ما يحدث في لبنان

من يفتعل أحداث العنف في طرابلس الفيحاء

سليم نصّار
شهدت مدينة طرابلس «الفيحاء» زيارات متواصلة قام بها عدد من ممثلي الدول العربية بهدف تنفيس الاحتقان ومنع تمدد اضطرابات الضواحي، أي الاضطرابات والاشتباكات التي فجّرتها خلايا «فتح الإسلام» خصوصاً بين منطقتي باب – التبانة وجبل بعل محسن، وبما أن المدينة الثانية في لبنان تختزن في تاريخها الطويل، معظم حوادث الشغب والتمرد، فإن الزوار الرسميين يحاولون مشاركة الدولة في لجم المواجهات تفادياً لخطورة انتشار الفتنة المذهبية. لهذا السبب وسواه انتقل السفير السعودي عبدالعزيز خوجه الى طرابلس حيث التقى مفتي الشمال الشيخ مالك الشعار وعدداً من النواب والسياسيين المهتمين بحاجات المدينة المنكوبة. ومثله فعل سفير دولة الإمارات المتحدة محمد سلطان السويدي الذي حرص على تفقد المستشفيات ونواب المنطقة. وعندما وصل رئيس الحكومة السابق عمر كرامي الى القاهرة تلبية لدعوة رسمية، كان وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط يبلغ المسؤولين اللبنانيين مخاوف بلاده من نتائج الوضع المتأزم في طرابلس ويحذرهم من تنامي تيارات الفتنة وأثرها السلبي على الاستقرار في عهد الرئيس ميشال سليمان.
نواب المعارضة يعزون اهتمام الدول السنية – وفي مقدمها مصر – الى الهواجس التي حملها اتفاق الدكتور حسن الشهال و «حزب الله». ومع أن زعماء طرابلس لا يولون الاتفاق الاهتمام الذي توليه مصر مثلاً، إلا أن الحسابات السياسية هي التي تستأثر باهتمام الدول المعنية. ويبدو أن هذه الحسابات بدأت تتجمع في الأذهان عقب الزيارة المفاجئة التي قام بها النائب سعد الحريري الى بغداد واجتماعه بعلماء الشيعة ورئيس الوزراء نوري المالكي. ولما اختير ابراهيم، نجل الإمام محمد مهدي شمس الدين، وزيراً في حكومة الاتحاد الوطني، تنبه «حزب الله» الى وجود مخطط يستهدف وحدة الطائفة الشيعية. ثم تبين له أن مخطط الزعامات السنية يرمي الى إحياء المرجعية الشيعية اللبنانية التي أرسى دعائمها الإمام المغيّب موسى الصدر. ثم طورها في كتبه نائبه في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الإمام محمد مهدي شمس الدين. ومن المعروف أن الإمام شمس الدين ركز في طروحاته على تمتين علاقة شيعة لبنان بشيعة العراق، معتبراً «النجف» المرجعية الأساسية وليس «قم». وهذا ما أكده السيد حسين الحسيني في مجال اعتراضه على الذي يحدث في الجنوب وبعلبك. بل هذا ما توخاه النائب غسان تويني من وراء قراءة مختارات من كتاب الإمام شمس الدين أمام شاشة التلفزيون. وهكذا تكونت لدى قيادة «حزب الله» قناعة بأن مخطط الأكثرية يهدف الى تفكيك وحدة الطائفة الشيعية عن طريق خلق تيار ثان لا يؤمن بولاية الفقيه ويبدّي مرجعية «النجف» على مرجعية «قم».
في رده على هذه الخطوة، وقّع «وثيقة تفاهم» عن الحزب رئيس المجلس السياسي ابراهيم أمين السيد وعن القوى السلفية الدكتور حسن الشهال. واعتبرت هذه الوثيقة بمثابة شراكة أشبه شيء بالشراكة التي وقعها مع «حزب الله» رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون. وكان من الطبيعي أن تقابل هذه الشراكة بالتحفظ والسلبية من قبل الزعامات السنية اللبنانية، على اعتبار أنها قد تحيي تيار «التوحيد» في طرابلس الذي قاده سعيد شعبان. كما أنها قد تؤسس لخلق تيار سني ينضوي تحت قيادة «حزب الله» ويستقطب المتطرفين في طرابلس وصيدا وبيروت.
ويرى بعض المحللين أن مدينة طرابلس قد تكون مرتعاً خصباً للخلايا الأصولية النائمة التي أطلت برأسها في عهد اميل لحود، واشتبكت مع الجيش قرب «سير – الضنية» فقتلت ضابطاً كبيراً وأكثر من عشرين جندياً. وقد صدر عفو عن المعتقلين أثناء المقايضة على إخراج الدكتور سمير جعجع من السجن. وتؤكد أجهزة الأمن أن هذه الشلة المنتمية الى تنظيم «القاعدة» نشطت من جديد وقررت مواجهة المشروع الأميركي من منطقة الشمال المستباحة، وبالأخص من طرابلس وعكار. ومع انتشار حالات الهلع، أقبل الأهلون على شراء الأسلحة بحجة الدفاع عن النفس. وهم يبررون عملية التسلح الواسع بأن طرابلس قد تتعرض لما تعرضت له بيروت، وانما على أيدي جماعة بعل محسن. وقد ساعد على خلق مناخات الخوف والتوتر استهداف الجيش اللبناني الذي فقد أربعين قتيلاً قبل أن يدخل في معركة مخيم نهر البارد ويخرج منها بفقدان 155 شهيداً. وقبل منتصف هذا الشهر تعرضت حافلة كانت تنقل جنوداً من طرابلس إلى بنت جبيل، لتفجير أودى بحياة 15 شخصاً، بينهم 10 جنود وجرح 51 آخرين بينهم 32 جندياً. وفي ضوء هذه الوقائع فقد المواطنون ثقتهم بالجيش الذي لا يستطيع على الأقل أن يحمي نفسه. ولجأت الأكثرية إلى زعيم الحي أو الطائفة بعد انحسار المظلة الأمنية الممثلة بالقوات النظامية. وكان من الطبيعي أن تظهر في مناطق الاشتباكات الميليشيات المسلحة التي تتعاطى بيع المخدرات والاسلحة والحاجيات المهربة عن طريق البحر. وقد ساعد على استشراء هذا المناخ وجود أحزمة البؤس التي نبتت على الأطراف الشرقية من المدينة، بدءاً بمخيم نهر البارد، مروراً بباب التبانة، وانتهاء ببعل محسن. وأدى انحسار دور الجيش والمدرسة والأهل إلى التسكع والبطالة والمشاركة في التظاهرات وحرق الدواليب. ونجم عن هذا الوضع – كما يقول ابن طرابلس الزميل وليد عوض ناشر مجلة «الأفكار» – اشتراك الشباب والكهول في تقاسم الاحساس بالعجز والاحباط والرغبة في ابلاغ الاستياء والجهر به عبر وسائل الإعلام المختلفة. وبما أن الاضطرابات العنيفة اصبحت وسيلتهم الوحيدة المتاحة والمؤثرة الى إسماع أصواتهم، فقد لجأوا إلى هذه الوسيلة للتعبير عن الامتعاض والاقصاء الاجتماعي.
صحيح أن بعض الهيئات والمؤسسات الخاصة التي أوجدها النائب موريس فاضل، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي مع شقيقه الأكبر طه ميقاتي (جمعية العزم والسعادة الاجتماعية) ووزير الاقتصاد محمد الصفدي، قد ساهمت في تخفيف المعاناة… ولكن الصحيح أيضاً أن تقليص دور الحكومات في تأمين العمل والتعليم والضمان الصحي والخدمات العامة، ساعد في ارساء بنية تحتية للميليشيات وزعماء الأحياء.
رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وعد بزيارة طرابلس عقب استكمال المشاريع الإنمائية والاجتماعية التي يعدها من أجل تحسين أوضاع الأحياء السكنية. وتحدث عن ضرورة تخصيص مبالغ معينة في سبيل توفير فرص العمل ونشر قوات اضافية وكشف الأحياء المعزولة وإتاحة الفرصة لضمان المزج الاجتماعي. وهو يتوقع من الدول العربية المزيد من الاهتمام بشمال لبنان، خصوصاً طرابلس التي حرمتها الظروف من كل أسباب الراحة والتطور.
يقول المتتبعون لأحداث طرابلس ان القلاقل التي تعرضت لها كانت ناتجة عن رفضها العميق للتصالح مع نظام دولة لبنان الكبير. وقد تناوبت على زعامتها في الأربعينات والخمسينات، عائلات سياسية بينها آل كرامي وآل الجسر وآل المقدم. وكانت «الفيحاء» تعبر عن حنينها الدائم الى العروبة عن طريق إظهار تعاطفها الشعبي مع قضية فلسطين. والدليل على ذلك ان نسبة لا بأس بها من قوات جيش التحرير بقيادة ابن طرابلس فوزي القاوقجي، كانت من متطوعي هذه المدينة. والمؤسف ان زيارته التاريخية لمدينته تسببت في حدوث مجزرة رهيبة بين مستقبليه أودت بحياة الكثيرين بينهم نافذ المقدم ومظهر العمري ومحمد حنتور. وفي سنة 1969 قام فاروق المقدم بانتفاضة 24 تشرين معلناً «جمهورية الخنادق» من قلعة بربر آغا في طرابلس. ولقبته الصحف اللبنانية بـ «تشي غيفارا» الثائر على الأنظمة والقوانين. ولكنه سرعان ما اختفى عن مسرح الأحداث، واختفى معه نفوذ آل مقدم السياسي، مفسحاً المجال لجيل جديد من الطامحين مثل الدكتور عبدالمجيد الرافعي والدكتور عبدالله البيسار، وبقي وريث آل كرامي المحامي رشيد متربعاً على عرش رئاسة الحكومة خلال مدد طويلة من عهود كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو. ومع هذا كله فقد عجز عن تشغيل المعرض الذي يحمل اسمه في طرابلس. ثم جاءت حرب 1975 لتخرج الى الشارع كل الاحتقان المخزون في قلوب الاصوليين، فإذا بهم يسقطون تمثال عبدالحميد كرامي ويرفعون فوق قاعدته كلمة «الله» المصنوعة من نحاس بلدة القلمون. وامتدت تجاوزاتهم لتعطل أول وأكبر مصنع للحياكة في الشرق الأوسط، هو مصنع جورج عريضة وأولاده في محلة البحصاص، والذي كان يشغّل ألفي عامل من طرابلس والكورة والبترون. ثم أسهمت عملية اغتيال رشيد كرامي في رفع حدة العنف والتطرف، الأمر الذي أدى الى هجرة المتمولين والصناعيين من انسبائه من أمثال عائلة غندور التي انتقل أفرادها الى لندن وأثينا. ومع تعاظم موجة «أسلمة» المدينة بواسطة سعيد شعبان ومن يقف وراءه، انتقلت المعاهد المسيحية مثل «الفرير» والراهبات الى «ضهر العين» في الكورة. أما المدرسة الأميركية التي أسستها الارسالية البروتستانتية في محلة «القبة» سنة 1912، فقد حولتها القوات السورية الى معتقل لخصومها السياسيين. وبعد انسحاب هذه القوات كتب معارض في القبو رقم (12) على باب زنزانته عبارة: «افتح سجناً، تقفل مدرسة».
والملاحظ أن وزير الثقافة السابق طارق متري منع بيع أرض المدرسة الأميركية الملاصقة لمحلة بعل محسن، واعتبر المبنى صرحاً تراثياً يمنع بيعه أو التصرف به، وتتساءل الجالية البروتستانتية في لبنان عما إذا كان الوزير يريد تحويله الى موقع للزوار مثل المعتقلات الشهيرة في الحربين العالميتين!
يقول الفريق المحايد في طرابلس إن الاشتباكات الأخيرة بين علويي «بعل محسن» وسُنة «باب التبانة»، ليست أكثر من ثارات قديمة خرجت الى السطح بعد انسحاب القوات السورية (2005). وربما فجرتها خلال هذه الفترة بالذات الحسابات الانتخابية والضغوط الاقتصادية – الاجتماعية المتأتية عن تحركات لاجئي مخيم نهر البارد. ولكن هذه المستجدات لا تحجب الحقائق المؤلمة الأخرى التي أفرزت العديد من أمثال المتمرد أحمد القدور الذي طاردته عناصر الدولة مدة تزيد على السنة. واللافت أن هذا الشخص المتمرد كان يجد الرعاية والحماية لدى سكان أحياء الصفيح وأحزمة البؤس، تماماً مثلما وجد «تشي غيفارا» طرابلس عطفا وتأييداً لدى الشبان العاطلين عن العمل، المتشوقين الى معارضة السلطة.
عندما سُئل الرئيس فؤاد شهاب عن أسباب دعمه للعشائر في بعلبك وعكار، قال إن المسافة الحضارية بين الذين يملكون في بيروت والذين لا يملكون في الأطراف النائية، سوف يملؤها دعاة العنف والتغيير. وبما أنه لم ينجح في تقريب المسافة بين العاصمة والملحقات، فقد استغل الناقمون حرب 1975 – 1990 لينقضوا على الفنادق باعتبارها تمثل صورة الثراء الفاحش. والملاحظ في «حرب الفنادق» أن الذين قاتلوا بشراسة جاؤوا من الضواحي، ومن أوساط عانت من اهمال الدولة.
ويرى أهل طرابلس أنه من واجب الدولة أن تقلص الهوة بين هذين العالمين، تفادياً لاستغلال المصطادين في الماء العكر…
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى