صفحات الشعر

الليلةُ الأولى في الفندق، الفجرُ الأخير في البحر

null
جولان حاجي
…. على سطحِ الفندق، في ساحةِ المواخيرِ والمتسوّلين والشهداء، حين تمدّدتُ إلى جوارِ غرقى المستقبل، المبعثرين تحت النجومِ الشحيحة، الأكرادِ المهاجرين عبر الأبيض المتوسط من شرقهِ لجنوبهِ فشمالهِ فشمالهم، تقدّمتْ سيوفٌ تتشعّبُ في نحورِ الأدلاء العمالقة- البحّارةِ الهالكين- وحوافرُ خيلٍ طبعَتْ أهلّتها في وحولِ الحفريات اللانهائية. على رصيفٍ ترجُّهُ المحاريث، وقعتْ لافتةٌ خلّعتها ريحٌ قديمة. لن يتسنّى لأحدٍ أن يلمحَ شيئاً رماهُ اللهُ هنا أو هناك. العاصمةُ في أوجِها، المحامون والقضاة نائمون. المدعوّون يرمقون بياضَ الساعة في البهو المكيَّف. تلاقتِ العوائلُ والأقرباء والمهرّبون، اللاجئون يتفقّدون الوثائق، يتنهّدون ويتثاءبون، الثرياتُ تلفحهم وتنحِلُهم، ومرساةُ خيالهم تنشبُ فكّها في دُبالِ الغابةِ السوداء. بينما الحروفُ الناعمةُ تطرّزُ الصفحاتِ بالوشايات، والترجمانُ القتيل يسهرُ بين الأجانب، والملاءاتُ تتبقّعُ باليود ، والقبطانُ في عليائهِ يشعلُ الغليون….

لهاثٌ دافىء مرَّ على خدّي، فاستفاقَ تعبي.
الراقدون اختفوا.
صفّفوا عيونَهم حول المائدة
ولملموا من فراغ الصحون
العظامَ الأخيرة، ممصوصةً وعارية.
لفلفوا المخطوطات، الممهورةَ المزوَّرة،
ودسُّوا قصاصتي وراء الباب.
وبعيدانٍ كُسِّرتْ
زيّنوا القفل ثم أضرموا النار.

البعوضةُ الحائمة حول بلورِ المصباح
أحسّتْ بهم قبلي-
وهم يتملُّون مسرايَ
انسبتُ فيه وحجَجْتُ إلى خوفي.
عبر العصابة نصبَ بؤبؤيَّ العسليين
ريّشتُ سبّابتي، أطلقتُها وفقدتها.
اختزلتُ قفاري في غبارٍ لا يطيرُ وتبخّرتُ:
نجمةٌ غرقتْ في نجمة.
ضمرتْ بطونُ السحب، وطالتْ أظافرُ الموتى.

الأغنيةُ تلو الأغنية
صفّرتْ داخل جمجمتي،
فيما القبضةُ محكَمةٌ على ضفيرتي القصيرة
ونصفيَ المفلوجُ يتشافى بالقاعةِ المجاورة.

النقلةُ التاليةُ غفلتُ عنها.
فخُطِفتُ من ظلمةٍ لأخرى.
هي طعنةٌ مستديمة في الظهر تُجحِظُ عينيَّ
وتصفّفُ الرضوضَ في نظراتي.
في ثنيةِ ياقتي تُنشَبُ كلابةٌ
وتُسحَبُ الكلماتُ وئيدةً من شفتيّ.

كصلاةٍ أعجزتها المغفرة
تتعاقبُ الشتائم وتثقّبُ الستائر
والقهقهاتُ تحثو ترابَ العتبات.

بعيدانِ ثقابٍ متقصّفة
الخادماتُ النازحات مثلي
حككنَ خشونةَ الإسمنت.
والشاحبون، المنسيُّون في إيابهم،
صعقهم زرُّ الجرسِ المبتلّ
فتفحّموا وتفتّتوا.

القلمُ امتصَّ ما دوّنهُ الحبرُ الأخضر
فما تناهى إليّ من الصريرِ اسمُ أحدٍ سواي
رُدمَتْ كلُّ فجوةٍ دسَسْتُ فيها وسطي
التمعتْ كلُّ هوةٍ جُبتُها وكانت سُكناي.
ذابَ ما لمستهُ وسالَ.

المجنَّحون كوّروني هنا
كتّفوني بجدائلِ الدمى الشقراء
وسمّرتني رتابتهم المروّعةُ حيث مكثتُ.
براحاتهم أطعموا السحالي
ذباباتٍ كانوا يهشّونها برؤوسِهم عن بياضِ فمي.
خلسةً، أرخيتُ جفنيّ المثقلَين
وقبّلتُ الكفَّ التي كمَّمتْ صمتي.

وما زارني إلا ما مقتُّه وأطالَ ألمي
اجتباني ولازمني وأهزلني
ساقني وأخفاني.
ولم أنجبْ ولم أفهمْ أحداً
ولا غسلَتْ حيرتي خطيئةَ أنفاسي.

تباعاً انسلَّ الصامتون المتلعثمون.
كلُّ خطوةٍ أعدّتها زفراتهم
أزيزُ سهمٍ غافلها.
كلُّ إغماضة حيرى وداعٌ أبيض.
كلُّ عودةٍ مقفرة.
كلُّ لمعانٍ مديةٌ تتراقصُ.
رهنوا سيقانَ قمحهم الخضراء
ومخاطَ الجواميسِ السوداء
وللدُّوارِ تأهّبوا. للبواخرِ التي تدنو
وضحكاتُ البحّارة تلمعُ في مطابخها.
في مرايا الباصات
الميمّمةِ شطرَ الميناءِ المحروس في الجنوب
انعكستْ نقودٌ بالية
غلغلتْ في مسامّهم المعروقة بقايا نتنها.
تقيّأ المسافرون على الكراسي،
مزّقتْ ممرضةٌ خوذتها،
بصقَ السائقون من شقوقِ النوافذ.

مرَّ العدّاؤون الذين ألِفوني وسئِموني
ركلوا القناني الفارغة،
وقطعوا ثقبَ الليلِ الدامي؛
الغبطةُ الطفيفةُ فاتتهم عند التخوم
فاستعذبوا كآبةً لا تزول؛
لمحوا شبّاكَ حُجرتي هناك مجدِباً،
فتمهّلوا
والتصق طحينُ عظامهم بالعجلاتِ العملاقة.

الصوفُ المجزوزُ
في اللحافِ المشدودِ إلى قمّةِ رأسي
أشاعَ الندى عطَنَهُ،
والمقصّاتُ يومضُ صليلُها كأقمارِ الغيبوبة.

ما الذي سيتبدّلُ
تحت سماءِ الجحيمِ الصافية؟
مَنْ لا تخيفه الظلالُ المغروزةُ في عقبيه
حين يعودُ وحيداً؟

شبحٌ ينادي شبحاً.
اسمٌ ينادي اسماً.
فتنفتحُ الأبواب،
وتدحرجُ الأصابعُ المقطوعة في الممرات
أشواكَ خواتيمها.
[مباراة في ملعب المساكن
( إلى سندس خليل)
كذبتي سوداء
لو قلتُ
يا صاحبي
من تخومِ السكّةِ القصوى
النسوةُ القاطفاتُ للأبقارِ عشباً
يرجعْنَ هذا المساء
على مهلٍ، مثلنا،
عبر الملعبِ المفتوح للجهاتِ الستّ
يوبّخنَ بائعَ المثلَّجات
لا ملولاتٍ فيختضَّ في البطونِ إخوتُنا
ولا صامتاتٍ يَطلنَ، إن شئنَ،
ببسمةٍ، بالأيدي التي وُشمت،
ألقَ النجمةِ الأولى.

لأرهِفْ سمعي:
هدأ المساء
آخرُ الأنّاتِ مرَّ مواسياً
مرَّ السحابُ خفيفاً
وعمَّ الطنينُ…. الطنين.

بين شجرِ البيوت وسماءِ نيسان
نولٌ تحزُّ فيه الريحُ
ثم خفيفةً صافرةً تجيءُ إلينا
أوتاراً مقطوعة
صدِئتْ ولم تطربني.

فبمَ تقسِمُ حتى تكادُ الغصونُ
عليكَ تنثني أسَفاً
فيتراكض الفتيانُ إلى قطارِ الشمال
وينهضُ الغبارُ
فيما المسدّسُ بعقبهِ المذهَّب
يدقُّ الباب
فترتجُّ كؤوسُ الشاي
ويختفي اللاعبون في ظلامِ الحقول؟

هدوءاً، إذن، ولا تلهثنَّ بوجهي.
ما كنتَ لي شقيقَ شتاءٍ يوماً
ولا ساقك الليلُ إلى البعيد حيث أقمتُ
برهةً لغيابي.

لو استرخى جناحي
(وليس لي غيره)
واستجدى لساني
سأمَ الربيعِ القاسي
أريدُ الأرضَ آنئذٍ عشّاً
أجولُ تحت أديمها
لعلَّ ما أحببتُ يعودُ إليّ
ناضجاً وشهياً
لعلَّ الجذرَ يحمرُّ في الظلمة
وتبيضُ في دفئهِ الجنادبُ
أو ترقدُ النمالُ
راجعٌ بي إلى ما قد مضى
ومن يدري بأيِّ اللُّقى سأعودُ محمَّلاً
إذا تبدّدَ الرذاذُ
وابيضَّ الصبحُ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى