صفحات مختارة

ماركس .. وأفيون الشعوب

فؤاد زكريا
من أصعب الأمور أن يتحدث المرء عن فكر ماركس والماركسية بروح محايدة، فلم يكن فكر ماركس مجرد فلسفة من الفلسفات التي تظهر وتختفي دون أن تترتب على ظهورها أو اختفائها نتائج عملية واضحة ومباشرة، ولم يكن ذلك الفكر مجرد تأملات نظرية يستطيع المرء أن يعرضها ويتخذ منها موقفاً، بالقبول أو الرفض، وهو هادئ الأعصاب، لا يتدخل في الحكم الذي يصدره إلا عقله فقط، بل إن فكر ماركس، الذي حطم الحاجز القديم بين الميدان النظري والميدان العملي، وأزال كل الفواصل بين التأمل والممارسة، لابد أن يثير في نفس من يريد أن يحكم عليه، اتجاها إلى الرفض العنيف أو القبول المتحمس، لا ترجع أسبابه إلى قيسة هذا الفكر بالمقاييس العقلية وحدها، فأنت قد تقبل فكر أفلاطون أو ديكارت أو حتى سارتر أو ترفضهم بعقلك، ولا تشعر بأن قبولهم أو رفضهم يؤثر عليك عمليا في شيء، أما ماركس فينفرد بأنه يرغمك، سواء كنت معه أو عليه، على التخلي عن موقف الحياد العقلي.
ذلك لأن فكر ماركس، الذي تجسد في القرن العشرين على شكل ثورة اجتماعية شاملة، أحرزت نجاحا في جزء غير قليل من العالم، وما زالت تشق طريقها بنشاط في أجزاء كثيرة أخرى، قد أصبح يهدد مصالح قوية يخشى عليها الكثيرون، ويسعى غيرهم إلى الانقضاض عليها. وفي وضع كهذا لا يستطيع كل من الفريقين أن يفكر بطريقة محايدة، إذ أن الفريق الذي يشعر بأن ماركس يهدد مصالحه يستخدم كل الأساليب من أجل تشويه فكره وعرضه بطريقة ممسوخة، ويسئ فهمه عمداً، على حين أن الفريق الذي يتخذ من فكر ماركس أداة للثورة يتحمس له تحمسا مفرطا، ويتخذ منه موقفا تبريرا، لأنه يعمل حسابا لتطبيقاته العملية قبل كل شيء. وهكذا يعجز كل فريق عن أن يزنه بميزان النقد المحايد، أو أن ينظر إليه بطريقة موضوعية خالصة، لأن المصالح العملية تشابكت مع الفكر النظري تشابكا وثيقا، عمليا، ولكن العوامل التي تخرجنا عن حيادنا، تعمل في حالة المذاهب الأخرى بطريقة خفيفة مستترة، أما في حالة ماركس فهي صريحة واعية، لا يحاول أحد إخفاءها، وحتى لو حاول فلن يستطيع.
ولقد كانت نتيجة هذا الوضع، الذي ينفرد به ماركس عن سائر المفكرين، هي ضرب نطاق من التحريم على فكره، بحيث ابتعد الكثيرون عن محاولة فهمه، حتى أولئك الذين تسمح لهم إمكاناتهم الثقافية بأن يفهموه، أما في الحالات التي بذلت فيها محاولات لعرض تفكيره – وهي في بلادنا قليلة – فإن التشويه المتعمد «الذي يرجع إلى تدخل المصالح» كان هو الغالب.
وهكذا اقتصرت معارف الغالبية العظمى من قراء الصحف والكتب غير المتخصصة، فيما يتعلق بماركس، على مجموعة صغيرة من التعبيرات المحفوظة المتكررة، وحتى هذه التعبيرات تعرض في جميع الأحيان بطريقة مشوهة أو محرفة أو مقطوعة من سياق، له معنى مخالف.
ومن بين هذه التعبيرات جملة ربما كانت تشكل الحصيلة الوحيدة المعروفة عن ماركس في عقول عدد غير قليل من الناس، فضلا عن أنها هي السلاح الأقوى – وربما الوحيد – الذي يستخدم في محاربة ماركس في البلاد النامية التي يغلب عليها طابع التدين، ومنها بلادنا العربية، ومصر بوجه خاص، تلك هي الجملة المشهورة «الدين أفيون الشعوب».
وسوف أحاول في هذا المقال أن ألقى الضوء على هذه العبارة المشهورة دون أي محاولة للدفاع أو الهجوم، فمن المفيد، في رأيي، أن يعرف القارئ – في بلادنا بوجه خاص – المعنى الذي استخدم به ماركس هذه العبارة، والظروف التي قيلت فيها وأن تتضح له الخلفية التي حددت ماركس من الدين حتى يتسنى لهذا القارئ أن يحدد لنفسه موقفا مبنيا على علم ومعرفة، تجاه أولئك الذين لا يقدمون إليه ماركس إلا من خلال جملته المشهورة عن الدين.
ولأبدأ أولا بالسياق الذي وردت فيه هذه العبارة: ففي كتاب «مقدمة لنقد فلسفة الحق أو القانون عند هيجل» وهو من كتابات ماركس المبكرة، يقول:
«إن العذاب الديني تعبير عن العذاب الفعلي، وهو في الوقت ذاته احتجاج على هذا العذاب الفعلي، فالدين هو زفرة المخلوق المضطهد، وهو بمثابة القلب في عالم بلا قلب، والروح في أوضاع خلت من الروح، إنه أفيون الشعب» (لا حظ أنه استخدم كلمة «الشعب» بصيغة المفرد، لا الجمع كما هو شائع).
هذه الفقرة هي أطول الفقرات التي تحدث فيها ماركس عن الدين، وهي تكشف بوضوح عن السياق الذي قيلت فيه عبارته المشهورة، فلم يقل ماركس هذه العبارة على سبيل النقد أو التحامل أو التشنيع، بل إنه، بعكس ذلك، قالها في سياق يعد فيه الدين تعويضا للإنسان عما فقده في العالم الفعلي المحيط به، وتخفيفا لما يعانيه من بؤس. إن الدين في هذا النص عزاء لإنسان مطحون، وهو يظل ضروريا مادامت الأوضاع التعسة التي يحياها الإنسان قائمة: إذ أن من القسوة المفرطة أن تحرم المظلوم المضطهد حتى من الأمل في حياة أخرى أفضل من الحياته التعسة، أو أن تسلبه الإيمان الراسخ بأن في الكون نظاما عادلا، وبأن هذه العدالة إذا تمهلت أو تأخرت قليلا، فإنها لا تهمل.
ولكي نزيد ما يعنيه ماركس إيضاحا، نضرب له مثلا من المشاهد المألوفة في الأفلام المصرية، ففي هذه الأفلام تجد «الشرير» (وليكن فريد شوقي) يحتسي الخمر قبل أن يشرع في ارتكاب جريمته، لكي تعطيه الخمر مزيدا من التشجيع والقوة الدافعة إلى ارتكاب الجريمة، كما تجد البنت الطيبة مظلومة (ولتكن فاتن حمامة) تلجأ إلى الخمر لتنسى همومها وتخفف من وقع الكوارث التي تراكمت عليها. هنا يصبح للفعل الواحد، وهو شرب الخمر، معنيان مختلفان، ويتضح لنا أن التخدير الذي تحدثه الخمر على النوعين، بينهما فرق واضح، فهناك تخدير يدفع المرء إلى ارتكاب الشر، وتخدير يخفف عن المرء وقع الشر، النوع الأول نذمه ونكرهه، أما الثاني فنشعر إزاءه بالعطف، رغم علمنا بأن تناول المخدر أو المسكر بكل أنواعه عمل غير أخلاقي.
والآن، فبأي معنى استخدم ماركس تعبير «أفيون الشعب» في عبارته المشهورة؟.
من الواضح أن كل من يقتطع هذا التعبير من سياقه لكي يهاجم به ماركس يستخدمه بالمعنى الأول، ولنسمه رمزيا معنى «فريد شوقي»، مستغلا الوقع السيئ للفظ «الأفيون» على الآذان، فينسب إلى ماركس أنه جعل من الدين أداة لخداع البشر وإيقاعهم في حبائل الشر.
ولكن الواقع أن ماركس استخدمه بالمعنى الثاني «معنى فاتن حمامة »، لأن السياق بأكمله يتحدث عن الاضطهاد والظلم الذي يقع على الناس، ويجعل الدين عزاء ضروريا لهم في عالم لا يرحم.
فهناك إذن مغالطة واسعة الانتشار في الطريقة التي تقدم بها عبارة ماركس المشهورة إلى الناس عن الدين. وعلى حين أن من الشائع تفسير هذه العبارة بأن ماركس قصد بها إبعاد الناس عن الدين مثلما يبتعدون عن مخدر ضار كالأفيون، فإن المعنى الحقيقي الذي استخدمها به هو أن الناس لن يجدوا مفرا من الالتجاء إلى الدين للاحتماء به من الظلم الاجتماعي المحيط بهم، والذي يعجزون عن أن يفعلوا إزاءه أي شيء. فعبارة ماركس تنطوي ضمنا على المعنى القائل إن الدين عزاء لابد منه مادامت المظالم الاجتماعية قائمة، وسيظل ضروريا إلى أن يصبح المجتمع البشري منظما على نحو تسوده العدالة ويختفي فيه ظلم الإنسان للإنسان، ولما كان التنظيم الاجتماعي العادل مازال بعيدا عن التحقق في مجتمعات كثيرة، فإن ماركس لا يستطيع أن يدعو شعوب هذه المجتمعات إلى التخلي عن أديانها.
إله إسرائيل
هذا التفسير ليس دفاعا عن موقف ماركس من الدين، إذ سيظل من الصحيح مع ذلك أن الدين في نظره«أفيون » أي أنه ينقل البشر من عالم الواقع إلى عالم وهمي يتخيلون فيه أن مشاكلهم قد وجدت حلا أبديا لها، وأن المظالم التي تحيط بهم قد اختفت إلى غير رجعة.
وحتى مع الاعتراف بأن ماركس يرى الدين ضروريا لأولئك الذين تطحنهم قسوة النظم الاجتماعية، فإن هذا لا يمكن أن يكون رأيا يرضى عنه رجل الدين، إذ أن الدين – حسب رأي ماركس – لن يعود ضروريا بمجرد أن يحقق الإنسان لنفسه نظاما يختفي فيه الظلم والاستغلال.
وكل ما يمكن استنتاجه من التفسير الذي قدمناه هو أن عبارة ماركس المشهورة تحمل معنى مخففا إلى حد بعيد بالقياس إلى المعنى الذي يشيع تفسير هذه العبارة به.
ولكن موقف ماركس الأساسي يظل، بعد هذا كله، معاديا للدين، على أن هذا العداء بدوره كانت له ظروف ينبغي أن يلم بها القارئ بحيث يضع موقفه من الدين في سياقه الصحيح، ويتوصل إلى الإجابة الصحيحة عن ذلك السؤال الذي أعتقد أنه سؤال حاسم في هذا الموضوع، وأعنى به: هل من الممكن أن نعمم رأي ماركس عن الدين، أم أن هذا الرأي ينطبق على الدين في مجتمع معين، وعصر معين؟.
إن تجربة ماركس مع الدين هي في أساسها تجربة مثقف غربي ينتمي إلى تراث يجمع بين اليهودية والمسيحية بحكم الاتصال الحضاري بين العقيدتين (أي بين العهد القديم والعهد الجديد)، وبحكم الازدواج بين أسرته اليهودية والمجتمع المسيحي الذي عاش في وسطه، فما الذي أخذه ماركس على هذا التراث الديني الذي كان ينتمي إليه؟.
لن نجد صعوبة في تحديد موقف ماركس من اليهودية، فقد تخلى عنها منذ عهد مبكر من حياته، وقطع كل روابطه بها،وقد ألف ماركس منذ وقت مبكر رسالة معروفة باسم «المسألة اليهودية» عبر فيها عن الرأي القائل إن للديانة اليهودية أساسا دنيويا هو الحاجة العملية والسعي إلى تحقيق المصلحة الذاتية، فقال: «لو وجد تنظيم للمجتمع يلغى الشروط الضرورية للا مساواة، وبالتالي يقضى على إمكانها، لأصبحت اليهودية مستحيلة، عندئذ ينقشع الوعي الديني اليهودي كما لو كان ضبابا كئيبا بدده هواء المجتمع المنعش»، وفي موضع آخر من هذه الرسالة نفسها يقول: «إن المال هو الإله الغيور لإسرائيل، الذي لا يمكن أن يوجد إله قبله، والحق أن المال ليحط من قدر كل آلهة البشر، ويحيلهم إلى سلع، إن المال هو القيمة العامة، المكتفية بذاتها، لكل شيء، ومن ثم فقد سلب العالم كله – يستوي في ذلك العالم الإنسانية والعالم الطبيعي – قيمته الحقيقة».
ولقد بلغ من قسوة الهجوم الذي وجهه ماركس إلى اليهودية في هذه الرسالة أن البعض قد اتهمه – برغم انتمائه العائلي إلى اليهودية – بالعداء للسامية، وهي تهمة لا تعقل في مثل هذه الظروف، وحقيقة الأمر هي أن ماركس قد انشق نهائيا، وإلى غير رجعة، عن العقيدة التي ورثها عن أجداده، وكثيرا ما يكون أبناء اليهود الذين يرفضون عقيدتهم (مثل الفيلسوف الكبير اسبينوزا)، أشد قسوة في مهاجمتهم لليهودية، وأقدر على كشف أخطائها، حتى من نقادها العنصريين، ومن المؤكد أن العامل العنصري لا يكون له أي دور في هذه الحالة، بل يسعى اليهودي المنشق على تحرير اليهود من أنفسهم، ومن جمود عقائدهم، حتى يمكنهم أن يسيروا مع الإنسانية كلها في موكب التحرر، أما أولئك الذين يصرون على أن ماركس كان برعم كل شيء يهوديا، وعلى أن الماركسية كلها جزء من مؤامرة يهودية على العالم، فهم عنصريون قصار النظر، لا يتصورون أن من الممكن للمرء التحرر من تراثه الديني، فضلا عن أنهم يعطون اليهودية أهمية، تفوق ما تستحق، ويمجدونها من حيث لا يشعرون.
تراث الكنيسة
أما موقف ماركس من التراث المسيحي، الذي يمثل التيار الرئيس في الحضارة التي ينتمي إليها، فهو الذي يستحق منا مزيدا من الاهتمام، ذلك لأن ماركس قد أتخذ من هذا التراث موقفا واضح العداء، ولكن هذا العداء لم يكن شيئا بعيدا عن المألوف بين المثقفين الغربيين المستنيرين منذ فجر النهضة الأوروبية الحديثة حتى يومنا هذا.
ذلك لأن أوروبا لم تستطع أن تحقق نهضتها الفكرية والعلمية والفنية الرائعة في العصر الحديث إلا بعد صراع مرير مع الكنيسة، وكان كل كشف جديد، وكل تقدم للروح البشرية في أي ميدان من ميادينها الواسعة يتحقق بعد مقاومة عنيفة من الأوساط الدينية، وبعد محاولات مستميتة تبذلها هذه الأوساط للحفاظ على التخلف السائد، وفي هذا الصراع سقط شهداء كثيرون، أشهرهم جوردانو برونو الذي أحرق حيا في مطلع القرن التاسع عشر لأنه كان يؤمن بدوران الأرض حول الشمس ويدعو إلى ذلك علنا، ولم تخل حياة أي فيلسوف أو عالم ذي شأن في فترة النهضة الأوروبية ومطلع العصر الحديث من مشكلات مع رجال الدين، وهي مشكلات كانت تصل أحيانا إلى حافة الهاوية، كما في حالة غاليليو، أو كانت تؤدي بالمفكر أحيانا أخرى إلى التخفي والانزواء، والحذر، كما في حالة ديكارت واسبينوزا، أو تدفعه إلى الاحتماء بسلطة الدولة من خطر الكنيسة، كما في حالة بيكون وهبز وربما هيوم.
ولقد ظل هذا الوضع في أوروبا قائما حتى القرن التاسع عشر، بل إن آثاره لم تختف تماما حتى يومنا هذا، ولكن الأمر المؤكد هو أن الكنيسة بدأت تنتقل إلى موقف الدفاع منذ عصر التنوير، أي في القرن الثامن عشر، على حين أنها كانت في القرنين السابقين تهاجم بشدة، وبلا رحمة دفاعا عن مصالحها التي كان معظمها، في واقع الأمر، دنيويا خالصا، وإن كانت المبررات التي كانت تقدمها على السطح الظاهري ذات طابع روحي بالطبع وليس أدل على دنيوية هذا المصالح من أن مارتن لوثر، الذي تعلقت عليه الآمال في البداية بعد أن قام بحركة الإصلاح المشهورة، وأنشق على الكنيسة الكوثوليكية داعيا إلى إقامة علاقة مباشرة بين الإنسان والله دون وساطة جهاز فاسد يسيطر عليه رجال يحترفون الدين – أقول إن مارتن لوثر ها، عندما اختبر في ميدان الواقع العملي، قد رسب رسوبا شنيعا، وأثبت أنه لا يقل تعلقا بالمصالح الدنيوية عمن أعلن انشقاقه عليهم: ففي عام 1626 نشبت ثورة الفلاحين بزعامة توماس مونتسر للمطالبة بأدنى الحقوق الإنسانية للفلاحين في عصر بلغ الإقطاع فيه أقصى درجات استبداده، ولكن المصلح الديني وقف إلى جانب المصالح القائمة، ولم يقدم أي عون للفلاحين الذين كانت ثورتهم تأثرا بتعاليمه، بل إنه دعا الأمراء إلى سحقهم بلا رحمة، وكان هذا ما حدث بالفعل في مذبحة من أشهر المذابح في التاريخ الأوروبي الحديث.
كان هذا هو تاريخ الكنيسة في التراث الغربي الذي ينتمي إليه ماركس ولم يكن من المستغرب أن يدخل عدد كبير من المفكرين في صراع معها خلال مرحلة أو أخرى من حياتهم، بل إن هذا الصراع أتخذ منذ عصر التنوير طابع الهجوم السافر، واشتهر في هذا الصدد مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين يعرفون باسم «فلاسفة الموسوعة»، منهم ديدرو ولامتري ودولباخ، هاجموا الدين بقسوة بالغة، وبصراحة تثير الدهشة، ولم يعد في استطاعة الكنيسة منذ ذلك الحين أن تقضي على حياة نقادها، كما كانت تفعل من قبل، ولذلك اكتفت بالدفاع النظري، وبتغيير مواقعها باستمرار كلما أرغمها التقدم البشري على التراجع والقيام بتنازلات.
ولقد كان كثير من هؤلاء المفكرين يهاجمون الدين في ذاته، ولكن مهاجمتهم للدين كانت في واقع الأمر انعكاسا مباشرا لموقفهم من النموذج الوحيد الذي عاشوا في ظله وتأثروا به في حضارتهم الغربية، وأعنى به الكنيسة المسيحية بجهازها الهرمي المحكم، وبموقفها التاريخي من اتجاهات التقدم العلمي والفكري والاجتماعي، وعلى ذلك فإن ماركس لم يكن إلا واحدا في سلسلة طويلة من المفكرين الذين أفرزتهم الحضارة الغربية الحديثة، والذين وجدوا لزاما عليهم أن يهاجموا الدين دفاعا عن حقوق الإنسان. وبطبيعة الحال كان هناك نمط آخر من المفكرين، لا يرون أي تعارض بين الدين وتأكيد حقوق الإنسان، ولكن هذا النمط لم يكن له وزن كبير في فترة الصراع الأولى، التي دامت من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، ولم يظهر كقوة فكرية ذات تأثير إلا بعد أن أصبحت الاتجاهات العلمانية والعقلانية آمنة راسخة الأقدام، بحيث لم يعد هناك خوف من الارتداد إلى عهد السيطرة الشاملة للكنيسة.
ولم تكن لدى العدد الأكبر من هؤلاء المفكرين الغربيين الذين هاجموا الدين أي نظرية اجتماعية تؤدي إلى أي نوع من الاشتراكية أو الشيوعية، أي أن الصراع بين الفكر والدين في العالم الغربي لم يكن مرتبطا بالضرورة بالثورة الاشتراكية، بل إن الاشتراكيين بأكملهم لم يكوّنوا سوى أقلية ضئيلة ضمن مجموعة كبيرة من المفكرين الذين دخلوا في معارك مع الدين دون أن يكون لنظرياتهم مضمون اجتماعي ثوري واضح.
وهكذا يتضح للقارئ أن هناك خطأ أساسيا آخر في كل الكتابات السوقية الشائعة التي تصور موقف ماركس بأنه ظاهرة فريدة في تهجمه على الأديان، وتغفل تلك الحقيقة التاريخية التي لا يستطيع أحد إنكارها، وهي أن التيار المعادي للدين تيار رئيسي في الفكر الغربي، كان موجودا منذ فجر النهضة الحديثة، قبل أن تظهر الماركسية بمئات السنين، أما في عصرنا الحاضر فقد اشتد هذا التيار قوة، واشتهر من بين ممثليه عدد كبير ممن لا ينتمون أصلا إلى الماركسية، ومع ذلك فإن هذه الكتابات غير العلمية تكيل المديح لمفكرين مثل برتراند راسل أو هيدجر أو سارتر، دون أن تشير إلى أن موقفهم من الدين لا يقل عداء عن موقف ماركس وأتباعه، مما يثبت أن الهجوم على ماركس بسبب الدين إنما هو تغطية سطحية لأسباب أقوى وأعمق.
يمكننا إذن أن نقول أن تجربة ماركس مع الدين تجربة مع تراث ديني رجعي في صميمه، نشبت بينه وبين الفكر العلمي والإنساني معارك قاسية راح ضحيتها شهداء كثيرون، وكان يستخدم أداة سهلة، مضمونة المفعول، لتخدير الناس وصرفهم عن محاربة المظالم المحيطة بهم، أي أن هذه التجربة كانت، بالاختصار، مصطبغة بالطابع الخاص لتراث حضاري معين هو التراث الأوروبي الغربي، ولموقع زمني خاص في هذا التراث.
على أن هناك تجربة أخرى لم يكن من الممكن أن يعرفها ماركس، لأنها تنتمي إلى تراث حضاري لم يعرفه معرفة كافية، فضلا على أن معالمها لم تتحدد إلا في عصر لاحق لذلك الذي عاش فيه ماركس، تلك هي تجربة الدين كقوة تحررية، يستمد المجتمع منها طاقة روحية تعينه على التصدي لطغيان الاستعمار الأجنبي، وهذه التجربة لم تظهر ملامحها إلا في بلاد العالم الثالث، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإن كان تأثيرها لم يتضح بجلاء إلا في القرن العشرين.
ولقد تنبه الغرب ذاته إلى الدور الذي قام به الدين في بلاد العالم الثالث، من أجل حشد الطاقات الروحية لأبنائه في مواجهة القوة المادية التي واجههم بها الاستعمار الغربي، وظهر الدين في ثوب جديد، ودور جديد في كثير من الحركات التحررية في أميركا اللاتينية، وانشق كثير من رجال الدين عن الكنيسة التقليدية وانضموا إلى صفوف الثوار دون أن يتخلوا عن وظيفتهم الأصلية كرجال دين (وهذا أهم ما في الأمر)، كما كان لبعض الرهبان البوذيين دور ملحوظ في مساندة الثورة التحررية في فيتنام ومكافحة طغيان العصابة الحاكمة العميلة قبل الوصول إلى النصر النهائي.
على أن أروع نماذج اتخاذ الدين قوة تحررية ضد الاستعمار قد تمثل في عالمنا العربي، فقد تنبه المستشرق الفرنسي جاك بيرك الذي عاش فترة طويلة من حياته في شمال أفريقيا، إلى الدور الكبير الذي لعبه الدين الإسلامي في الثورة الجزائرية، وفي حركة مقاومة الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا عامة، وجعل من هذه الظاهرة موضوعا رئيسيا لعدد غير قليل من كتبه، وكانت الحقيقة التي توصل إليها هي أن الدين في هذه المنقطة من العالم لم يكن على الإطلاق عاملا مخدرا للشعوب، بل كان على العكس من ذلك سلاحا عظيم الفاعلية، نبه الشعوب إلى حقوقها، وساعدها على حفظ أصالتها وصوت تراثها في وجه استعمار يملك قدرة هائلة على التغلغل والتسلط، لا في الميدان السياسي والاقتصادي فحسب، بل في الميدان الفكري والحضاري أيضا، فتمسك شعوب تونس والمغرب والجزائر بقيمها الدينية في عصر الاستعمار الفرنسي لم يكن على الإطلاق من قبيل «الدروشة» أو التخدير، بل كان هو القوة التي أعانتها على التصدي لمحاولات القضاء على هويتها وأصالتها . وهكذا أفلحت هذه الشعوب في مقاومة جهود فرنسا من أجل تغريبها – أنا أستخدم كلمة «التغريب» هنا بمعنيين متكاملين: معنى الاغتراب عن الذات وتراثها وأصالتها من جهة، ومعنى الاصطباغ بالصبغة من جهة أخرى – بفضل تشبثها بطوق النجاة الأخير الذي بقى لها. وهو القيم الدينية.
على أن هذا النموذج لا يقتصر على شمال أفريقيا، أو على الأمثلة التي أشار إليها جاك بيرك فحسب. ففي مصر كانت كثير من الثورات الشعبية ضد الاستعمار تتخذ طابعا دينيا، وذلك منذ وقفة الشيخ عمر مكرم الوطنية الرائعة ضد طغيان الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حتى الدور البطولي الذي قام به رجال الدين المسلمون والمسيحيون في ثورة 1919، وفيما بين هذين الموقفين كان لرجال الدين دور يذكر في ثورة عرابي، بل إنني، وإن لم أكن مؤرخا، أتصور أن حلقة الذكر المشهورة التي قيل إن عرابي قد أقامها عشية موقعة التل الكبير (وهي الموقعة التي كان يعرف أنها حاسمة في تقرير مصير البلاد إزاء الاحتلال البريطاني، كانت لها إذا كانت قد حدثت بالفعل – دلالة رمزية بالغة، فتفسيرها الظاهري هو أنها كانت دليل التخلف في وجه قوى استعمارية تستند إلى أحدث أساليب التكنولوجيا المعروفة في ذلك الحين، ولكن تفسيرها الأعمق هو أنها كانت محاولة لاستخراج القيم الدينية من أعماق الوجدان الشعبي، كيما يستمد منها الشعب طاقة يدافع بها عن هويته الأصلية ضد خطر دخيل. فهنا، في ساعة الخطر، كان الدين صيحة تتجمع بها القوى الشعبية تحت لواء واحد ضد العدو الذي يهدد كل القيم والمقدسات، وما كان أشبهه في ذلك، وهو قياس مع الفارق طبعا، بجوزيف ستالين حين لجأ في خطبته المشهورة غداة الغزو النازي لبلاده إلى استخدام لفظ «روسيا» بدلا من لفظ «الاتحاد السوفيتي» لكن يربط حاضر الشعب بماضيه، ويدعوه إلى الذود عن مقدساته. إن الدين لفي هذه الحالات جميعا إنما هو عودة إلى الأعماق السحيقة في ساعة الخطر، ودعوة إلى انبعاث أعمق ما في الذات الاجتماعية لمواجهة عدو غريب غاصب.
على أن القيم الدينية، في العالم الثالث، لا تستخدم دائما على هذا النحو المؤدي إلى التقدم، فنحن نعرف جميعا تلك الحالات التي استخدم فيها الدين قوة تحارب التحرير وتتحالف مع الغاصب والمستعمر والمستغل ،وتضفي على أطماعهم من القدسية، وكأنها تحقيق لإدارة الله في الأرض، وحسبنا أن نذكر بعض الأمثلة من التاريخ القريب: فباسم الدين أسقطوا مصدق وعاد احتكار البترول مسيطرا على إيران، وباسم الدين انقلبوا على نظام سوكارنو ـ الذي كان مخلصا في إيمانه – وارتكبت في اندونيسيا مذبحة من أفظع مذابح التاريخ، قتل فيها كل من كان له اتجاه تحرري وطني على أساس أنه «شيوعي»، وباسم الدين حورب نظام سلفادور الليندي الوطني حتى سقط رائده الشيخ في ميدان الشرف ومات ميتة الأبطال، وحلت محله ديكتاتورية بلغ جبروتها وإرهابها حدا جعل أولئك الذين أقاموها يخجلون من انتسابها إليهم، ويتبرأون منها ظاهريا حتى لا يفتضحوا أمام العالم المتحضر، وباسم الدين – بالأمس القريب – قتل مجيب الرحمن وأفراد أسرته البعيدون والقريبون بطريقة فيها من الجبن والخسة ما يثير الاشمئزاز، دون تمييز بين رجال ونساء وأطفال.
وخلاصة القول إن الصورة المتعلقة بالدور الاجتماعي الذي يستخدم فيه الدين في العالم الثالث، شديدة التعقيد، فهناك مؤمنون مخلصون لا يستمدون من الدين إلا مبادئ تساعد على التقدم والتحرر، وهناك أيضا مؤمنون، بعضهم على الأقل مخلصون، يستخدمون الدين وسيلة للقهر والرجوع إلى الوراء، وفي استطاعة كل من الفريقين أن يأتي بالمبررات التي يؤيد بها موقفه، والتي هي في نظره مقنعة كل الإقناع.
ولكن ما يهمنا في الموضوع ليس المقارنة بين هذين الموقفين، بل هو إثبات التعقيد الشديد للصورة، وإيضاح أن مشكلة دور الدين في المجتمع قد اتخذت في عصرنا، وفي مجتمعات العالم الثالث، طابعا لا يمكن أن يكون قد خطر ببال ماركس، ففي عصره، وفي الحضارة التي ينتمي إليها، كانت المسألة بسيطة كل البساطة، واضحة كل الوضوح، إذ أن كل تقدم علمي وفكري في أوروبا الحديثة لم يتحقق إلا بعد صراع عنيف ضد سلطة الكنيسة، أعني ضد المؤسسة الرسمية التي تنصب نفسها حامية للدين.
والسؤال الحاسم، الذي تتلاقى عنده كل خيوط هذا المقال، هو: هل كان ماركس سيعالج دور الدين بتلك الطريقة المبسطة، لو كانت قد أتيحت له فرصة معايشة هذا الوضع بالغ التعقيد للدين في مجتمعات العالم الثالث المعاصرة؟.
إنني أفضل أن أترك للقارئ التفكير في الإجابة عن هذا السؤال، وحسبي أن أكون قد أوضحت له أن قضية ماركس المشهورة «الدين أفيون الشعب» لا تحمل المعنى الذي يشبع تصوره، وأن موقف ماركس من الدين كان مرتبطا بعصر معين وثقافة معينة، وأن ماركس لو كان قد عايش تلك التجربة شديدة التعقيد التي عاشتها مجتمعات العالم الثالث في عصرنا الحاضر، لكان من الجائز أن يعدل أحكامه البسيطة المباشرة بحيث يعمل حسابا للدور التحرري الذي قام به الدين في بعض هذه المجتمعات#
* مفكر مصري (1927 ـ 2010)
عن مجلة الحرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى