صفحات الشعر

ضوءُ آذار

null
جولان حاجي

والآن أعرفُ من هو الشبح. إنه الشخصُ الذي تكلّمه.
( فيليب روث)

أآخذ ما لا أستحقُّ؟ سببٌ لأقلقَ.
كم مرة تُراني أخطأت؟ ماذا وجدتُ وماذا أضعت؟
كم بيتاً سمّيتهُ بيتي؟
كم قدماً سارَتْ قبل أن تتباعدَ الطرقات،
وتُقْلَبَ الصفحاتُ أشبه بحيطانٍ تتداعى كي ندخلَ أحلاماً أخرى؟
أنا الغائب الذي ظنُّوهُ ميتاً،
أجيءُ غريباً إلى أصدقاء قدامى تزوّجوا وأنجبوا،
وفي جيبي حجارةٌ مصبوغة بالدم ضربَ بها الصبيانُ على جباهِ المجانين.
نقراتٍ خفيفة أنقرُ أبواباً بيضاء تتحصّنُ وراءها أيامٌ قديمة،
ثم أغادرُ قبل أن ينفتحَ أيُّ باب.
رأسي يفلتُ من يديّ ويعود إلى الزوايا،
وحوله تحومُ الشكوكُ الزرقاء،
ثم يرتمي على الوسادة كقبضةٍ تعِبَتْ.
بقيتِ الكتبُ مفتوحةً حتى تعفّنَتْ.
صرتَ تقولُ «أنا»، كمَن يقولُ «لا أحد».
الستارةُ ارتفعَتْ منذ قليل،
فوجدتَ قدميك في المصيدة
ولا أحدَ سواك:
وحدك تتفرّجُ على شبحك داخل نفسك،
تسمعُ صوتاً لم يسمعْهُ أحد
يخلطُ ما مضى بما سيأتي.
نلمح وجوهَنا في مرآة المصعد الذي يعلو ويهبطُ قبالتنا، ينطلقُ ويتوقّفُ ويتعثّر، ونحن نثرثر عن حياةٍ لا تنتهي وموتٍ ليس بعيداً. نتجمّعُ كعظامِ العصافير على جليدِ الصباح وفي قلوبنا براءةٌ تخيفنا. الرغبةُ تدعونا إلى النوم متدثّرين بالأغطية على سريرٍ أسود من أسرّةِ المرضى. ثمة من يتألّمُ في الداخل دون أن نراه. لا نزال ننتظرُ استيقاظَهُ الذي تأخّرَ كثيراً….
فكرتي عن الكمال هي الصيفُ الذي أنتظره. لكنّ فمي، قطرةَ الدم التي صدئت، يريدُ وجهاً آخر ولا يفارقني.
ما الجدوى؟ أعددتُ بيتي لأجل ضيفٍ أحبُّه لا يفزعني قرعُهُ بابي، لم يخبرني أنه سيقصد بيتاً آخر. غسلتُ الأواني، مسحتُ الغبار الذي أستأنس به، ولم أحتفلْ بأحد ولا حتى بنفسي.
مرة أخرى بدا لي كلُّ ما يقعُ حلماً ناقصاً، مثل هذا المكان الذي أحيا فيه، مكانٍ لا يقبلُ بي ولا أطيقه. بدت شجرةُ السرو حلماً بالشجرة، وكلُّ شيء يُخفي شيئاً آخر أهلكتُ نفسي كي أجده، وعندما وجدتهُ كنتُ قد مزّقته لفرط ما فكرتُ به: كانت العبارةُ فارغة، والهواءُ شحيحاً، وكلُّ شيء أسودَ تحت حديدِ الكلمات.
يُقصيك الضحكُ الذي يحتدُّ كلما اكتشفتَ فجأة إن كلَّ شيء ينساك.
هل تذكرُ مَنْ تزوّجَ نجومَ السموات فأنجبَ حروفَ الأبجدية؟
جئتُ قبلك، فطمأنتني القاعةُ الخالية ومواءُ الهرة الحبلى وهي تتمسح بكاحلي. سمعتُ صدى كلمتي وكنتَ أنت من يتكلم.
وعندما وصلتَ، مغبرّاً وصامتاً، اختفيتُ. أعطوك خريطةً لأرضٍ لن تجدها ثم لم يسمحوا لك بالظهور. صرختَ كمن يحلمُ في جنون شباط، لكنك لم تفزعْ أحداً سواك، وما هبَّ لنجدتك إلا الحمقى. لم تشرب شيئاً طوال الطريق، لم تأكل ولم تكلم أحداً ولم تتأخر كثيراً. فهمتَ إنك ستبقى ضيفاً، وسيسعك أن تضحك إذا خنقك الرعب. ثم أعطوك هذا الرغيفَ الفاحم مثل ضوءٍ أسود كي تقرأ حياتك.
مُهشَّمٌ في فراشي. مرةً، على الأقلّ، جزمتُ: خيرٌ لي لو لم أولَدْ. خيرٌ لي أن أنسى.
أنا المتلصّصَ على نومِ أبي، الغريبَ، المراوغَ، بنعلين من فلين أذرعُ الحياة؛ اليوم لن أقوى على النهوض، إذا شبابيكُ السماءِ اتّسختْ، وأمسى جسدي مقعداً خالياً لغبارٍ مجهول في غرفةٍ قصيّةٍ معتمة.
أتهالكُ في القيظ. كأنها الحمّى مرة أخرى. ستنفخُ الشمسُ في بطنِ جثماني نوراً يذوبُ كقبلةٍ مرّة.
هذا النهارَ الطويل، استدرتُ بوجهي عن النافذةِ الواسعة. ما عدتُ أطيقُ المزيد، قلتُ وكنتُ وحيداً.
كانت الغصونُ تزهرُ صرخاتٍ بيضاءَ صغيرة.
(ظهيرة شتوية في المتحف الحربي)
منمَّشاً في الضجّةِ، بخطىً تعرجُ بين متحفين، يرتقي الرصيفَ الواسع سائحٌ ضاق صندلُه؛ يتفادى عدستَهُ جنديٌّ حليقُ الرأس يستقلُّ الحافلةَ كي يزورَ المستشفى.
في أحواضِ الأشجارِ المطليّةِ بالكلس يبستْ أوراقُ الدلب، واستظلَّ الهديلُ.
على سورِ التكيّةِ الجنوبيّ تجلسُ الريح، وتقلّبُ كتاباً مستعملاً.
القبّةُ الكبرى، كثؤلولٍ في خوذة، تتمرأى في صمتِ النافورة. القبابُ الأخرى بيوضُ رُخٍّ لن يعود. ظلالُ الفقاعات تقطعُ الممشى.
المقعدُ الذي اضطربَ عليهِ العاشقان (قد عفّرتْهما بالتوابلِ الحوانيتُ، والأسواقُ بالشتائم) ترشقهُ الهررةُ ببولها، ويستلقي فوقه الشحاذُ ويغفو. خلفه، في قطرةِ صمغٍ لفظتْها مشمشةٌ، الخادمةُ المطرودةُ تبصرُ نملةً سوداءَ ميتة.
حين تغمضُ النجومُ أجفانها البنفسجية ثمة لحظاتٌ تشبه فيها الأحصنةُ كلاباً كبيرة بين الغيوم.
هذا المكانُ الذي يُضجرني يُخجلني أيضاً، له لونُ الجليد الأزرق- طلاءُ المآسي القديمة، وللأقدارِ انتقاماتُها.
الدفءَ أنشدُ لا الشمسَ، لأن هِبتي اليتيمةُ نهايتي المتواضعة- باقةُ عشبٍ تُروى لتموت.
انطوائي الممضُّ يرى البذرةَ التي تُلفظُ من فمِ الموت كي تنجبَ البحر. يذكرُ كم واسعةً كانت سهولهُ البعيدة، كم خبّأتْ عنه السماءُ وميضَ مناجلها.
ثم تشتدُّ في النهار قسوةُ الذاكرة- يصبحُ الأسرى وحوشاً، ولا يغيّرُ الحديثُ مجراهُ إلا نادراً؛ كأن تقلّمَ الدالية بعينيك، أو تحلقَ ذقنك، وأنت تلمحُ سنونواتٍ سُوداً تشقُّ القبة الزرقاء.
لا دخانَ أبيض تسوقه الريحُ من أنفاسي. صديقتي ترقبني من وراء الليل، يلاطفها الضبابُ الذي يهبطُ من الجبال، حيث يتسمّرُ القمرُ، ولا يخفّفُ عن العذارى أوجاعَ الدم.
ثم يزولُ لمعانُ البحر، وأبقى عارياً لا مرئياً، دافئاً ومنسياً كالتراب.
حُسِدنا كما يُحسَدُ الميّتون. كانت كلماتي تعضُّ النسيم فترتجفُ أذناك. بالثرثرات امتصصتُ نفسي حتى جففتُ وأعطشتك.
الآن، ما أبطأني. مُطرِقاً وساكتاً مثل ندمك- هذا الحجرُ الذي تقاذفتْهُ الليالي، بين خطأ النوم وخطأ الحب، أحدّقُ في قدميّ الحافيتين مثل رجلٍ يفكرُ بالموت. يدي التي تلمسُكِ هي يدهُ- يدُ شخصٍ لا أعرفهُ: أحببتِهِ وتمنّعتِ عنه وأهنتهِ.
بطيئةً كانت خطواتُنا على ليونةِ الرمل البرتقالي، أمام منازل البحر البيضاء؛ كنتُ أقول: سأغوي الفتيات إذا شختُ؛ حينئذٍ، ممتلئاً بنفسي، ستذبحني السعادة، ولن يفقهَ مزاحي إلا الموتى.
كانت رغبتي تتجزأ إلى رغباتٍ صغيرة للغاية، يضيعُ معظمها على الطريق، بين هنا واللامكان الكبير، فأتضاءلُ وتستمرُّ المذبحةُ في هدوءٍ مرعب، منسابةً كالرقصةِ في بياضِ الموجة؛ والظلامُ يخسرُ رنينَهُ الفضي، ثم تنسلخُ السموات، واحدةً إثر الأخرى، وتدثّرُ التلالَ السبع.
قلتِ: المقارنةُ تفضي إلى النجاة. تذكّرْ تنجُ.
كان ذاك الوقتَ الأنسب كي أقول: «كم ظلمتُ وقسوتُ وأبكيت». بينما المرحُ الذي تنبضُ فيه النجوم، وتلينُ الرمال، يتوقفُ قبل أن يلامسَ قدميّ.
قلتِ: تكلّمْ أنت. ولا يحينُ دوري إلا إذا نفدَ الكلام. قفزتُ داخلي فاصطدمتُ بجلدي، وكان الليلُ قد انتهى.
مستلقياً، بجفنين مطبقين على حلمكِ (كنتِ حافيةً، تخوضين دمَ خروفٍ ذبيح في المطبخ. هكذا، لن تنجبي ولداً مشوَّهاً)، تذكّرتهُ فجأة: شخصاً توهّمتُ انه أهانني، ولم أغضبْ كما ينبغي للمُهانين أن يغضبوا.
وثَبْتُ وبصقتُ على الظلام.
كنتُ وحدي ولم أنَمْ… ومَن لا ينام يصحبُ الليلَ معه أينما سار، بقايا أفكار العتمات تلمعُ في عينيهِ المحمرَّتين القاسيتين؛ إنه أحدُ توائم اللعنةِ الخرساء، مُريبٌ وآثمٌ لا يعرفُ أحدٌ سرَّهُ، يبدو كالمقترفِ ذنباً لأنه يقتلُ الغدَ الذي يتأهّبُ لأجله الآخرون إذا ناموا. إحساسه بالنقصان فادحٌ ومكتوم، لأن «النوم هو الكمالُ» الوحيد في هذه الحياة.
المراهنون لم تخبْ تكهُّناتهم إزائي: وأخيراً مللتُ الكتب.
بغتةً أتخمتني الصفحات وحزّزتني السطور، حتى ضاقَ بالأوراقِ دوارُ رأسي، وتعفّنتْ بين ضلوعي قصاصاتٌ لا تُحصى أنا الآن أمقتُها، وأستفظعُها، و ربما، ككثيرين سواي، أعاديها.
أمستِ الأغلفةُ شواهدَ لقبورِ مؤلفيها؛ أمستِ المكتبةُ مقبرةَ عظماء لا تُطاقُ روائحهم.
معظم ما قرأتُ كان من هباتِ الأرق-
أفظعُ ما قرأتُ الصحف. وأبهى ما قرأتُ رسائلُ أصدقائي الذين ماتوا.
عاصفٌ في هدوئي، ولا أُرَى لأنني زفيرُ تعبي. ما أستخلصهُ لا يعني أحداً، ولا يعنيني. كيف سأفهمُ ما يجري هنا، وأنا أتضاءلُ كلما تحركتُ، بينما كلماتي لا تكفي كي أحيا، ولا تفي شيئاً حقَّهُ: كيف ستكفي الكلماتُ صمتَ شجرةِ الرمان أمام نافذتي؟
لا أبذُرُ شيئاً، ولا أتجذّرُ؛ أنا أشيخُ وأزهرُ. خطواتي تمحو بعضها بعضاً في هذا المربَّع الضيق الذي أذرعهُ هائماً وقلقاً. الخطوةُ تترنّحُ وتتردّد ثم تنتهي في خطوةٍ أخرى تغطّي سابقتها. يسجنني انتظاري في هذه الغرفة، حيث كنتُ مرهَقاً أقولُ بصوتٍ عالٍ كي أصدِّقَ نفسي وكأنني سواي: لن أحبَّ أحداً كيلا أعودَ وحيداً مرة أخرى؛ أن أبقى وحيداً خيرٌ من أن أعودَ وحيداً.
يحملني الضجيجُ إلى غيابي. لستُ ممّن أدركوا شيئاً، أو فهموا على الأقل كيف ينتعلُ طفلٌ حذاءَهُ للمرة الأولى.
أسمعُ نحنحاتِ الجيران وصليلَ مفاتيحهم، أغنياتِهم ورنينَ أجراس بيوتهم وضوضاءَ أطفالهم. لا يعرفونني، ولا أعرفهم أيضاً ولا أراهم. لا تحزنني وحدتي، يزعجني إن الآخرين يهدّدونها ويفسدونها أحياناً. ما أعرفهُ جيداً هو صمتهم النادر، صباحَ يوم الجمعة الذي يقضون معظمه في النوم.
أمام عينيك تلاشى غبارٌ يحرِّكهُ الصدى في استقامةِ الشعاعات.
الوجهُ، عند النافذة، أنهكَهُ المطر.
رجلٌ يعبرُ سكونَ الرصيف. يشعلُ لفافته تحت المصباح، ويرمقُ ياسمينةً صفراء تسقطُ.
تخففتُ من أشياء كثيرة أثقلتني. أردتُ أن أحيا داخل لحنٍ أو داخل أغنيةٍ أحنُّ إليها ولكنني نسيتُ كلماتها. أردتُ أن أركعَ للضعفِ وصمتِ العشبة، وأحتضنَ الحياة مثل دمعةٍ كبيرة، أردتُ أن أعبدَ الموسيقا كأنها شمسُ آذار التي تغمضُ عينيَّ الآن. ولكن، كان عليَّ دائماً، في كلِّ خطوةٍ، أن أضعَ عبأ عن كتفي، وأطرحَ خوفاً عن قلبي، وأنسى وجهاً أو اسماً، كيلا أغرقَ حتى لو كنتُ أمشي وأنا جالسٌ على الصخر.
أمس، منفصلََين في سريرٍ واحد، أمسكتُ بيدكِ كما يمسكُ المجنون بيدِ أمه، وشممتُ عبقَ البرتقالة في أظفارك. العينُ المدمِّرةُ فوقنا، وحولنا منازلُ تشبهُ ثيابَ الجنود المتسخة. كان قلبي مثلكِ نائماً في لساني، وصوتٌ كالنار يبقيني مستيقظاً طوال الليل بينما أنا أنتظرُ الحياةَ كي تحدثَ بالقرب مني.
أعيشُ أحياناً مثل مجنونٍ يُحصي حباتِ الرمل في زوبعة. الآن، يعِدُني الصباحُ بأبديةٍ لا أريدُها. الشمسُ حولي تغفرُ قسوتي، وجلدي دافئ لأن دمي يتذكرك؛ كيف أحببتِ كلامي الذي ليس إلا فراغاً متحرِّكاً في بياضِ الهواء؟ كيف سأهدِّئ هذا الحبَّ المباغت الذي أخافه؟ لا أفهمُ كيف تنتهي كلُّ حكمةٍ في الجَمال، أو كيف يتأمّلُ كلُّ متألِّمٍ هاويتَهُ التي لا نراها.
ما عدتُ مستعداً للموت لأن الربيع حلَّ هنا مرة أخرى، والنسيان يعيدني إلى مكانٍ عشتُ فيه طويلاً دون أن يزورني أحد. صمتي الزائل وكلامي الزائل يفتقدان ضوءَ آذار، هذا الرقيقَ الذي يغمرني الآن كجسدِ من أحبُّ، الضوءَ الذي يعلّمني كيف أرتاحُ وكيف أتألّم. كطفلٍ مسحور استسلمتُ، إذ لا شيءَ يدهشني أو يفاجئني، وقلبي هو قيدي.
لن أُفنيَ جسدي فقد يُحزِنُ زهوَكِ إني متُّ لأجلك أو بسببك. وكلما تكلمتُ رأيتُكِ تنصتين إلى مجنونٍ يكلّمُ نفسه ولا ترأفُ به الكلمات.
لن أبرّر فظاظاتي وأفكاري التي تدنّسك، سأتلقى غضبَكِ وأنا أبتسم، فسَأمُكِ الذي أنهكَهُ وهمُ القوة يجذبهُ الأرقُ والضعفاءُ والمتلعثمون. ما آلمني هو أني آلمتك. سحرَكِ ما ينقصُكِ، وأُخِذتُ أنا بما سوف يؤرّقني- كانت عيناي وفمي ثلاثَ ندباتٍ تبتسم.
ما أريده الآن هو أن أنام.
قلوبُ القُساة قويّةُ الخفقان، تحفظُ سرّاً رهيباً مضحِكاً لن تنفلقَ عنه إلا بمخلبِ السنين.
الكراسي تغازلُ مؤخّراتِهم التي تربّيها الفاكهةُ واللحومُ البيضاء.
خِلْتُكَ تعرفُ هذا جيداً – وغموضُ الذهبِ العجوز يكبّلُ رُسغك.
أمامك، حُبيباتُ الرمان منثورةٌ: لن ينقرَها طيرُ البرّ ، لن يقربَها العصفورُ الذي نأى، متنكِّباً ذعرَهُ إلى الأبد.
لأن كلَّ ما أراه يستأثرُ بي اعتدتُ أن أغمضَ عيني وأسيرَ وحيداً مع المنسيين داخل نفسي. لمحتُ نافذةً ومضَتْ وخمدَتْ مثل نيزك؛ وكنتُ وحدي أمشي على منحدر السفح، فاشتقتُ إلى أشياء لا أعرفُ ما هي. أحببتُ ما قرأتُ في قصاصةٍ لم أمزّقْها بعد: «أقنعة الموتى». لكنّ اللغة تزجرني، بعد أن ضوّأتِ الجريمة و قبرَتِ الحب. كلمةُ «الصفاء» مثلاً تؤلمني كالمستحيل. وأنا لم أعشْ كي أكرهَ أحداً، لأن السيدَ الموت دائماً هنا.
لولا العبوديةُ التي خضعتُ لها، مهما راوغتُ وتناسيت، لما حسدتُ هذه الحصاةَ التي أركلُها أمامي، ولما تمنيتُ أن أعودَ صبوراً مثل هذه الزهرة الصفراء تطلُّ برأسها الصغير من شقٍّ ضيق في سواد الجدار. أدعوها، دون أن تسمعني، كي تدخلَ إلى حياتي وكأنها تتنزّهُ في جزيرةٍ بعيدة.
بيدي الجاهلة أكتبُ جهلي المطبقَ كلَّ شيء، لغزَ البداهات وخرائبَ النجاة: هناك دائماً يدٌ غائبة في يدي.
أصابعي باردة. أحنُّ إلى نارٍ صغيرة لا تلفتُ الأنظار. لن أنسى إن الأوراقَ الكثيرة التي أحرقتُها في ليلِ آذار دفّأتْ أصابعي، على الأقل، أكثرَ من كلِّ الأقلام التي كتبتُ بها.

جريدة “تشرين” الملحق الثقافي “أبواب”
http://www.tishreen.info/_book.asp?FileName=104055504120100523085931

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى