صفحات مختارة

الإعلام المرئي نجم زماننا ومَلٍكُهُ

بلال خبيز
كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريارد إبان حملة التحالف الغربي بقيادة اميركية على النظام العراقي بهدف تحرير الكويت، ان حرب الخليج لم تحدث لأنها حدثت على الشاشات. لكن الحرب التي لم تحدث ايام جورج بوش الأب، حدثت حقاً في عهد جورج بوش الابن. ذلك ان هذه الحرب لم تكن حرباً نظيفة كالحرب التي سبقتها، لا في المقاصد ولا في العمليات اللوجستية.وسرعان ما انتقلت رائحة العراق إلى اقاصي العالم، وتضاعفت عذابات العراقيين في ظل مقاومة هائجة وعمياء وجيش احتلال قاس ومشهد سياسي متراجع من حدود الدولة الامة إلى حدود مجتمعات أهلية تسبق استواء الدول الجامعة. ومع تضاعف هذه الآلام اصبحت الكاميرا، تمييزاً لوسائل الإعلام المرئي عن الصحف المحلية، اعجز من ان تلتقط حجم هذه العذابات، واقل قدرة على الإحاطة بها جميعاً، وقد فاتها كثير من الدم الطازج ولم تفلح في التقاط حرارته وبثها على الهواء. فكثر القتلى المجهولون المدفونون في مقابر جماعية في انحاء العراق بعيداً عن اعين الصحافيين التلفزيونيين وعن مجال كاميراتهم. ومع تفشي الدم المراق في انحاء العراق كله، اصبح الحدث يحدث بعيداً عن الكاميرا، ومتأخراً على زمن البث المباشر. فصور ابو غريب اكتشفت بعد زمن من حدوث احداثه، واكتشاف المقابر الجماعية ما زال امراً يومياً في العراق، على نحو تعجز الكاميرات وحاملوها حتى عن معرفة اسماء الضحايا حتى. وفي اختصار شديد، بات الحدث يجري بعيداً عن الكاميرا، وفي غيابها. لكنه لم يكن حدثاً مهملاً وهامشياً، لأن الكاميرات نفسها ساهمت في جعل الحدث العراقي حدثاً محسوساً ومرئياً وواقعياً في العالم كله.
في ظل هذه الحمى العراقية، لم يسلم حاملو الكاميرات انفسهم من القتل والذبح. ذلك ان صانعي الاحداث في العراق كانوا يتوسلون إجراء الإحداث في غفلة عن كل عين. ففضلوا التعتيم على الإنارة، والكتمان على الإفصاح. فكان ليل بغداد، طوال سنوات، هو الناطق عن حالها، مثلما كانت الكاميرات، اقله منذ بدء الحملة الاميركية على العراق، اعجز من ان تتحقق مما يجري. وما زلنا نذكر ان بغداد سقطت قبل ان يتمكن الصحافيون من معرفة ما يجري. كان الصحافيون المحاصرون بالنار من الجهتين، يعتمدون في حرب العراق على مصدرين: قاعدة العديد في قطر، وجولات محمد سعيد الصحاف على الفنادق التي يقيم فيها الصحافيون. بعضهم شاء ان يصدق الجنرالات الاميركيين، وبعضهم آثر ان يصدق الصحاف. وفي الحالين، كان الحدث يحدث بعيداً عنهم، وكانوا اعجز من التحقق من حصوله او صحته. صدقوا ما أُريد لهم ان يصدقوه. وفشلت الكاميرات في ان تبث ما كان المشاهدون يعرفونه من دون حاجة لتعليقات الصحافيين المسجونين في فنادقهم. في تلك الحرب، كانت مأثرة المراسلين التلفزيونيين الكبرى، بمعداتهم الثقيلة والنفيسة، انهم اذعنوا للحصار المفروض على بغداد وعانوا اقل قليلاً مما عانى العراقيون، انما اكثر كثيراً مما عانى المشاهدون في العالم اجمع.
الأيام التي تلت سقوط بغداد لم تتح للكاميرات ان تستعيد القها. ذاك ان احداث العراق كانت تطفح بالأسرار والملثمين، وهو ما لا تطيقه الصحافة المرئية اصلاً. ثم ان المعارك الأهلية التي حفل بها العراق طوال السنوات الماضية لم تكن تتيح للصحافيين استعادة زمام المبادرة امام الاحداث التي ترفض وتبدو عصية على تأطيرها في إطار تلفزيوني. ومنذ استعار تلك الحرب، باتت الصورة اقل قدرة على الإبلاغ. إذ كيف يمكن لمدافع عن مقاومة عراقية تريد تحرير العراق من الاحتلال الاميركي ان يبرر صور القتلى الذين يسقطون في الأسواق المزدحمة بفعل تفجير انتحاري قام به مقاوم “مجاهد”؟ لم يكن ثمة من مخرج من هذه المعضلة إلا التقليل من شأن الدم وجريانه، تمهيداً لإهمال اهراقه بدداً، وجعله من نوافل الحياة اليومية، وهي حياة نضال مصيري يهون فيها الدم وتصغر الهموم اليومية امام تعملق النضال واستهدافاته المعلنة نحو صناعة التاريخ وبناء عمارة المجد السليب. فغدا الموت العراقي شأناً نافلاً وباتت شاشات التلفزيون تفضل حفلات شتائم متلفزة واتهامات متبادلة بالخيانة والتخاذل على صورة الدم العزيزة المنال. هكذا، وعلى هذه الأسس عززت برامج التوك شو امجادها وأعلت عروشها، وعلى نسيان الواقعة المرة واستبدالها بالعراك اللفظي على الشاشات قامت مأثرة التلفزيونات المجيدة في السنوات القليلة الماضية.
لم يفتّ الانصراف عن الدم في عضد التلفزيونات. بل ان الحياة البشرية، وهي اكثر القيم علو كعب، اصبحت في وقت التلفزيونات قليلة الأهمية وتراجعت إلى مراتب دونية. وإذا ما استذكرنا ملاحظة الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن الفارق الجلي بين احداث المركز والاطراف، على ما يقسم سمير امين العالم، بمعنى ان وقوع حرب في بلد افريقي مهمل ولا يقع موقعاً مقبولاً في الجانب المضاء من العالم، وحصول مجازر فيه تؤدي إلى خسارة عشرات الوف الأنفس البشرية، مثل هذه الحرب لن تكون شديدة الوقع على ضمير العالم مثلما يكون مقتل فرنسيين في حادث سيارة او انهيار مبنى سكني في موسكو، او حتى تدمير حركة طالبان لتماثيل بوذا في باميان.
استذكار هذه الملاحظة لا يحل لغز الانصراف التلفزيوني عن الدم العراقي والفلسطيني والسوداني. فواقع الامر ان العراق ليس بلداً منسياً من جهة اولى، بل هو يقع في قلب المنطقة المضاءة من العالم، وتتركز على اوضاعه اهتمامات دول ذات وزن راجح في تقرير مصير العالم بأسره. هذا من وجه اول، ومن وجه ثان، ليست الأرواح التي تزهق في العراق كلها عراقية، بل ثمة قتلى من الجنود الاميركيين يسقطون على نحو متواتر ومنتظم. وهذا مما يقلب موازين كثيرة تتصل بوزن ثقل الاحداث، كانت إلى ما قبل سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001، مستوية على اسس واضحة. ذلك الميزان الذي يعطي ثقلاً للقتيل الأميركي اوزن كثيراً من القتيل العراقي او السوداني. وهذا امر كان لاستواء الدولة الأمة نصيب في تثبيت اوزانه على النحو الذي استقرت عليه تلك الاوزان في الهزيع الاخير من القرن العشرين. ويجدر بالمرء في هذا السياق ان يشير إلى ما لاحظته حنة ارندت من ارتباط حقوق المواطن، وما يتفرع عن هذه الحقوق من حقوق انسانية، انما تشترط اولاً وقبل اي امر آخر انتماء المواطن إلى كيان حقوقي وسياسي يرعى هذه الحقوق ويدافع عنها. وحيث ان رعاية هذه الحقوق والدفاع عنها يتفاوتان بين دولة واخرى، فإن حمية الدولة في الدفاع عن حياة مواطنيها وحفظها في دولة عالمثالثية تبدو فاترة وباردة إذا ما تمت مقارنتها بحمية الدول التي يصطلح على تسميتها بدول العالم الأول. هذا، وفضلاً عن التفاوت الناجم عن مستوى الرعاية الصحية والثقافية والاجتماعية بين الدول، فإن ثمة مسألة اخرى تجعل من حياة المواطن مرعية ومصونة في دولة ما اكثر مما هي عليه في دولة أخرى. وهي مسألة تتعلق بعلاقات القوة العارية. اي ان حياة المواطن الجورجي في تبليسي اقل قيمة من حياة المواطن الروسي في موسكو. بصرف النظر عن التشريعات الجورجية ومثيلتها الروسية، وعن مدى مواءمة القوانين المرعية الإجراء في كلا البلدين لشرعة حقوق الإنسان. فحياة المواطن الروسي تكتسب قيمتها العالية من قوة الجيش الروسي وقدرته على التعدي على جواره. واستناداً على هذين المعيارين: معيار القانون والحقوق المدنية، ومعيار القوة العسكرية، حازت حياة المواطن الأميركي القيمة الأعلى بين مواطني العالم، وما زالت حتى اليوم، نظراً لحيازة المواطن في الولايات المتحدة حظاً وافراً من الحقوق المدنية وتمتعه بحماية جيش هو الأقوى في العالم تسليحاً وتدريباً.
مع ذلك، ورغم القيمة العالية لحياة الفرد الأميركي، إلا ان وسائل الإعلام المرئي انصرفت عن الدم الأميركي انصرافها عن الدم العراقي، واخذت تهتم اهتماماً مضاعفاً بما يرمز إليه هذا الدم، والرسائل التي يريد القتلة ايصالها إلى أعدائهم.
من نافل القول ان الصحافة المكتوبة، رغم مساوئها الكثيرة، كانت تلتزم قوانين عالمية وتشيع بعض المبادئ في اقاصي العالم. حيث اشاعت حق حرية الرأي والتعبير المقدس طرداً مع حق الإنسان في الأمن والإطمئنان وحرية المعتقد. وشجبت على الدوام الحروب والنزاعات التي تقوم على اسس دينية او مذهبية او عرقية، ودافعت، منذ درايفوس وحتى اليوم، بنسب متفاوتة من النجاح والحماسة، عن المضطهدين بسبب انتمائهم او معتقدهم او عرقهم او جنسهم. لكن الصحافة المكتوبة تعيش في عالم يختلف اختلافاً جذرياً عن العالم الذي تعيش الصحافة المرئية ضمنه، مثلما ان المبادئ التي تخدمها الصحافة المكتوبة تبدو مختلفة تمام الاختلاف عن المبادئ التي تحكم الصحافة المرئية في كل مكان من العالم.
تبرز في هذا السياق ملاحظتان: واحدة تتعلق بوجه الشبه بين فرعي الصحافة هذه، واخرى تتعلق بوجه الاختلاف.
في ما يتعلق بوجه التشابه لا يستطيع المرء ان يغفل عن ملاحظات سيرج حليمي الذي حذر من سلطة الصحافة المطلقة، والتي لا يحدها اي قانون في بعض المناحي. فيسهل على الصحافي ان يتلقى رشوة من سياسي او رجل اعمال، فيواليه، بعدما كان من خصومه، من دون ان يتعرض للمحاسبة او المساءلة من اي جهة كانت. بل ان معظم صحف العالم الثالث وكثير من صحف العالم الأول تتعيش على مثل هذه الرشاوى. لكن السياسي ليس حراً في ان يتقبل رشوة او هدية من اي كان، فيواليه بعدما كان خصماً له، لأن مثل هذا العمل يقع تحت طائلة المحاسبة القانونية. وربما ان ابلغ ما يمكن ايراده في هذا المقام يتصل بحادثة اميركية معبرة. اي تلك العلاقة التي ربطت بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والموظفة المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي. يومذاك لم تتورع الصحافة المكتوبة والمرئية عن التدخل في شؤون بالغة الخصوصية، ولا تؤثر من قريب او بعيد على اداء الرئيس لوظيفته. فليس واحداً من شروط نجاح المرء في وظيفته ان يكون وفياً لزوجته. وبصرف النظر عن الأسباب الوجيهة التي دعت الصحافة يومذاك إلى الخوض في هذا الموضوع الخاص، فإن ما يلفت في تلك الحادثة تزامنها مع حادثة اخرى كان بطلاها تيد ترنر، المساهم الاكبر في السي ان ان، وجين فوندا زوجته يومذاك. إذ، وبعد شهور قليلة على انفجار قضية لوينسكي، اعلنت جين فوندا انها وزوجها قررا الانفصال، وان العلاقة في ما بينهما كانت تعاني من مصاعب فعلية وقد اجلا اعلان انتهاء علاقتهما، وقررا الإعلان عن الانفصال في هذه اللحظة. قبل هذا الإعلان لم يكن ثمة من يخوض في مسألة العلاقة بين الزوجين في اي وسيلة اعلامية. لكن الصحف والتلفزيونات لم تتورع عن الخوض في العلاقة التي ربطت كلينتون بلوينسكي. ذلك ان بيل كلينتون لم يكن اكثر من رئيس اميركا، اما تيد تيرنر فهو مالك السي ان ان. والفارق بين الرجلين في المرتبة والأهمية وحيازة السلطة يختل اختلالاً فادحاً لمصلحة الأخير وليس الأول قطعاً. توضح هذه الحادثة واقعة لشدة بداهتها تبدو مطمورة وغير مرئية على الدوام. حيث ليس ثمة في الصحافة او خارجها، من يستطيع ان يهاجم مالك صحيفة او قناة تلفزيونية، لكن الهجوم على الرؤساء امر شائع اقله في البلاد الديموقراطية.
هذا في ما يتعلق بوجه الشبه. اما في ما يتصل بوجوه الاختلاف بين الصحافتين، فربما يكون من الملائم تخيل السيناريو التالي: لنفترض ان زلزالاً مدمراً اصاب شيكاغو، وكان من القوة بحيث ان هدم معظم مبانيها، في الصباح التالي لن تصدر صحيفة شيكاغو تريبيون، لكن شبكات التلفزة المعولمة ستبث الخبر وتصور المواقع التي ضربها الزلزال ما امكنها ذلك. صحيفة شيكاغو تريبيون في هذه الحال تفصح عن ارتباطها بالجغرافيا والحدود التي تعمل ضمنها ارتباطاً وثيقاً، لكن شبكة التلفزة ليست على القدر نفسه من الارتباط بهذه الحدود. والامر يتعدى هذه الملاحظة عن محلية الصحافة المكتوبة وعالمية الصحافة المرئية، إلى ملاحظة اخرى، حيث تبدو الصحافة المكتوبة وكأنها تستبق الحدث، تتنبأ بالكارثة، لكنها ابداً لن تعود إلى الوجود عند حدوثها، اما الصحافة المرئية فتعمل في وقت البث المباشر. في وقت الحدث وليس قبله او بعده. وحيث ان الصحافة المرئية تعمل في وقت الحدث بالضبط، بخلاف الصحافة المكتوبة التي تصدر بعد حدوثه وتحاول استشراف ما يليه، فإن قلب ملاحظة بودريارد الآنفة الذكر رأساً على عقب يصبح اكثر ملاءمة لطبيعة العمل التلفزيوني: هذا الحدث حدث حقاً لأن التلفزيونات صورت حدوثه، وذاك الحدث لم يحدث لأن التلفزيونات لم تصوره او تهتم لتصويره. وفي هذا السياق يمكن للمرء ان يعد لائحة طويلة بالاحداث الكبيرة التي لم تولها التلفزيونات اهتماماً وتلك الهامشية التي وضعتها في بؤرة الضوء وجعلتها تكتسب اهمية اكثر ما تستحق.
العودة إلى العراق معبرة في هذا المجال. منذ زمن لم تعد التلفزيونات المعولمة تهتم لما يجري من قتل في العراق. اصبح جريان شلال الدم البشري خبراً عادياً لا يجاوز في اهميته خبر افتتاح محل لبيع المجوهرات الخاصة بالكلاب البيتية الأليفة في مانهاتن او سيدني. لكن التلفزيونات سرعان ما اعادت العراق إلى واجهة الأحداث مع قيام منتظر الزيدي برمي الرئيس جورج بوش بفردتي حذائه، وما تلاها من تداعيات. فجأة خرج منتظر الزيدي من العدم واصبح نجماً، البعض يعتبرونه بطلاً، والبعض الآخر يعتبرونه مجرماً. انما في واقع الأمر لم يقم منتظر الزيدي بأكثر من محاولة سحب الورقة الرابحة في لوتو النجومية التلفزيونية. كيف يكون الزيدي، بسبب مشهد واحد، بطلاً، وهناك في العراق، وفي كل مكان من العالم، من يجتهد نهاره وليله لإطعام اولاده؟ هذا امر لا يمكن ادعاؤه إلا بسبب تضافر حادثتين، او مصادفتين، الأولى ان الزيدي فعل فعلته على الهواء مباشرة، كما يسجل رونالدينو الهدف في مرمى الفريق الخصم على الهواء مباشرة. فلو ان ما حدث لم يحدث في لحظة البث المباشر لادعى الكثيرون ان الموضوع مفبرك برمته وان ما جرى ليس الا توليفاً للصور. والمصادفة الثانية تتصل بأن الرجل خرج من مجهول تام إلى بؤرة الضوء الكاملة. وفعل بالضبط ما يجدر بالصحافي التلفزيوني ان يفعله. اي تحويل بؤرة الاهتمام عن الرئيسين جورج بوش ونوري المالكي إلى الصحافي النجم الذي هو الزيدي في هذه الحال. ليس الأمر مستغرباً على اي حال، فمن يحسب ان الرئيس جورج بوش الأب اليوم اكثر اهمية من لاري كينغ؟ ومن ذا الذي يظن ان من تستضيفهم اوبرا وينفري اكثر اهمية منها؟ انها النجم وليس الآخرون الذين تستضيفهم سوى وقود نجوميتها المتألقة. اما جورج بوش او بيل كلينتون او لورانس سامرز فليسوا إلا ضيوفاً موقتين على عالم النجوم، وما ان تنتهي مدة مخدوميتهم في هذا المجال حتى يستعيدهم الظل إليه. هكذا تعمل التلفزيونات. ليس ثمة خبر اهم من مشاهدة نجوم التلفزيون، وحين يصبح المرشح الرئاسي رئيساً، او حين يعين الاستاذ الجامعي وزيراً للخزانة فإنه يدخل في عالم هؤلاء ويصبح واحداً من اصدقائهم، وإذا ما نجح في ادامة هذه الصداقة بعد خروجه من سدة الحكم او الوظيفة العامة فقد يبقى مؤثراً في الأحداث ومقرراً في نتائجها.
ليست المرة الأولى التي يشار فيها إلى سلطة الإعلام الهائلة. لكن الأمر في ما يظهر من مؤشرات حديثة، يتجاوز حد السلطة المتاحة للإعلام إلى ما هو ابعد بكثير. وان كان القول بأن الصحافة المكتوبة هي سلطة رابعة يمتلك حظاً من الوجاهة، فإن سلطة الإعلام المرئي هي سلطة اولى والأرجح انها اصبحت اليوم فوق السلطات كافة. وهي سلطة تمتلك وسائل السلطات كافة وتتسم بكامل سماتها. فهي سلطة قادرة على التجاهل والازدراء، وهذا امر لا يحاسبها على اتيانه اي قانون. فليس ثمة قانون يفرض على محطة تلفزيونية ان تعد برنامجاً عن هذا الموضوع او ذاك. ثم انها مثل كافة السلطات التاريخية الجائرة تملك حقوقاً تفوق حقوق محكوميها، فالفارق جلي بين صانع الحدث ومقرره والمواطن الذي اصبح بالنسبة لهذه السلطات مجرد مستهلك وبصاص. ثم ان هذه السلطة تملك قدرة على تجاوز القانون ليس متاحاً لأي سلطة اخرى. ذلك ان احداً لا يستطيع ان يحاسب سلطة الإعلام المرئي على انحيازاتها المسبقة تجاه فئة او شعب او مناطق جغرافية. هل ثمة قتل في العراق اكثر من القتل في السودان مثلاً؟ لماذا تكون بغداد مدينة مأهولة بالإعلاميين ولا تحظى دارفور بهذه النعمة؟ كما ان هذه السلطة هي اليوم مصنع الحسد الأبرز. طبقة نبلاء ذوي دم ازرق يعيشون في نعيم ومجد سلطانهم، لا احد يستطيع ان يحاسب أياً من الإعلاميين البارزين، بمن فيهم نجم الإعلام المستجد، منتظر الزيدي، على مدى ذكائه او عمق ثقافته او عظيم جهده الذي بذله ليصل إلى ما وصل إليه. هم غالباً يتكشفون عن جهل وقلة خبرة، يجعلان المشاهد حائراً بين شعورين: اما ان يحسدهم على ما هم فيه من نعيم لا يستحقونه، وإما ان يتعبد في محراب نجوميتهم كمثل جميع المؤمنين في كل مكان من العالم. والحال، لم يكن الإعلام المرئي يوماً، اقله منذ انتشار تقنية البث المباشر يهدف إلى تنوير المشاهد او إعلامه بما يجري، بل انه كان على الدوام يكرر نشيداً ممجوجاً في التعبد لنفسه ودعوة الآخرين إلى سلوك مسلكه تماماً. وبخلاف نجوم السينما والفنون الذين يخرجون من العالم العام نحو عوالمهم الخصوصية، فإن نجوم الإعلام هم اشبه بأنبياء يبحثون عن مريديهم ويهدفون إلى اخضاعهم لمنطق سطوتهم، وتقرير اساليب حياتهم، من اعلانات الصابون الأنسب إلى انتخاب المرشح الأفضل.
لشهور خلت كان الكثيرون يظنون ان رجال المال في وول ستريت هم الأكثر نفوراً من اي نوع من انواع المحاسبة. كان العالم كله يدرك انهم يتحكمون بمستقبله، لكنه لا يستطيع ان يرد غائلتهم عنه. وهؤلاء مثلهم مثل نجوم السينما، كانوا يتممون وظائفهم ثم يعودون إلى قواقعهم وعوالمهم المغلقة. والحق ان ما لم يكن مشمولاً بالملاحظة في وظيفة هؤلاء ان الإعلام المرئي، والمكتوب استطراداً، شاركهم في التسلط على العالم. فلم يكن الاضطراب في الأسواق ممكناً في بعض الأحيان من دون ان تنشر اخبار الأسهم واسعارها على التلفزيونات المختصة ذعراً بين جموع المساهمين وعامتهم. ولم يكن هذا الضرب من النشاط الاقتصادي التسلطي ممكناً من دون اعلام يتابع مجرياته. وعلى نحو ما يحتاج جورج بوش وباراك أوباما من بعده، إلى صحافيين ينقلون ما يريد قوله، فإن وول ستريت كانت تحتاج إلى صحافة تنقل ما تريد ان تقوله ايضاً. لكن الانهيار المالي الذي اعقب احداث ايلول ـ سبتمبر الثاني في اميركا، (تمييزاً لأحداث ايلول ـ سبتمبر 2001 عن احداث ايلول سبتمبر 2008، يوم انهار النظام المالي مع افلاس ليمان براذرز) وضع هؤلاء في مرتبة الفئة التي لم يعد ثمة من يحتاجها. وعلى نحو ما اوضحت حنة ارندت من ان اليهود في المانيا لم يصبحوا لقمة سائغة في حلق الوحش النازي إلا لأنهم خسروا قبل ذلك التاريخ ضرورتهم القصوى في المجتمع الألماني، فيما لم يكف المجتمع عن اصلائهم مشاعر الحسد، مثلما بدت طبقة النبلاء معدومة الضرورة في الثورة الفرنسية، فلم يقم الشعب الثائر، بحسب منولوزييه يومها، سوى باثبات حقيقة الملكية العارية. في هذا الصدد يكتب ميشال فوكو: “هل قامت الثورة بعملية انقلاب على الملك؟ ابداً. الثورة انجزت واكملت عمل الملك. يجب ان تُقرأ الثورة بوصفها انجاز الملكية، انجاز تراجيدي، ممكن، ولكنه انجاز واكتمال سياسي حقيقي. وبذلك نكون قد قطعنا رأس الملك فعلاً في مشهد 21 كانون الثاني يناير 1793، ولكننا توجنا عمل الملكية. وهكذا تم الكشف عن تلك الاتفاقية، عن حقيقة الملكية عارية والسيادة المنزوعة من النبالة بواسطة الملك وتحويلها من ثم إلى الشعب، الذي وجد نفسه كما يقول منولوزييه، الوريث الشرعي للملك”.
من نافل القول ان استعار الشعور بالحسد حيال فئة ما في المجتمع متزامناً مع انعدام الحاجة المجتمعية لها يؤدي إلى مجرزة شبيهة بتلك التي حدثت في فرنسا الثورية. والمستهدف بهذه المجزرة اليوم ليس سوى رجال وول ستريت ومنظريها والمدافعين عنها. اما من علّق المشانق ونصب المقاصل في كل مكان من العالم، فلم يكن غير وسائل الإعلام المرئية، وبهذا استكملت هذه الوسائل حيازة مقاليد السلطة بين يديها ولم يعد ثمة منافس لها من اي لون.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى