اسرائيلصفحات العالم

العدو الأول لإسرائيل هو إسرائيل ذاتها

روبرت فيسك
في الوقت الذي يتوافد أصحاب الرأي إلى بلدة هرتزيليا الإسرائيلية لحضور المؤتمر الذي سيناقش «حالة الأمة اليهودية»، يسود الأجواء المحيطة بالاجتماع المُرتقب خلال أيام، شعورٌ غير مسبوق بعدم الأمن والخوف ممّا هو آتٍ.
بَيْدَ أن الزلزالَ الحقيقي تحت أقدام الإسرائيليين، والخطر الفعلي الذي يُحدِق بصورة وشرعية إسرائيل، هو دولة إسرائيل.. وعلى هذا الأساس تدور عجلة الحرب الدعائية.
لننسَ الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 والـ15 ألف لبناني وفلسطيني الذين قُتلوا فيها. لننسَ مذبحة صبرا وشاتيلا التي نفّذها حلفاء إسرائيل تحت سمع ونظر قواتها العام نفسه، أو مجزرة قانا التي سقطَ فيها 106 لبنانيين نصفُهم أو أكثر من الأطفال تحت وابل القنابل الإسرائيلية العام 1996، وضحايا الحرب على لبنان، وقد بلغ عددهم 1500 العام 2006 والـ1300 فلسطيني أو أكثر، الذين ذبحتهم إسرائيل في غزة العام الماضي (مقابل 13 إسرائيلي قتلتهم صواريخ حماس في الوقت نفسه). ذلك أن ما يتردّد على ألسنة النخبة الأمنية من اليمين الإسرائيلي في هرتزيليا يوحي بأنها -أي إسرائيل- في مواجهة خطر أكبر وأمام هجوم غير مسبوق.
فبريطانيا، كما جاء على لسان السفير الإسرائيلي في لندن، ليست سوى «ساحة معركة يحاول الأعداء فيها نزع صفة الشرعية عن الدولة الإسرائيلية التي عمرُها اليوم 62 عاماً». وحتى صديق إسرائيل الحميم، القاضي النزيه ريشارد غولدستون، أصبحَ -على حدّ تعبير آل دِرشويتز، الأميركي اليهودي المتحمّس جداً لإسرائيل- «خائناً مُطلقاً للشعب اليهودي وشيطاناً».
إسرائيل تحت الحصار، إذن، هو العنوان العريض للمؤتمر السنوي العاشر من نوعه الذي يُعقد في هرتزيليا ويحضره دبلوماسيون وقادة عسكريون ومسؤولون حكوميون إسرائيليون. أمّا الشعور العام السائد، فهو أن إسرائيل مُلاحقَة وضحية، وأن جيشها، الأقوى والأكثر حداثة من أي جيش آخر، يواجه خطرَ اعتقال جنرالاته بتهم ارتكاب جرائم حرب إذا هُم وطئوا الأراضي الأوروبية.
ومع أن السماء تحرّم اتهام أي ضابط إسرائيلي بارتكاب فظائع، فقد نشرت صحيفة «جيروزالم بوست» صورة زعيمة حزب كاديما، تسيبي ليفني، وهي تتأمل مُلصقاً من كراكوف في بولندا يقول عنها «مطلوبة لارتكابها جرائم حرب في غزّة».
هذه الهجمة القانونية الدولية على إسرائيل، مثلُها مثلُ الإدانات الأخرى، تُعتبر مقدمة لنزع صفة الشرعية عنها ومأساةً بالمقاييس كافة، وجرياً للرياح على غير ما تشتهي حكومتها اليمينية، ومصدراً لتساؤلات المؤتمرين في هرتزيليا كيف حدث أن فشلت الحملات الدعائية؟ وكيف أفلحت الصحافة المناوئة للسامية أن اخترقت الصفوف؟
أكثر اللحظات إثارة للخيبة في هرتزيليا كانت عندما أشارت لورنا فيتسيمونز، النائبة السابقة عن حزب العمال ورئيسة مؤسسة «بيكوم» الاستشارية الموالية لإسرائيل في بريطانيا، إلى أن «الرأي العام لا يؤثر على السياسة الخارجية في بريطانيا»، لأن السياسة الخارجية لا تعدو كونها قضية نخبوية. ثم أضافت: «أما أعداؤنا، فقد بدؤوا يقصدون المحاكم الدولية، وهي المكان الذي لا نتمتع فيه بالكلمة الفصل».
هذه المقولة تلخص كل شيء. فما تطالب به إسرائيل هو الشرعية الدولية. وإسرائيل، كدولة، تُعتبر شرعية، ولاسيما أن الأمم المتحدة وافقت على الاعتراف بها. وكما قال المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم، إن وجود إسرائيل قد لا يكون عادلاً، إلا أنه بات شرعياً. لكن عندما وجَّه فريق قضائي دولي دعوة لإسرائيل كي تشارك في التحقيقات، قوبل طلبه بالرفض من قبل نتنياهو.
بهذا المعنى، أثبتت الحرب على غزة بأنها مصدر إزعاج كبير للحكومة الإسرئيلية. فإسرائيل تريد من العالم أن يعترف بديمقراطيتها -على الرغم من كل العيوب الكامنة فيها- لكنها ترفض الانضمام إلى هذا العالم عندما يُطلب منها إعطاء تفسيرات عن سلوكها في غزة. وهي تدّعي بأنها نورٌ ساطع بين باقي الأمم، لكن ترفض السماح لأي طرف بأن يلقي نظرة عن كثب على ذلك النور، أو أن يتفحص وقوده، أو أن ينظر بدقة إلى الأشياء التي يضيئها.
غولدستون، ذلك المحامي البارز، الذي سعى بكل شجاعة من أجل إنصاف ضحايا الحرب البوسنية، والذي ألهمت شجاعته العالم بأسره، بما في ذلك إسرائيل، أصبحت سيرته على شفاه جميع الاعتذاريين للحكومة الإسرائيلية في هرتزيليا. فقد تحدث عنه كلٌّ من تسيبي ليفني، ويوسي غال، المدير العالم لوزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية، الذي قال إن هناك «محاولة لاستخدام تقرير غولدستون من أجل إخراج إسرائيل من دائرة الشرعية». حتى جيمس كانينغهام، ذلك الفأر الذي يعمل سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل، قال إن تقرير غولدستون قد يُستخدم كمحاولة لنزع الشرعية عن إسرائيل.
للأسف، أين نحن اليوم من لجنة كاهان، التي عينتها إسرائيل في العالم 1982 للتحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا؟ مع أن تقرير تلك اللجنة لم يحمِّل إسرائيل أي مسؤولية، إلا أنه أثبت أنها دولة تستحق الاحترام، لكونها تجرأت على التحقيق بتلك المجزرة.
أما اليوم فلا محاكمات تُجرى من أجل غزة، فقط التوبيخ لضابطين استخدما الفوسفور الأبيض، وتوجيه تهمة جنائية لجندي قام بسرقة بطاقات ائتمانية. لهذا السبب ثمة خشية في الشارع الإسرائيلي من اهتزاز، أو تشوه صورة إسرائيل أمام العالم، ولهذا السبب يمكن القول إن العدو الأول لإسرائيل هو إسرائيل ذاتها.

إعداد – علي الموعي ومالك عسّاف
عن صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية
تاريخ النشر : 2010-02-03
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى