صفحات الشعر

مختارات ديريك ولكوت

null
في تأبين و. هـ. أودن
ديريك ولكوت
(الجزر الكاريبية)
(1930-…)
(عن الإنكليزية): ترجمة صبحي حديدي
(سوريا / فرنسا)

I

لا ريب في أنّ هذا الوجه الطافح بالجداول
يجفل الآن بعمق، ويشمئزّ
من نفاياتنا الجليلة،
ويقطّب حاجبيه حيال هذه المهزلة الممجِّدة
التي تحاول تعزيز ذاتها، بأبيات
ورعة مثلما هي مَلِقَة.

لكنها قد تنقذنا، نحن الذين لممنا شملنا
رغماً عنها، على مقاعد كَنَسية لامعة
في هذا المساء الخريفي؛
كما الخرائط تتذكّر البلاد، والطلعة تعرف الرجلَ، وكما يطلّ وجهه
على تضرّعنا.

نسمات الصوّان المصدوعة والمنبسطة كبعض الأرض في لوحات جيوتو(1)،
تناسب هذا المذبح؛
الفم المفترّ عن ابتسامة ساخرة، المتقوّس بالألم
والأعين السحلية التي تنطق بشعارها:
النقائض تتنافى.

في وسع الوجنات المتشققة أن تسقي
بالملح المعدنيّ ظمأ عروق الأرض
في البيد الجائعة،
وكما تنهض الأجنحة الصغيرة كي تتأمّل
حقلها الذي تحبّ، يسارع سهلها المغطّى بالأخاديد
إلى إخفاء مدائحنا.

ولسوف تعثر حناجر أخرى على البهجة
في كلّ ما خلّف جسدُ
الخالد أودن
في «كيرشستيتن» (2) المضاءة بالشموع
وبعد قرون على قيامها بتحرير صانِعِها
من الزمن وعبئه؛

فما نرعاه اليوم
هو وجهنا نحن أيضاً، ذاك الذي ضربه ضياء
هذه الدعوة الغريبة؛
الآن إذْ نغادر الكنيسة المعتمة هذه
ونقف على أرصفة الليل
لنرقب الورقة
الساقطة مثل ساروف (3) يرسم القوسَ
الذي خطّه مصباح الشارع، ثم نحثّ الخطى
صوب خبايا المستقبل
وخطوات أقدامنا تردّد الصدى في الدروب
المظلمة، وتنتخب ظلّه
ليصاحبنا في المسير.

عِشْقه، حتى عشق أدوات
المطابخ ذات الأزرار التي نعرف
أنها تهدّيء مخاوفنا،
وذلك التوقير لمشاهد التدبير المنزلي الصغيرة
التي حوّلته إلى
هوراس “إيست فلليج” (4) الأمريكي.

الخريف أوان اندلاع الحروب الصغيرة
والهجمات السكرى، سماؤنا تدور
مع المعدّات الفاحصة الدوّارة؛
وأنت، يا مَن تغادر أيّ حفل عند التاسعة،
عرفتَ أنّ الحرب، كالنَظْم الصاخب،
علامة صريحة على سوء السلوك.

والآن، إذْ تلتقط صحون الاستقبال
ما تبثّه القمم الصوتية
من خُطَب نارّية عصماء،
نحتفظ لأنفسنا بخطبتك، بصوت
من الطبيعة، لكنه مشتبك بالأسلاك
هادىء وهوراسيّ (5).

يدور كالدوّامة حول قبورنا الجوفاء،
كالثلج، كالغبار الذي يهمس به،
وها هو الآن يراقص
ضوءه الخافت، مراوغاً الرسوم،
أمّا سرّ مجيئه وغيابه
فما من نظام يجيب عنه.

صوتك كان الأبعد في العثور
على مدى حلمنا الفاسد،
على المجاعة، والغزو،
صوتك الذي أصغى إلى ما يتردّد في الأرض المحروقة
أسفل غلافها، إلى جدول الشفاء
وإلى نبع، ونافورة.

II

يقول التلميذ لمعلّمه: يا سيدي، مراثيك تدرّبنا
على ألا نرى في الموت امتياز المضجرين،
وأن نرى الفرح حتى في الرعويات الحزينة
أنت الذي تقتلع التحيات كما يُقتلع الغلاف الخشن
وعلى أنّ البهجة دفينة في محاكاة صوت عظيم،
وأنّ الموتى هم محرّرو نصوصنا الحقيقيون.
هذه الدهشة كانت
اكتشاف الفتى للفتك، حيث يدلف المرء
إلى جُزُر هي أقطاب الأرض المتقابلة
ل “الإنكليزية” و”المناخ” و”التاريخ” و”العِرْق”،
الباحثة عن المكنون في تلك الصور
التي تمثّل ناصية نُسالة الكتّان
المنسدلة على وجه فَرَسي
ينحني لإشعال عود ثقاب في مشهد من رواية رعب،
والرسائل شيفرة سرّية للجواسيس
والموادّ الساقطة أرضاً، وبرقيات التآمر.
بعد حين يكون الطقس في ذلك الوجه المتشقق
قد اختار، كالقدّيس، العقم الجوهري
والحجارة ذات الربيع الواحد، والصوت الواعظ
والرؤية الأكثر غبشاً، والنظرة المتفرسة الأشبه بقطب الشمال.
الملاّح أوّلاً، ثمّ الكاهن، فطائر الطيهوج
الذي ينفش ريشه خيلاء آن تفضّل أنت
المداس المنزلي الخفيف على الأحذية الضيّقة.
لم تترك لنا سوى “النظام” وصلواته،
العالم الذي يضبطه “السلوط” المقيم
منؤذ بدء الحشرات؛ الآن تسلل النثر العظيم
إلى ِشعْرنا، والنحل الذي شرب الشمس
امتصّ آخر قطرات الصيف في وردة
إنكلترا المستَنْفَدَة المؤجّرة كالضِيَع،
ولكن تبقّت له أقاليم الأرز المصفحة بالمياه،
والغبن الواسع وسع آسيا. اللاجئون
يحتشدون في ابياتك، وشاحنات المواشي المحتومة
تتدافع كمقطوعات الشِعْر في الاصداء المُذْنِبة.
وإذْ ترقب أنت انتشار الأكاذيب الصدئة
والآلات المعطلة، والتفاخر الكاذب المتحضر
من البوّابات الحجرية إلى السياج الكهربائي والأسلاك الشائكة،
فإنّ أبياتك تميط اللثام عن ذلك كلّه، فنسمع الصرخات
في غمرة نعيب الغربان المخنوق، وفي الغبار الذي يتعالى
من الأخاديد المهجورة، ثمّ نبصر الأعين
التي تحمل آثار أقدام الغراب، في المنحدرات كما في الندوب،
في الهضاب الصغيرة، حين تنطوي أخطاء ما نعانيه
داخل خارطة تجربتنا الحديثة (6).

III

في عالم الصمت المسطّح الذي أنت فيه
تنغلق شقوق الأرض
التي صنعتها الخطبة. وطائر زمّار النار
يرسم هامش الشاطىء.

وفي الأقاصي البعيدة، في مياه أشدّ خشونة،
تتكسّر الأمواج، وتطير
مثل فتات أبيض تقذفه قطّاعة ورق،
مثل سُحُب من الفرشات.

سريعاً، من حقول التندرا الصافرة،
سيتبع الإوزُّ قوسَ الأرض
ثمّ يعثر بدقّة على جزر الهند التي يريد
وسط الظلام العابق برائحة الجير،

والسنونو المدوَّن كالعلامات الموسيقية
على فواصل الأسلاك،
تُجمع حناجرُه المُضْمَرة
على أنّ العالم باقٍ على حاله.

اشتقاقاتنا يا معلّمي
ما تزال معتمدة على صَفْقِ
الأجنحة التي تَهَبُ قالبَها
إلى أبجدية مسمارية

بينما تحتدم همهمة القطّاعات
خلل أصيل النيون،
والأزرار الإلكترونية تحرس زواج الأرض
من قمر راكد عاقر؛

ولكن، لا “السِّماك الرامح” (7) الجاثي
ولا زُحَل بهمهمته المرئية
مَن يقود على اسطواناتنا
جوقة أغنية الزفاف.

كلما ازداد تحليق سفينة الفضاء
صوب رفّها النيوتوني
سمعنا المزيد من المحادثة
التي يخضّبها الآدميّ في سريرته،

ورغم اشتراكك في معرفةٍ
يبدو صمتُها جائراً،
ورغم هذا العصر الذي نسمّيه عصرك،
فإنّ صوتك هو محطّ وثوقنا.

ذات مرّة، في حجرة اجتماعات خشبية،
محاذية للشوارع الكولونيالية الساكنة،
كانت تراتيل ويسلي (8) المرفوعة
هي الحبال الصوتية في حناجر عمّال المناجم؛

كان إيمانها هادئاً كأحطاب الغابة
ومتواضعاً كالخشب.
وحقيقتها، كما تقول ذاكرتي،
محسوسة أكثر ممّا هي مفهومة؛

في الغدر كما في الإتحاد،
ورغم خطل الإمبراطورية
خضعتُ لعمادتي الأولى
هناك، على اللسان الإنكليزي.

ذلك كان الخسران
الذي حوّل الامتلاك إلى بهجة،
ولقد تعلّمتُ شعركم
مثلما تعلّمتُ المزمور ودرس الإنجيل.

IV

الشفق، والحمام الذي يرتطم
على قباب سان مارك (9)
يفزعنا بما يملكه من نَسَق
في منافذ النار المستضيئة بالشمس،

يشفق الظلّ ذو المداس
على الأفاريز التي يجوسها
ويلتمع بأغنية شمعون: Nunc Dimittis (10)
فالمدينة ما تزال تحبّه.

أيتها الحِرْفة، غريبة الأطوار في اختيارها
لغم واحد ينطق باسمنا جميعاً،
ويا أيها الضوء الذي لا ينكره ظلام،
ويا أيها الفضاء العصيّ على الاختراق،

ثبِّتوا وسط الكواكب
الشرارة التي نحتفي بها ها هنا،
ذات الصبر السيّار كالأبراج
إذْ يتلو صلاته الأرضية،
لكي تكون المدينة عادلة
والبشريةُ بشرَ الخير.
يتحرّك المركب المحشوّ بالصدأ
في رياح إيست ريفر (11)
وأفواه جميع الأنهار ساكنة،
ومصبّاتها
تلتمع باليقظة التي تَهَبُ الصانع
صنعةَ الطمأنينة.

حب بعد حب – إحتفل بحياتك
شعر: ديريك ولكوت
ترجمة: مجيد البرغوثي
*******

سيأتي الزَّمانُ الّذي
تُرحِّبُ فيهِ، بزَهوٍ
بنفسكَ عندَ الوصولِ
إلى البابِ، بابكَ أنت، وحينَ تواجهُ مِرآةِ ذاتك أنتْ
وكُلٌّ يردّ تحيةَ صاحبهِ بابتسامة

وكلٌٌّّ يَقولُُ: تفضلْ هُنا بالجلوس. تناولْ طعاماًً
وثانيةً، سَتُحِبُّ الغريبَ الذي كانَ أنتْ
فقدِّمْ نَبيذاً وخبزاً، وأرجع لِقلبكَ قلبكَ
لذاكَ الغريبِ الذي قد أحبكَ دَوماً

طوالَ حياتكَ .. وهوَ الذي، إذْ بَدَا لكَ شخصاً
غريباًً، تجاهلتهُ .. وهو يعرفُ ذاتكَ عن ظهرِ قلبْ
تناولْ عن الرَّفِّ كلّ رسائل عهدِ الهوَى

وتلك الصورْ، … وخواطركَ اليائسة
تفضلْ بتقشير صورتكَ الآنَ عن سَطحِ مرآتكَ .. اجلِسْ
وهيّا احتفِلْ بحياتكَ فهيَ الوَليمَة

********

Love after Love
Derek Walcott*
Translated by: Majeed Al-Barghouthi
*
The time will come
when, with elation
you will greet yourself arriving
at your own door, in your own mirror
and each will smile at the other’s welcome
*
and say, sit here. Eat
You will love again the stranger who was your self
Give wine. Give bread. Give back your heart
to itself, to the stranger who has loved you
*
all your life, whom you ignored for another,
who knows you by heart.
Take down the love letters from the bookshelf
*
the photographs, the desperate notes
peel your own image from the mirror
Sit. Feast on your life

______________________________
* Derek Walcott, Nobel prize winner- Literature- was born in 1930 in Lucia,
one of West Indies Islands. He is a poet and playwright who writes mainly in English
دريك والكوت، الحائز على جائزة نوبل في الآداب سنة 1992 ، ولد سنة 1930 في سانتا لوشيا إحدى

جزر الهند الغربية في الكاريبي، شاعر وكاتب مسرحي، يكتب أساساً باللغة اإنجليزية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى