكن الجماهير بدأت تدرك أن أدنى إصلاح اليوم أصبح يتطلب نضالات جماهيرية كبيرة. والإصلاحات الكبيرة تتطلب ثورة.
مهمة اليسار الاشتراكي الثوري اليوم هو العمل الجدي واليومي من اجل ليس فقط بناء ذاته ، بل و بناء يسار واسع ، والانخراط  وإنهاض نضالات الجماهير ، و المحدد الأساسي لعمله هذا هو سعيه إلى رفع وعي و كفاحية واستقلالية الطبقة العاملة و المأجورين .

اليسار الراديكالي و اليسار الواسع
لم تعد للخلافات الإيديولوجية السابقة بين أطراف اليسار الماركسي أهميتها ، فلم تعد قائمة صين ماو تسي تونغ و لم يعد قائما الاتحاد السوفياتي و دول أوربا الشرقية كمصدر الهام للستالينيين، من جهة, ومصدر نقد صارم للتروتسكيين، من جهة أخرى.
ينقسم اليسار اليوم إلى يسار معادي للرأسمالية ويسار مناهض للامبريالية . اليسار الراديكالي يعني يسارا واضحا في معاداته للرأسمالية والامبريالية. و المهمة الرئيسية هي إعادة بنائه  و وحدته . و هو متنوع لأنه يشمل يسارا-من اصول متعددة- لا يتوافق بالضرورة – عدا توافقه على معاداة الرأسمالية والامبريالية- حول آليات العمل التنظيمي وأفاق البديل الاشتراكي المنشود. و المطلوب هوالبدء في فتح حوار جدي بين أطرافه و أفراده يستند في كل مرحلة على آليات نشاط مشتركة ، تساهم في تكوين مشتركات وثقة بين أطرافه.
و وفق حالة كل بلد ، نرى انه على اليسار الاشتراكي الثوري أن ينفتح على أطراف اليسار الأخرى(المعنية بالنضالات الجماهيرية  و المناهضة للامبريالية و غير الحكومية) ، إن كان يسارا داعيا لإصلاح الرأسمالية أو معاديا للامبريالية (كبعض اليسار القومي) في العمل المشترك لنضالات موحدة يكون المحدد الأساسي لها –بالنسبة لنا- أن تكون نضالات و نشاطات تساهم في “رفع كفاحية و وعي و استقلالية الطبقة العاملة و المأجورين” و ليس صفقات انتخابية أو إعلامية فارغة.
يلعب الحراك الفكري والثقافي لليسار الراديكالي أيضا دورا هاما في نهوضه، و خصوصا في لحظات التراجع و التفكك كالتي نعيشها، فالتركيز على دور المثقفين و المفكرين اليساريين هام جدا في هذه الفترة، لفتح فجوة في نظام الهيمنة الإيديولوجية للرأسمالية.
لكن الشرط الأساسي لعودة اليسار إلى ساحة الفعل و الوجود سيكون نمو النضالات الجماهيرية في العالم و بلداننا ، و هو ما بدأ تتجلى بوادره في عدد من بلدان منطقتنا ، بعد أن برز قبلا في أمريكا اللاتينية و أوربا.
هنالك دائما ما يمكن فعله و في أحلك الظروف، في هكذا ظروف من التراجع العام لليسار في بلداننا ، يمكن بناء أشكال و لو كانت جنينية لليسار الراديكالي تعمل وفق إمكانياتها إن كان على الصعيد الدعاوي مع الانخراط في النضالات القائمة و القادمة.
عوضا عن العويل والبكاء على واقع الحال السيئ، على كل اشتراكي ماركسي أن يبادر وان ينظم.
حول اليسار في المنطقة العربية
يتميز الشرق العربي بأنه، و منذ زمن طويل، مركز اهتمام و انتشار الضواري الامبريالية  ، والأصل في هذا الاهتمام بمنطقة “الشرق الأوسط” هو أولا  اهتمامها الرئيسي بالنفط  الذي تعج به المنطقة. وثانيا الموقع الجيوسياسي الهام للمنطقة . وثالثا إقامة الدولة الصهيونية في قلب الشرق العربي ومهمتها الأولى لعب دور كلب حراسة للمصالح الامبريالية في المنطقة.
ولقد شهدت المنطقة إعادة انتشار ، بل قل هجمة امبريالية شرسة تتوجت بالاحتلال الأمريكي للعراق منذ عام 2003 ، ولكن هذه الهجمة الامبريالية تواصلت بالحرب الصهيونية على لبنان عام 2006 وعلى غزة 2009 . وفي مقابل هذا الانتشار و العدوانية الامبريالية برزت مقاومة واضحة لها ، وان كان الطابع “الإسلامي” لغالبية القوى المقاومة هو الأبرز ، لكن الشعور المعادي للامبريالية في المنطقة هو شعور جماهيري طاغي يتجاوز حجم و نفوذ القوى الإسلامية المقاومة.
علاوة على ذلك ، هنالك ظاهرة كولونيالية تجلت في تحطيم و إعادة تركيب هش لبلد هو العراق ، و سلطة فلسطينية ، رغم اندراجها في مسلسل المفاوضات مع الدولة الصهيونية لم تحقق لا سلاما و لا دولة فلسطينية بل تحولت إلى سلطة عميلة للاحتلال ، مع غياب كل إمكانية عملية و واقعية لإقامة دولة فلسطينية بسبب سياسة القضم الصهيونية المتواصلة لما تبقى من الأراضي الفلسطينية  ، و تخلف اجتماعي واقتصادي وسياسي للمجتمعات العربية بفضل أنظمة فاسدة و استبدادية معظمها تابع للامبريالية .
نجد من جهة هجمة امبريالية شرسة ، و من جهة أخرى مقاومات مستمرة لها ، على أرضية واقع مركب ومعقد.
يمكن القول أن الواقع في المنطقة يتميز بثلاثة عوامل مترابطة هي : تفكك المجال السياسي والاجتماعي ، مع إرادة بارزة لمقاومة الامبريالية،  ومحاولة إعادة تركيب سياسي ما يزال  في بداياته يتلمس استراتيجياته و سياساته.
ينطوي الواقع الراهن على إمكانيات متعددة، فبروز الظاهرة “الإسلامية” منذ ثمانينات القرن الماضي على حساب أفول التيارين اليساري-الماركسي- والقومي والتي ساهم فيها سلسلة أخطاء من اليسار الماركسي الذي لم تتميز غالبيته بستالينية متخلفة فحسب بل أضاف عليها ممارسات خاطئة كان بعضها مدمرا له مثل ارتباطاته بأنظمة استبدادية سماها تقدمية . دون ان نطيل حول فشل الأنظمة القومية العربية نفسها ( كالبعث والناصرية..).
تتمفصل في منطقتنا عدد من القضايا ، منها المسألة الكولونيالية و الدينية والقومية  (ليس فقط العربية بل هنالك أقليات قومية أخرى كالكردية) والقضية الديمقراطية التي أصبحت مطلب رئيسي في كافة الدول العربية والقضية الثقافية والقضية الاجتماعية والطبقية ، حيث تتفوق الأنظمة العربية على غيرها بدرجة إفقار شعوبها و وتيرة استغلالها لهم.
أن تكون يساريا عربيا يعني اليوم الاهتمام ليس بالحقل الأساسي له أي الاجتماعي و الطبقي فقط، بل أيضا  بكل القضايا الأخرى المذكورة أعلاه.
أن تكون يساريا عربيا يعنى موقفا حازما من اجل العدالة الاجتماعية و المساواة وضد الطائفية و ضد أي تمييز يقوم على العرق أو الدين أو الجنس و من اجل العلمانية في الدولة، و نضال من اجل الحريات الديمقراطية.
أن تكون يساريا عربيا اليوم يعني موقفا حازما في معاداة الامبريالية والصهيونية و متضامنا مع القوى الجماهيرية المقاومة و لو كانت إسلامية مع الاحتفاظ بحق نقدها،  وليس كما فعلت قيادة الحزب الشيوعي العراقي في تعاملها مع الاحتلال الأمريكي أو مثل مواقف بعض القوى المعارضة السورية من الحرب الصهيونية ضد لبنان في تموز عام 2006 حيث تبنى مثلا حزب الشعب الديمقراطي(الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي سابقا) و حزب العمال العربي الموقف الرسمي للحكومة السعودية.
أن تكون يساريا عربيا يعني اليوم موقف  واضح في إدانة السلطة الفلسطينية العميلة و دعم قوى المقاومة ، وبناء يسار فلسطيني مستقل و مقاوم. و ليس التمسك بحل الدولتين التي لم تعد له إمكانية واقعية سوى تشكيل بانتوستان هزيل ، بل الدعوة إلى دولة ديمقراطية واحدة ترد فيها المظالم للشعب الفلسطيني لان هذه الدعوة أكثر ثورية و واقعية من دعوة الدولتين أو الدعوة لدولة فلسطينية في الأردن. دون أن ننسى أن حل القضية الفلسطينية يستلزم انتفاضات جماهيرية على امتداد المنطقة وان الاشتراكية لا تقدم فقط الحل الاستراتيجي لها بل وللقضايا القومية والكولونيالية الأخرى أيضا.
عندما يكون لليسار موقف واضح و صريح و عملي في هذه القضايا الملحة في منطقتنا  ، يمكن أن تنفتح حقبة جديدة من النضالات يعود فيها اليسار إلى موقع الـتأثير و الفعل .
اليسار الذي نحتاج إليه هو يسار معاد للرأسمالية والامبريالية ومعايش لقضايا مجتمعاتنا و يطرح إجاباته عليها مع الانخراط دوما في هموم و نضالات الناس.

غياث نعيسة
أيار /مايو 2010

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى