ما يحدث في لبنان

حلقات الانحدار اللبناني

null
خالد غزال
على رغم التفاؤل النسبي الذي ساد لدى اللبنانيين عند انتخاب رئيس للجمهورية، الا ان التعقيد الذي تراوح عنده الازمة اللبنانية عاد يجدد لدى المواطن انبعاث الخوف من الاتي وخصوصاً من المجهول الامني. يستعاد القلق والخوف في اعقاب محطات خطيرة عاشتها البلاد في الاشهر الاخيرة ولا تزال مفاعيلها قائمة بل تسير الى مزيد من التوتر.
فقد شكلت الاحداث الامنية التي عرفتها البلاد خلال شهر ايار الماضي في بيروت والجبل والبقاع والشمال حلقة خطيرة في مسار الازمة اللبنانية. لم تأت الاحداث صدفة بمقدار ما كانت تتويجا لازمة سياسية متواصلة بدأت طلائعها مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتصاعدت مع الازمة الوزارية واعتصام المعارضة والعمل لاسقاط الحكومة. خلافا للخطاب الذي ساد في ايار وبعده ، ومفاده ان لبنان كان على شفير اندلاع حرب اهلية، فان حقيقة ما جرى هو الحرب الاهلية الساخنة بعينها، لا يقلل من اهميتها اتها استمرت اياماً عدة. لمن يعرف قوانين الحرب الاهلية يدرك ان ما جرى هو جولة من جولات الحرب التي سبق للبنان ان عرفها. تؤكد الاحداث الدامية التي شهدتها مناطق الشمال والبقاع صحة الحكم القائل ان البلاد دخلت عمليا منعطف الحرب الاهلية الساخنة، حلقة بعد حلقة وجولة بعد جولة . في هذا المجال يجب الا تسود الدهشة من هذه الانفجارات، لان البلاد كانت تقيم في حرب اهلية منذ اتفاق الطائف، اتخذت طابعا باردا لسنوات، ثم تصاعدت منذ عام ونصف عام، وتبعها خطاب سياسي ساخن من الطرفين، بحيث كان الوقود مهيأ للاشتعال في كل لحظة.
الحلقة الخطيرة الثانية في مسلسل الازمة – الحرب الاهلية، تمثلت في الطابع المذهبي الحاد الذي عبّرت عنه الاحداث. خلافا لحرب اهلية عرفتها البلاد في ظل انقسام سياسي عبر فيه كل طرف عن وجهة نظره في المشروع الذي يريده، وعلى رغم الانقسام الاهلي الطائفي الذي انطوت عليه الحرب سابقا وهو انقسام ظل اجماليا، الا ان الحرب الراهنة انطوت، ولا تزال على انقسام مذهبي حاد بين ابناء الطائفة الواحدة. لا يفيد الكلام ان الاحداث الاخيرة ليست صراعا مذهبيا بمقدار ما هي صراع سياسي، لان المشهد الذي عرفه اللبنانيون خلال هذه الفترة هو مشهد من الصراع التاريخي بين المسلمين على السلطة يعود لاربعة عشر قرن خلت. من استمع الى شعارات المقاتلين خلال هذه “الحرب” لا تعوزه رؤية طبيعتها في “الانتقام التاريخي” للمذاهب. يجري كل ذلك مصحوبا بشحن ايديولوجي تمتزج فيه الخرافات بالغيبيات، والدعوة الى النبذ المتبادل وصولا الى الاقصاء والاستئصال.
لكن اخطر الامور التي خلّفتها الحلقة الاخيرة من الصراع انما يتجلى في المناخ السائد بين اللبنانيين. مناخ الخوف والرعب بعد ما شهدوه في ايار واعاد اليهم ذاكرة الحروب الاهلية المتنقلة. مناخ الحقد والكره غير المحدودين بين ابناء المذاهب، وهي مشاعر تفتح على هوس الانتقام والثأر في بلاد لا تنقصها استثارة العصبيات العشائرية. يترجم هذا الهوس نفسه باندفاع غريب لاقتناء السلاح تحت حجة الدفاع عن النفس والاستعداد للحفاظ على الكرامة. من يتحدث الى المواطن العادي في المناطق اللبنانية، يكاد لا يسمع سوى لغة وحيدة هي لغة الحصول على السلاح والتحسب لاحتمال تجدد حلقات القتال. لم يسبق للبنانيين، حتى في ذروة الحرب الاهلية في السبعينات والثمانينات، ان سادهم هذا الشعور بالخوف والتعبير عنه بهوس التسلح. من الصعوبة التحدث اليوم مع اللبناني بلغة العقل والتحذير مما ستجره الحرب الاهلية من دمار في البشر والحجر، فهذا كلام اقفلت الآذان عن سماعه.
يتساءل المرء بعد هذه الحلقة من الانفجار الاهلي والرواسب التي خلفتها، والتي تسير صعودا كل يوم مع الخطاب السياسي العالي، المصاحب للازمة السياسية المفتوحة، عن المآل الذي تسير البلاد في اتجاهه. لا يخفى على المواطن ان البلاد الى مزيد من التشرذم والانفكاك والى التواصل في لعبة الموت والرقص على الجثث. ولمن يدرك عبثية الحرب الاهلية ويعرف نتائجها ويصعب عليه الانخراط في هذا المعسكر الاهلي او ذاك، ولمن ليس طائفيا او مذهبيا، اتت الحرب الاخيرة لتزيده احباطا من امكان ولادة قوى غير طائفية وتوسيع مساحة المشترك بين اللبنانيين. فالحرب الاخيرة فعلت فعلها المزدوج: اطاحت قوى كانت لا تزال على الهامش فهمّشتها أكثر، او الحقت قسما منها بالحالة المذهبية القائمة. من جهة اخرى، امعنت الحرب في الغاء تكوّن مساحة مشتركة بين اللبنانيين من موقع المعادلة الطائفية السائدة، وزادت من اكتساح المذاهب هذه المرة لكل هامش مشترك. وهي امور تجعل اعادة قيام الدولة اكثر صعوبة منها في اي زمن مضى، كما تجعل مهمة القوى الساعية الى لبنان ديموقراطي تسود فيه المواطنية مهمة شاقة جدا في الزمن المنظور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى