صفحات الناس

في سجن عدرا: سجناء سوريون يسرقون بضعة أحلام صغيرة

null
يارا بدر
دمشق ـ ‘ القدس العربي’ يعيش المجتمع السوري في أغلب شرائحه تحت ظلال الجهل، القصدي أو العفوي، تجاه العديد من أشكال الوجود المعروفة في العالم أجمع، من السجون إلى مشافي الأمراض النفسية والعصبية. وكأنّ تجاهل الحياة التي تضمّها جدران تلك الأماكن يكفي وحده لنفي وجودها، لإبعاد أنفسنا عن التصورات السلبية التي اعتاد وعينا الجَمعي ربطها بهذه الأماكن وقاطنيها. فالسجين لدينا هو أسوأ أنواع البشر ضمن قطيع الجماعة، هو المُغتصب والسارق والقاتل، ومن اكتسب أحقية سلبه كل الصفات الإنسانية، أمّا المريض العصبي أو النفسي فهو ببساطة شديدة مجنون، والمنفي كذلك خارج دائرة الجماعة.
اليوم، تخطو وزارة الداخلية في الجمهورية العربية السورية خطوتها الأهم ربما تجاه نزلاء سجن عدرا، وذلك بالتعاون مع وزارة الثقافة، وتحديداً مديرية الفنون الجميلة في الوزارة، التي أطلقت أوّل ورشة عمل تفاعلية في الشرق الأوسط بين سجناء وفنانين تشكيليين. تفتح الورشة المجال أمام مختلف أنواع العمل الفني التشكيلي من الرسم والنحت إلى الحفر على النحاس والخشب وسواه، وذلك على مدى شهرين من العمل تقريباً.
تقول السيدة ‘ نبال بكفلوني’ مديرة مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة وصاحبة مشروع الورشة: ‘ أتت الفكرة بعد قراءتي عن وضع السجناء في إحدى الصحف، حيث خطر لي أن السجن مكان لتنفيذ العقوبة، لكن ماذا بعد السجن؟ وماذا عن هذا السجين داخل السجن طوال فترة انتظاره الطويلة، والانتظار دوماً صعب؟ لماذا لا نستثمرها ونشجّعهم على الأفضل، على الأجمل خلال كل ذلك الوقت؟!’، الوقت الذي يملك السجين منه الكثير وما يفيض عن الحاجة، فمثلاً يأخذ تطريز غلاف خرزي لعمود يزيد طوله عن المتر مع السجين من أسبوع إلى عشرة أيام، وهو الوقت النسبي الذي احتاجه أغلب السجناء المشاركين لإتمام لوحة على سبيل المثال. من جهته عمل ( ب. ح – 43 عاماً) أحياناً من 9 صباحاً إلى 9 مساءً في المكان الذي خصصته إدارة السجن للورشة، ويُضيف: ‘ كان بإمكاننا كذلك الرسم في المهاجع، لكن الإضاءة سيئة هناك، خاصة ليلاً’. و’ ب’ الذي لم يتخطّ في دراسته المرحلة الإعدادية أب لثلاثة أولاد، أمضى عاماً في السجن ولا يزال ينتظره الكثير، عبّر عبر أعماله الفنية عمّا تركه السجن في داخله خلال عام، عن أحلامه والانكسارات، عن أوجاع أي إنسان يحلم بأبسط حقوقه، يحلم بامرأته والحرية، فشاهدنا لوحة بالألوان الترابية الفاتحة لسيدة يبدو جسدها ضخماً ووجهها خالياً من أيّ ملامح خاصة، وكلاهما، الجسد والوجه، يمتد على مساحة اللوحة بشكل عام دون تفاصيل أو خطوط تعلن عن ماهية هذا الجسد، وإنمّا هو اللون يُقارب ما بين الحالة الشعورية الحالمة والحزينة للسيدة والإوزات المحيطات بها، لوحة تتميّز على ما فيها من براءة وعفوية بدرجة من النضج والتوازن في استخدام الألوان وتموضع المنظور. المنظور واللون مستويان يبرزان في لوحة من القطع الصغير، لوحة بسيطة يغلب عليها اللون البنفسجي والنهدي ويتشوه فيها الوجه المؤطر بقضيبي زنزانة تشد عليهما يدان ضعيفتان، أمّا العينان فتحملقان بنا نحن جمهور المراقبين أبداً. يقول ‘ ب’: ‘ قد يكون الرسم هو هوايتي المُفضلة، لكنني هنا، شاركت في الورشة بهدف محدد، وهو ما قدمته لي هذه الورشة وما قدمه لي الرسم. النسيان’.
النسيان هو الطموح الأقصى للكثير من النزلاء المشاركين، خاصة أولئك المحكوم عليهم بالإعدام، فأمام أعمالهم، وفي حديثهم عنها قليل من الخفر، وفرح يشعّ من عيونهم، خاصة ( ز.ك – 42 عاماً) الذي أمضى حتى تاريخه سبعة أعوام في السجن، وسيعرض في المعرض مجموعة من الصناديق والسيوف الخشبية المطرزة ببزور التمر وبودرة الحليب المجفف وبن القهوة والصدف. ‘ ز’، الذي كان منذ بداية اعتقاله يمارس حرفته هذه ولاحقاً انضم إلى الورشة، يقول بفرح: ‘ الورشة والشغل يُنسي المرء وضعه ويُساعده على ملء فراغ الوقت، ببساطة يُساعدنا العمل على الشعور بمضي الوقت، وأنا أصلاً أحب الأعمال التي تتطلّب دقة وحرفية، لأنّ إنجازها صعب، لكن لاحقاً ينظر الواحد منا بشيء من الفخر إلى ما صنعت يداه من جمال’.
من جهته (ع .ر- 40 سنة) أمضى خمس سنوات ولديه أربع أخرى في انتظاره، كان سابقاً عامل موبيليا، شارك في الورشة بهدف القيام بعمل يحبه دون أي تدخل من أحد، في الورشة لديه المواد والوقت والصلاحية ليُنفّذ أعماله بالطريقة التي يختارها، و’ ع’ يُقدّم إضافة إلى الصناديق من الحجوم المختلفة قطعاً خشبية صغيرة زينها بخيوط النحاس كالعود مثلاً على شكل علاقة مفاتيح. يقول ‘ ع’: ‘ أنا أجيد عزف الموسيقى أيضاً، وأتمنّى أن يساعدونا بإقامة ورشة للموسيقى مثل هذه الورشة’.
بعيداً عن القسم الخاص بالأحكام الجنائية اجتمع قسم آخر من المشاركين وهم من المحكومين بالقضايا الخاصة كتعاطي المخدرات والاتجار بها، حيث تميّزت أعمالهم بشكل عام بتنوعها التشكيلي وبأفكارها الجميلة، في حين تميّزت أغلب أعمال المشاركين في القسم الأوّل بطابعها الحرفي والعمل مع الخشب والنحاس وسواها من المواد. يقول ( ي. أ. ج – 44 سنة) الذي أمضى ثلاث سنوات ولا يزال المجال مفتوحاً أمامه، أنه يُعبّر بالرسم عن كل ما يحتاج إلى قوله، لكن لا يجد من يسمعه أو يفهم ما يقوله. ‘ ي’ حاصل على شهادة في الشريعة الإسلامية، ولا يذهب مع الاتجاه القائل أنّ الإسلام حرّم التصوير، خاصة اليوم وكل ما فرضته المعاملات الإدارية واليومية من تصوير للأوراق الثبوتية، ( حرّم الإسلام تشبيه الوجه، وهو ما لا يجوز في الرسم. وأنا في أعمالي لا أظهر وجوهاً أبداً). في المقابل يعمل ‘ ي’ على علامات شبه ثابتة، كالمدى المفتوح دوماً في اللوحة، الماء ثابت الحضور، الأفق، المرأة والرجل وسلاسل القيد، والألوان الداكنة. في هذا الصدد يوضح ‘ ي’: ( الماء بالنسبة لي هو الحياة، وأنا أحب رسم المقدسات، بالنسبة لي إنسانية العام 2010 مُقيدة بالسلاسل رجالاً ونساء).
من جهة ثانية يتحدث ‘ ي’ الذي يبدي اهتماماً بالقضايا العامة التي تجري في العالم من حوله: ( السجن والخارج ذات الشيء، وأفضل شيء التفكير بأنّ الحياة فترة ويجب قضاؤها، مهمة ويجب إتمامها).
ثلاثون سجيناً اشتركوا مع خمس فنانين هم الفنانون عمر النمر، غسان السباعي، نسيم الياس، فرح شيخ، ريزان عرب بهدف تجاوز قضبان السجن، لا يهمهم أن تخلدهم أعمالهم، ولا أن يحققوا شهرةً أو ثروة منها، يكفيهم متعة عملهم عليها، حتى أنّ بعضهم أنجز أعمالاً وأوضح أنه سيعرضها في المعرض ولن تكون للبيع، علماً بأنّ ريع المعرض سيعود إلى أصحاب الأعمال المُباعة. وهنا ترى السيدة ‘ بكفلوني’ أنها حققت من ورشتها كل آمالها وأكثر، وذلك حين قال لها أحد المساجين: ‘ أنا أنسى أنني سجين حين أرسم’. وانطلاقاً من إيمانها بأنّ علينا الاهتمام بالسجين بعد خروجه من سجنه ومساعدته في الحصول على فرصة ثانية، علينا عدم تأطير أيّ ٍ كان ضمن خانة الشر، بل العمل على تحريض الخير الكامن داخل كل فرد، وبدعم من وزارة الداخلية تأمل السيدة ‘ نبال’ أن تنجح الوزارة بتعميم التجربة على كافة سجون سورية، ومن جهتها تطمح شخصياً إلى تطوير التجربة والانتقال بها إلى سجون الأحداث حيث الأطفال الذين يكون الاعتقال أشدّ وطأة عليهم والتجربة أكثر مرارة، كما تأمل السيدة ‘ بكفلوني’ أن تتابع ورشتها وصولاً إلى مرضى المشافي النفسية والعصبية في سورية. فهل يجد هؤلاء المهمشين في سجونهم وأمراضهم، والمحاصرين بالرفض والعداء من قبل المجتمع والأفراد على السواء فسحة للأمل و متسعا للحلم؟!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى