الأزمة المالية العالميةصفحات العالم

التاريخ الاقتصادي مدخلاً لفهم الأزمة القائمة اليوم

إبراهيم غرايبة *
تستعاد اليوم وعلى نحو مكثف الدراسات والكتب التي تعالج التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المصاحب للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، أو تصدر دراسات جديدة تعود إلى تلك المرحلة التاريخية باعتبارها مدخلاً لفهم الأزمة الاقتصادية والتحولات الكبرى الجارية اليوم، ماركس وكينز على سبيل المثال يقرآن اليوم ربما أكثر من عصرهما، وكتاب «التحول الكبير» لكارل بولانيي الذي صدر في أثناء الحرب العالمية الثانية، صدرت منه طبعة جديدة، وترجمته حديثاً المنظمة العربية للترجمة، وصدرت لهوبزباوم سلسلة من الكتب الضخمة في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لتلك المرحلة، وحظيت باهتمام كبير، ربما لم تكن لتحظى به لولا الأزمة الاقتصادية العالمية، عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر التطرف، عصر النهايات، وتستعاد طباعة وتداول كتب ما جرت العادة بتسميتها بالنظريات والأفكار البديلة والمهمشة، مثل: الخضر ومناهضو العولمة والمنتديات الاجتماعية واليسار الاجتماعي، وتنتقل من البدائل والأقبية السرية نظريات وأفكار طالما كانت كذلك، مثل الطريق الثالث، وأنصار البيئة وحقوق الإنسان، والتنمية الإنسانية، والتنمية المستدامة، والتنمية التشاركية لتكون برامج للحكومات والمنظمات الدولية، وأساساً لنجاح أحزاب وحركات سياسية في الانتخابات أو عودة بعضها إلى التأثير، كما حدث أخيراً على سبيل المثال لحزب الأحرار في بريطانيا، وكما حدث في عدد كبير من دول أميركا اللاتينية، وربما يكون انتخاب باراك اوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية يقع في هذا السياق.
يجد بولانيي في تتبعه تطورات الأسواق أن الرأسمالية حلت من دون إعلان عن نفسها، ولم يطرح أحد نبوءة عن الصناعة التي تستخدم الآلات، فلقد جاءت مفاجأة للجميع، وكانت الأسواق قبل زماننا المعاصر تشكل جزءاً ثانوياً من الحياة الاقتصادية، وكان النظام الاقتصادي مدمجاً بالنظام الاجتماعي، ولم تكن السوق ذاتية التنظيم معروفة، وفي الحقيقة فإن فكرة التنظيم الذاتي للسوق كانت تحولاً كاملاً عن تيار التطور المألوف، وعلى ضوء هذه الحقائق فقط يمكن برأي بولانيي فهم الافتراضات الاستثنائية التي يتضمنها اقتصاد السوق.
وفي المرحلة الصناعية امتدت آلية السوق إلى عناصر الإنتاج، اليد العاملة والأرض والمال، وكانت النتيجة الحتمية لدخول نظام المصنع في المجتمع التجاري أن تكون عناصر الإنتاج معروضة للبيع، وبما أن اليد العاملة ليسوا أرباب عمل، بل هم مستخدمون، فيتبع ذلك أن تنظيم اليد العاملة هو تعبير آخر عن أشكال حياة العامة من الناس، فهذا يعني أن تطور نظام السوق يصحبه تغير في تنظيم المجتمع نفسه، فأصبح المجتمع الإنساني ملحقاً بالنظام الاقتصادي. ولكن من أين أتى هؤلاء الفقراء على رغم الوعود القائمة والمحتملة للآلة؟
كان هذا السؤال شغل الكتاب والمفكرين في القرن الثامن عشر، وصدرت مجموعة كبيرة من الكراريس والدراسات التي كانت تزداد كثافة على مر الأعوام، بعدما بدأت تتدفق أعداد هائلة من الناس من الريف إلى المدن، وتضيق بهم الأماكن، وهم لا يجدون مأوى ولا عملاً، ولكن ربما كانت فضلات الشوارع أرحم من الريف البائس الذي عجز عن إطعامهم، فعندما حلت الثورة الصناعية قلبت كل شيء رأساً على عقب، فقد ارتفعت أسعار الحبوب والمواد الغذائية أضعافاً مضاعفة، وانخفضت أجور العمال، واختفت طبقة صغار المزارعين، وبدأت الآلة تحل محل اليد العاملة على نطاق واسع، وضاقت المساكن في المدن بأصحابها، وانتشر التشرد والإدمان والجريمة على نطاق واسع.
وتجنبت الحلول والاقتراحات والتفسيرات التحولات المصاحبة للثورة الصناعية، وقدمت اقتراحات وتصورات من قبيل تخفيض عدد الكلاب، وبعض فصائل الأغنام والخيل لأنها بحاجة إلى طعام كثير، ووجهت الدعوات إلى الفقراء (الفقراء فقط!) للتقليل من الطعام والتقشف، والتقليل أو حتى الاستغناء عن الشاي كوسيلة لتخفيف الفقر والحاجة.
والأكثر ذكاء أو جرأة من الدراسات اتجهت إلى القوانين والتشريعات السائدة لتحميلها المسؤولية عن الفقر، لماذا غابت الإشارات التي تنبئ بالتحولات الوشيكة والحتمية المصاحبة للصناعة؟ يتساءل المفكر الاقتصادي بولانيي، بل ويؤكد أن المراقبين المعاصرين أيضاً كثير منهم أغفل التحولات المصاحبة للصناعة في فهم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الذي تشكل وغير العالم، وذلك على رغم الإجماع والبداهة اليوم على الأثر الذي أحدثته الصناعة في حياة العالم وموارده وتشكلاته الاجتماعية والثقافية.
كانت الآلة تغير جوهرياً في المهن، فتزيد البطالة، ويجري استيعاب بطيء للأيدي العاملة في ظل الآلة واحتياجاتها وتعقيداتها على رغم التسهيلات الكبرى التي منحتها، اختفت مهن كثيرة، وكانت المهن الجديدة بحاجة إلى تأهيل وخبرات مختلفة لم يكن معظمها متاحاً للراغبين في العمل، وتطورت المدن والتجارة الخارجية تبعاً لتطور الصناعة، ولكن لم يتشكل تفكير وتخطيط اجتماعي يستوعب هذه التحولات، فهذا الانسلاخ الكبير والفجائي عن المواطن الأصلية في الأرياف والقرى والدخول في عالم جديد بأنظمته وعلاقاته وأسلوب حياته بدل كثيراً في المنظومة الاجتماعية والثقافية التي كانت وعلى نحو غير منظور وربما غير مكتشف تمنح الأفراد والمجتمعات قدراً كبيراً من الاحتياجات والأمان والتنظيم، وكانت الخسائر الاجتماعية أكبر من المكاسب الاقتصادية.
تشكلت تجمعات صناعية جديدة تمنح أجوراً أعلى وشعوراً أفضل بتقدير الذات، وصحب ذلك موجة سخط كبير على الواقع المتردي في الريف، وكراهية شديدة للزراعة والأعمال الزراعية، وكانت المناطق الصناعية تشبه بلاداً جديدة تجتذب المهاجرين بالجملة، وكانت العودة إلى الأوطان الأصلية لبعض الوقت والنقل المتبادل بين الريف والمدن الصناعية الجديدة يشحن الناس بالإشاعات والآمال والأوهام، وهكذا بدأ الريف يخلو من ساكنيه، والمدن تنمو وتتضاعف في نموها، وصارت المدن العملاقة!!
وفي الوقت نفسه فإن المجمعات الصناعية كانت تخلو من التنظيم والقوانين والوضوح، فالعمال الذي يشتغلون اليوم بكامل طاقتهم قد يكونون غداً في الشارع يتسولون خبزهم، وعندما تفقد مدينة صناعتها التي اشتهرت بها، فإنها تتحول إلى مجاميع هائلة ومشلولة في الوقت نفسه، يتحول السكان فوراً إلى عالة، وإذا عاد العامل إلى قريته فإن المأساة تزيد أيضاً، فقد تعلم الناس أعمالاً ومهناً لا مجال لها في الريف، ولم يعودوا قادرين على العمل في الزراعة.
لماذا نستعيد التاريخ الاقتصادي اليوم؟ وهل يصلح لفهم وتفسير ما يجري من تحولات وأزمات كبرى؟ ربما ويجد فيه المفكرون والمؤرخون الاقتصاديون والاجتماعيون في الاستعادة الجارية على نطاق واسع مختبراً لدراسة واستعادة حالات شبيهة ومماثلة لما يجري اليوم في الأزمة الاقتصادية العالمية والأزمة الكبرى التي شهدها العالم منذ سيادة المعلوماتية.
وعلى أي حال فقد اعتادت الأمم بعمومها أو بنخبها وقياداتها أن تلجأ إلى التاريخ، باعتباره مختبراً للدراسة والفهم، أو ملجأ للهروب والحنين، التطرف والسلفية على سبيل المثال يصاحبان الهزائم والأزمات في التاريخ والجغرافيا، ولكننا نستطيع بالمراقبة والمقارنة ملاحظة كثير من الكوارث والأخطاء التي تتكرر، ليس لأن التاريخ يكرر نفسه كما يقال، ولكن لعدم الرغبة في الخروج من الأزمة، لأنها (الأزمة) تمثل مصالح وموارد كبيرة لفئات من الناس والقوى السياسية والاقتصادية.
وربما كان الأكثر أهمية وجمالاً في هذا المسار الاجتماعي والاقتصادي هو كيف ظلت الحضارة (الغربية بالطبع) تنظم نفسها وتحاول إصلاح أخطائها على نحو يبدو عفوياً، وكأن بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي نفسه تحتمل نقيضها، وهنا يمكن استحضار ملاحظات رئيسة ثلاث، أولها، الحركات الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجها النظام الرأسمالي نفسه والتي تبدو مناقضة أو مختلفة معه إلى حد كبير، والمراجعات الذاتية الطويلة والدؤوبة للنظام والفكر الاقتصادي والاجتماعي من داخله وعلى يد أصحابه المؤمنين به، وأخيراً ذلك القدر الهائل من الإنتاج الفني والثقافي والعلمي غير المسبوق في تاريخ البشرية كمّاً ونوعاً، والذي يكاد يغفر كل أخطاء وخطايا النظام الرأسمالي أو يخفف منها على أقل تقدير.
* كاتب أردني.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى