صفحات سوريةموفق نيربية

المعارضة مسؤولية… كما السلطة

null
موفق نيربية
للنظام السوري وجهان: أحدهما أمني غالب يعشق العزلة والتوتّر، والآخر سياسي متردّد يرغب في التعايش مع العالم رغم متغيّراته. فليس هنالك عزل للنظام بمقدار ما هنالك من الانعزال من قِبله.
قيل كثيراً إن النضال من أجل الديمقراطية بالوسائل الديمقراطية في ظلال الاستبداد يندرج في حقل الصعب، ولا نقول المستحيل. فحقل الاختلاف المحدود ضمن ميدان تحوطه الأسلاك الشائكة، مع خصم يمتلك القدرة والأدوات القاهرة وحده، يقلّص إمكانات النضال الديمقراطي ويحرجه، بل يستدرجه إلى الانعزال والتطرّف، في تفكيره وتعبيره على الأقل.
فصفاء المناضل بالوسائل الديمقراطية يتشوّه من دون العلنية والشفافية، وينحرف عن قيمه إذا استعمل أسلحة تفيض عن الرأي والتعبير والتنظيم والإضراب والتظاهر والحوار، أو يصبح منطوياً على حقده بانتظار تفكّك الخصم بسبب قصوره أو هزيمته أمام ضغوط الآخرين ومواجهاتهم.
ومهما تعرّضت المعارضة الديمقراطية للقمع والتهميش، وحوصرت قدرتها على النشاط والاتّصال بالمجتمع، فإنها لا تستطيع التملّص من مسؤوليتها، وعن تمثيلها للآخر في البلاد التي لا تكتمل شخصيتها الوطنية من دونه. ومن ضمن مسؤوليتها ألاّ تتهرب من إبداء الرأي حيث يجب أمام المتغيّرات المهمة في السياسة.
مثل هذا الصمت الرهيب حالة مرضٍ وسرطان قاتل للنفس الأبيّة بالتأكيد، لكنه طبيعي إذا كان الممكن الوحيد المتاح أمام المناضل الديمقراطي هو أن يصوغ مشروعه في صيغة المواجهة الحربية أو أن يمارس السياسة بروح جهادية، وليس ذلك صحيحاً ولا مطروحاً. لأنه آنذاك سوف يتوقف عن أن يكون ديمقراطيا غالباً، وسوف تتقلص قدرته على إقناع الآخرين بمشروعه بالتأكيد.
الأوضاع الراهنة للمعارضة الديمقراطية في سورية؛ وبالخصوص تلك التي يمثّلها ائتلاف إعلان دمشق؛ يمكن أن تكون مثالاً معقّداً عن مثل الحالات المذكورة. وقد أثار موقفها الأخير من سياسة عزل النظام والمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بعض الجدل والعتب المرير المكشوف من قبل مثقفين ديمقراطيين هنا وهناك، والخفيّ الخجول من قبل آخرين.
جوهر هذا النقد انزعاج وخيبة أمل ممّا بدا موقفاً إيجابياً من النظام وتراجعاً يهدف إلى تهدئة حملته الأمنية «وربما بما يسهم في الدفع نحو الإفراج عن قيادات المعارضة ومثقفيها الموجودين في السجون»، وحرص المشروع على نقاء المعارضة، وعلى ألاّ يتسرّب أيّ قول معارض إلى جيب السلطة وحسابها. وهناك ميل إلى تفضيل الصمت بدلاً من مثل هذه المواقف.
إن تشجيع عزل النظام درس بليغ بالفعل من تجارب الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في أوروبا الشرقية والاتّحاد السوفييتي السابق، لكنه قد لا ينطبق بالبساطة نفسها علينا. فنحن لدينا حالة مختلفة وشروط قد تشبه أو لا تشبه تلك الأمثلة. وتاريخ بعيد وآخر قريب مختلف، ولدينا أوضاع العراق ولبنان وفلسطين أمام أعيننا، بل في شرايين ناسنا وأهلنا. بل إن مزاج المواطن العادي واستعجاله السابق لعملية الانتقال المذكورة قد شابهُ التردّدُ والقلق والحيرة أمام المشهد الإقليمي، وهذا لا بدّ أن يكون في حساب كلّ مَن يريد التدخّل والمشاركة السياسيين.
للنظام السوري وجهان: أحدهما أمني غالب يعشق العزلة والتوتّر ،والآخر سياسي متردّد يرغب في التعايش مع العالم رغم متغيّراته. فليس هنالك عزل للنظام بمقدار ما هنالك من الانعزال من قبله. ولا يمكن الوقوف ضدّ سياسات الانعزال وتأييد سياسات العزل في الوقت نفسه، وأيّ تأييد للعزل مفرح لأرباب الانعزال ويصبّ في مصلحتهم. وهذا كلّه من دون البحث في سياسات العزل العمياء التي تجرف في طريقها ما بقي للمواطن من وسائل العيش والحياة والحرية.
أمّا مسائل الحرب والسلام، واستعادة الجولان المحتل، فمسألة أخرى أكثر تعقيداً. وهي أيضاً من مسؤولية المعارضة الديمقراطية. فمعلوم تماماً أن هذه المسائل بحاجة إلى تفويض مازال مفقوداً من الشعب، لكنّها أمرٌ واقع، كالنظام نفسه، ولا يمكن إدارة الظهر لها. بل لا يمكن ترك النظام وحيداً في هذا الحقل أمام الطرف الآخر، وزيادة ضعفه من خلال ضعف تمثيله. لا بدّ في مثل هذه الحالة من التدخّل بالموقف المناسب لضمان ألآّ تتضاعف التنازلات، ولبيان تأييد مبدأ السلام والتسوية وعودة الجولان.
هكذا تنسجم المعارضة مع وطنيتها من جهة، وتبقى منسجمة مع ديمقراطيتها التي ترتبط بقيمة السلام الداخلي والخارجي من جهة أخرى. وفوق هذا وذاك، ليس هنالك حظر أخلاقي أو إيديولوجي على التراجع أحياناً في حقل الممارسة السياسية الذي قد لا يتطابق أحياناً مع متطلبات الحقل الثقافي. وقد شكّل انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق في 1/12 من العام الماضي خطوة كبيرة كان من الطبيعي تحصينها بالاستناد إلى الجدار مباشرة بعدها، الأمر الذي تأخر ولم يحدث، خصوصاً بعد أن عرقلته حملة النظام الذي يكره الاعتدال بسبب تركيبته الأمنية المشار إليها.
وعلى كلّ حال، ليس الصمت حلاًّ مستساغاً، وهو قرين الاستبداد وأحد عصاراته المرّة.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى