صفحات مختارةمحمد علي الأتاسي

“حماس” تقاوم… “ثقافة العري”

null
محمد علي الأتاسي
تدور في قطاع غزة منذ مدة معركة مستترة ترتبط بقضية فرض الحجاب على المرأة المسلمة، سواء تم الأمر بالإكراه الصريح أو بالإكراه المتلطي وراء ما يسميه الإسلاميون “الموعظة الحسنة”. وإذا كانت حكومة “حماس” تحرص إلى يومنا هذا على تجنب سن القوانين الصريحة التي تفرض الحجاب على نساء غزة، فإنها مع ذلك لم تألُ جهداً للدفع في اتجاه إلغاء أي مظهر من مظاهر السفور داخل المجتمع الغزاوي.
ففي مطلع الصيف الحالي، وتحديداً بتاريخ 12/6/2009 أطلقت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في الحكومة الفلسطينية المقالة برئاسة إسماعيل هنية حملة دعوية بعنوان “نعم للفضيلة” شملت جميع أرجاء قطاع “غزة” المحاصر والذي لا يزال يعاني من آثار العدوان الإسرائيلي، دماراً وتشريداً وغياباً للخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ومرافق عامة. في هذا الوقت، لم تجد حكومة “حماس” أفضل من ملاحقة ما تسميه “تفشي بعض المظاهر غير الأخلاقية في قطاع غزة”! أما عن ماهية هذه المظاهر “غير الأخلاقية” في عرف “حماس” فقد دلت عليها البرقية التي وجهتها وزارة الداخلية إلى رئاسة مجلس الوزراء مناشدة إياها العمل الجاد من أجل ما سمته “صيفاً نظيفاً” في غزة. وقد نشر موقع “إسلام أون لاين” المقرب من تيار الأخوان المسلمين، مقاطع من هذه البرقية توضح ما يتوجب على الحكومة محاربته وفقا للعبارات الآتية: “بعض مظاهر الفساد بدأت تنتشر في المرافق العامة… سهرات ليلية مُختلطة… مقاهٍ مُغلّقة بداخلها إنترنت يخلو من المراقبة… اختلاط في الجامعات يرسم أسئلة الدهشة والقلق… تجاوزات أخلاقية في الشوارع والأسواق”.
وفي سياق النشاطات التي تتضمنها هذه الحملة، عمدت وزارة الأوقاف إلى طباعة مئات ألوف الملصقات (بوسترات) لتعلّق في المرافق العامة والجامعات والمدارس. ويبدو أنها طبعت في مصر وهُرِّبت إلى القطاع. وتحمل هذه الملصقات إلى جانب الأحاديث والآيات القرآنية التي تحض على الفضيلة، شعار الحملة وعبارة تشير إلى أنها برعاية وزارة الأوقاف – الإدارة العامة للوعظ والإرشاد. أما الرسوم الموجودة على الملصقات فإنها تجسّد شباباً في مقتبل العمر في ملابس رياضية، وهي تتناول مواضيع مختلفة مثل مكافحة التدخين والمخدرات ورفقة السوء ومواقع الانترنت الإباحية، وصولا إلى الحض على مقاطعة ما تسميه الملصقات “القنوات التلفزيونية الخبيثة التي تفسد الأسرة والأجيال القادمة”، وإلى جانب هذه العبارة وحديث الرسول “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” المكتوبين بالخط العريض فوق رسم يمثل عائلة جالسة أمام شاشة التلفزيون، كتب في أسفل الصورة عبارة “قنوات ننصح بمشاهدتها” وإلى جانبها شعارات العديد من الأقنية التلفزيونية الإسلامية مثل “الأقصى” و”الرسالة” و”المجد” و”الناس” و”الرحمة”.
أما الملصق الأكثر تعبيرا عن ماهية هذه الحملة فهو ذلك المرتبط بحجاب المرأة. فعلى عكس ما قد يتبادر إلى الأذهان، فإن الملصق لا يتوجه إلى الفتيات السافرات اللواتي لا يضعن غطاء الرأس، كونهن بتن فئة نادرة الوجود بين نساء قطاع غزة بفعل الضغوط السياسية والمجتمعية الهائلة، لكنه يتوجه بالوعظ إلى الفتيات المحجبات بشكل يخالف ما ترتئيه وزارة أوقاف “حماس” بخصوص الحجاب. فالرسم يصور شياطين حمراً بقرون تشير إلى صورة فتاة محجبة بغطاء رأس كامل لا يظهر شيئا من شعرها أو عنقها أو صدرها، لكن ذنبها الوحيد أنها تلبس البنطال. وقد كتب في أعلى الصورة بالخط العريض “أحدث موضات الحجاب: صناعة شيطانية 100%”. أما في أسفل الصورة فقد كتب إلى جانب الآية القرآنية التي ترد فيها كلمة “جلابيبهن” ويفسرها الإسلاميون على أنها دعوة للتحجب، العبارة الآتية: “حجابك الصحيح طريق جنتك” مع سهم يشير إلى رسم لفتاة بالجلباب!
الطريف والمفجع في هذا السياق، هو الفوبيا التي تملكت بعض مسؤولي “حماس” بخصوص دمى عارضات الأزياء البلاستيكية التي تعرض في واجهات محلات الأزياء متبرجة ومرتدية ألبسة نسائية. فالشيخ يوسف فرحات المدير العام للإدارة العامة للوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف كان واضحا منذ البداية وصرح وفقاً لموقع “إسلام أون لاين”، أن حملة “نعم للفضيلة” ستنظم “زيارات ميدانية لمحال البيع الخاص بالنساء وإهدائهم نشرات دعوية تعالج بعض المخالفات التي تحدث في تلك المحال التجارية، ومحاولة القضاء على عرض الملابس الفاضحة خارج المحال، وظاهرة ما يعرف (بالمانيكان)، إضافة إلى الصور العارية”. ولم يفت فرحات أن يبدي تفاؤله بنجاح الحملة وقال للمصدر نفسه: “إن غزة بطبعها مدينة محافظة وتخلو من العري والسفور” واستدرك: “شعارها الدائم: نعم للفضيلة، وبإذن الله سننجح في محو كل ما من شأنه التأثير على طهارة هذه المدينة”.
وقد أوردت وكالات الأنباء وبعض الصحف التي لديها مراسلون في غزة، أخباراً عن نزول دوريات من الشرطة وموظفي وزارة الأوقاف إلى الأسواق وتنقلهم من محل إلى آخر في سوق الزاوية وشارع عمر المختار الرئيسي في غزة مظهرين الملصقات التي أتينا على ذكرها. كما طلب وعاظ وملتحون من أصحاب المحلات إزالة الهياكل البلاستيكية لجسم المرأة المانيكان، وطالبوا بنزع صور العارضات من على المنتجات، بالإضافة إلى نزع الملابس الداخلية للنساء المعروضة في واجهة المحلات!
ولتكتمل المهزلة فإن حل لغز الصور الآتية من أسواق قطاع غزة والتي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، وتبدو فيها مانيكانات العرض مرتديات المعاطف الطويلة ومقطوعات الرؤوس، جاء على لسان وكيل وزارة الأوقاف الحمساوية عبد الله أبو جربوع استنكاره في تصريح لـ”وكالة الصحافة الفرنسية” أن “يتم عرض دمية لأنثى عارية أمام المحال في مجتمع محافظ مثلنا، لذا نتوجه لصاحب المحل بالمعروف أن يرفعها أو يرفع عنها الرأس على الأقل حتى لا يكون فيها روح حسب سنّة رسولنا”. ويبدو واضحا هنا أن الفوبيا الأصولية من جسد المرأة، لم تعد تتوقف على النساء من لحم ودم وروح وكرامة إنسانية، بل تجاوزته إلى دمى عارضات الأزياء البلاستيكية. وفي كلتا الحالتين فإن السلطة الأصولية الخائفة تنزع إلى ترك بصماتها على جسد الجنس الأضعف أو على جسد دمية لا روح لها ولا ذنب إلا كونها تحيل إلى الجسد الأنثوي وتذكر الأصولي بالفوبيا التي يحملها في داخله من هذا الجسد!
المأساة أنه بينما يتلهى قادة “حماس”، تارة بنقاش وجود الروح أو عدمه في مانيكانات عارضات الأزياء، برأس أو من دون رأس، وتارة بمجاراة أترابهم من قادة السلطة الوطنية في الضفة في قمع المعارضين وملء السجون والإمعان في انتهاك حقوق الإنسان، تمضي إسرائيل قدما في سياسة قضم الأراضي والاستيطان وفي تأجيج الشرخ الفلسطيني وفي تأبيد الانقسام بين الضفة والقطاع.
ويبدو أن حكومة “حماس” لم تكتفِ بفرض الحجاب بـ”الموعظة الحسنة” في صفوف طالبات المدارس والجامعات، وبإلغاء الاختلاط في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، وبمنع النساء، حتى المحجبات منهن، من ارتياد الشواطئ من دون مَحْرم، بل تفتقت قريحة المستشار عبد الرؤوف الحلبي، رئيس المحكمة العليا ورئيس مجلس العدل الأعلى فأصدر قراراً بتاريخ 9 تموز المنصرم ينص فيه على ضرورة أن ترتدي المحاميات لدى ظهورهن أمام المحاكم النظامية زياً مخصوصاً يشمل إضافة إلى المعهود من كسوة من القماش الأسود المعروفة بـ “الروب” وسترة قاتمة اللون المعروفة بـ “الطقم – البانطو”، غطاء
يحجب الشعر (المنديل) أو ما يماثله بحسب نص القرار.
ووفقا للمنطق السفسطائي نفسه الذي يناقش في روح المانيكانات، فإن المستشار الحلبي حاجج في تصريحات إعلامية بأن كلمة حجاب لم ترد في نص القرار، وأن أكثر من 95% من المحاميات في القطاع يرتدين الحجاب والزي الشرعي، وبالتالي “لم يكن المقصود من القرار فرض أجندة إيديولوجية على المحاميات، بل من أجل أن تظهر كل المحاميات بالمظهر نفسه أمام المحاكم”، قبل أن يضيف “نحن لا نفرض عليها حجاباً أو منديلاً… فلترتدِ طاقية أو قلنسوة “! أما وزير العدل في حكومة غزة محمد فرج الغول فإن مخيلته كانت أوسع وقارن بين غطاء الرأس للمحامية وشعر الباروكة الأبيض المفروض على المحامين في بريطانيا “ليكون المحامي ظاهرا في موقف مهيب وكبير، وتكون له مهابة خاصة وشخصية خاصة في المحاكم”. والحمد لله أن لا المستشار ولا وزير العدل، قد ناقشا إمكانية تغطية رأس المحامية بالكامل، لنزع الروح عنها على طريقة مانيكانات الأزياء منزوعات الرؤوس في واجهات المحلات في غزة!
ولم يكن ينقص هذا الوضع السوريالي حتى يزيد الطين بلة، سوى استيقاظ ضمير الرجل الأبيض المستعمر الذي يمارس “القتل النظيف” بحق النساء والأطفال، ومن ثم يتباكى على أوضاع المرأة في المجتمعات المسلمة. ومن هنا جاءت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لم يتوانَ في كلمة ألقاها أمام عدد من الضباط العاملين في مجلس الأمن القومي، عن القول تعليقا على فرض غطاء الرأس على المحاميات في غزة، “أن هناك صراعا حضاريا في المنطقة ما بين النهج الأصولي والنهج التقدمي”. وأضاف ” في قطاع غزة، بدأت “حماس” العد التنازلي للسقوط. ومن سيسقطها هم الفلسطينيون أنفسهم الذين لم يعودوا يحتملون سياسة حكومة “حماس” القمعية. والدليل على هذا التراجع هو لجوء حكومة “حماس” إلى فرض الحجاب بالقوة على طريقة طالبان”. وكما هي العادة، بلغت الوقاحة والكذب بنتنياهو، الذي تمنع دولته عن الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال حق التنقل والسفر ومرور البضائع والأشخاص وصولا إلى منع مرور المواد الغذائية ومواد البناء، أن يتبجح ويقول إن “الإسلام الراديكالي سينهزم في النهاية أمام الثورة العلمية في العالم وأمام حرية تنقل الأفكار والتكنولوجيا”.
الجواب على اصطياد نتنياهو في الماء العكر بين الأطراف الفلسطينية المتصارعة وعلى شماتته من إجراءات “حماس”، أتى على لسان الناطق باسم “حماس” سامي أبو زهري ليخدم، كما هي العادة، نيات نتنياهو المبطنة. فالقيادي الفلسطيني اعتبر تصريحات نتنياهو “دليلا إضافياً على تواطؤ سلطة رام الله مع الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والمقاومة”، قبل أن يقول بخصوص الحجاب “شعبنا من حقه أن يحافظ على تراثه وتقاليده. إن كان الاحتلال يحافظ على ثقافة العري، فالأَوْلى بالشعب الفلسطيني أن يحافظ على زيه الذي يتوافق وتقاليده وتراثه”. ولم يفت أبو زهري، على جري عادة قادة “حماس”، أن يذكر في رده أن “ثقافة الالتزام بالزي المحافظ هي ثقافة أصيلة في الشارع الفلسطيني وليس لها أي قرارات أو قوانين”.
المأساة هنا أنه برغم ما يفترضه السيد أبو زهري من محافظة إسرائيل على ثقافة العري (هذا مع أن يهودها الأرثوذكس يجارون “حماس” تزمتا!) فإنها لا تزال قادرة على احتلال الأراضي العربية، ولا تزال متفوقة تكنولوجيا وعسكريا وصناعيا واقتصاديا على كل الدول العربية. قد يقول قائل إن الدعم الأميركي لإسرائيل هو السبب الرئيس لهذا التفوق، وهو بهذا محق لكن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة أن ثقافة المانيكانات المكتسيات الجلباب والمجردات من رؤوسهن، لم تسمح لـ”حماس”، مع الأسف الشديد، إلا بإحراز نصرها المبين على قوات الأمن الوقائي الفلسطينية في غزة الغارقة هي الأخرى في فسادها وزبائنيتها.
لقد قاوم آباؤنا وأجدادنا في الماضي المستعمر وحاربوا نظرته الاستعلائية الى ثقافتنا وقيمنا ونالوا في النهاية الإستقلال من دون أن يقف هذا عائقا أمام تبنيهم قيم الحداثة وانفتاحهم على بقية العالم ومضيهم قدما في معركة تحرير المرأة. إن معركة التحرر الوطني لا تتعارض مع حق الناس في التمتع بحريتهم الشخصية التي هي جزء لا يتجزأ من هذه المعركة، لا بل تكاد تكون الحريات الشخصية والاجتماعية شرطاً لازماً لتمكين المجتمع من تفجير طاقاته الكامنة وابتداع أساليب خلاقة في مقاومة المحتل وفي المضي قدما في نيل استقلاله الوطني.
ما يحدث اليوم في غزة هو مختبر حقيقي لكيفية تعامل التيار الإسلامي مع القضايا المتعلقة ليست فقط بلباس المرأة ومكانتها بالمجتمع، ولكن بشكل أشمل مع القضايا المتعلقة بالحريات الاجتماعية والحريات الشخصية واحترام حقوق الأقليات وأساليب الحياة المتنوعة وحرية اختيار الملبس والمأكل والمشرب. أما مركزية القضية الفلسطينية وأولوية مقاومة المحتل وتحدي حصاره، فمن المفجع أن تكون مبررا للتضييق على الحريات الاجتماعية والشخصية، في حين أنه من الأَوْلى أن تكون دافعا إضافيا لصيانة هذه الحريات والمحافظة عليها.
لقد ارتبط اسم فلسطين على الدوام بالتوق إلى الحرية، وسيكون من المؤسف أن تعمد الأيدي الفلسطينية إلى ربطه بوأد الحرية!

(كاتب سوري)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى