حسين عيسوصفحات ثقافية

حكاية قرية كردية *

null
حسين عيسو
كلبهار , حلوتي هل تسمعين
عمّك أو خالك , ما عدت أذكر جيدا
فلقد نسيت من أنا , لأنني محظوظ
من نعم الله , في هذي الديار في عصرنا
فقدان الذاكرة , ونعمة النسيان
لا تسألي أو تجزعي بل اسمعي
أروي لك حكاية
عن زمن قديم
وقرية أو خربة مهجورة
منها أتى والدك والعائلة المشتتة المسحورة
قالوا بناها جدك أو جده ما عدت أذكر جيدا
وفي السجل اسمها باب السلام “الخربة المنسية”
ومجمل السكان كنا
دستة من الأطفال والنساء والرجال
ودابة وحيدة في القرية ” داشي حمّي”أي حمار
يقضي لنا الأشغال والأسفار
وندخل به السباق مع الصغار
من قرى الجوار
وللحماية عندنا كلبان
كرجي لنا , وشيرو للجيران
وكانت الحماية في حالنا ضربا من الإسراف والغرور
فما هناك شيء للصوص في دورنا
تمر أيام طوال دون عبار السبيل
حتى الكلاب تمل من الكسل
من قلة العواء والعمل
فعمو بَحّي العربجي العطار
يمر في المواسم صيفا وفي فصل الخريف
مثرثر حرّيف , في خرجه الكثير
والعربة يجرها “بركيل” **
سكاكر وعلكة وثرثرة يبيعنا مبادلة بالقمح والشعير
يحكي لنا الكثير عن زمن قديم
وحاكم تركي طاغية شرير
وقد نجا من شره ومعه من أهله القليل
ولم نكن نحن الصغار وقتها لنفهم من هرجه
فكل ما يهمنا في خرجه
وكانت القرية مبنية بعيدا في برية
ولم تكن بقربها أنهار تعبرها قوارب
وأرضها تملأها الجرذان والعقارب
ويسكن جنوبها زوج من الثعالب
نعاني منهما بسبب الدجاج وكثرة المقالب
وفي الشمال شبه تلة مغضية
قالوا بها غول وزوجه الجنية
تأكل كل طفل وطفلة شقية
فترعب قلوبنا الصغيرة الفتية
فان خرجنا في الليالي المعتمة المخيفة
كأننا كنا نراها حولنا في مشية حفيفة
أو أنها من خلفنا تدور
أو خارجة تلف حول الدور .
قريتنا كانت مرارا في جفاف
والأرض لا تعطي الكفاف
ان أمطرت طافت الدور في الوحول
وبعدها نجني من الزرع القليل
أحلامنا صغيرة ولا يهم ما يدور
خارج الحدود , في العالم المجهول
فكل شهر يذهب الملا بشير
الى المدينة وسوقها الشهير
“وهي مخبز ومقهيان وصف دكاكين” بلدة صغيرة
لكننا في حلمنا كنا نراها ضخمة كبيرة
ليعود بالتموين , سكاكر وشاي للشراب
ومن الحكايا كل ما لذ وطاب
يحكي لنا في كل يوم قصة عما رأى
وغالبا يكرر الرواية في الخربة الكئيبة
فتؤنس حياتنا الرتيبة
ومرة أتت اليه في المنام جارتنا الجنية
تستفسر عن حالنا في الخربة المنسية
أجابها الأحوال في قريتنا تعيسة مضنية
فردت الجنية: بأنها شريكة في رزقنا
تقتطع لنفسها الكفاية
وبعدها ترمي لنا النفاية
فأمسك بعنقها وهو يروم قتلها
ثم استفاق على الصراخ
وزوجه المسكينة , تدفعه عن نفسها
كان يحاول خنقها
وبعدما ينهي لنا الحكاية ونشبع فضولنا
نعدو الى أشغالنا للعب في التراب
فتقرح العيون
ونلعب الحجارة والكعوب
فتجرح الأصابع وتهتري الجيوب
نطارد الطيور في السهول
ونأكل الخبز من التنور
أجسادنا تحرقها شمس النهار
وفي الشتاء الزمهرير والمدرسة
ففي الصباح أمنا تصحو مع الطيور
تشعل النيران وتوقد البابور
لتدفئ حجرتنا وتحضر الفطور
فنملأ بطوننا الصغيرة
وتملأ جيوبنا ذخيرة
ونهرع للمدرسة في البرد والثلوج
نعارك الوحول في الدروب
مجرجرا حذائي المثقوب
وغالبا ما نبدأ العراك مع الصغار الآخرين
وقت الإياب
وأمنا تنتظر عودتنا بالدفئ والحنان .
وجدة الجميع كان اسمها “وسّو” بالعربي “وسيلة”
كردية أصيلة
امرأة عجوز طويلة نحيلة
وظهرها محدودب ووجهها أنهكه الزمان
في قلبها من الحنان
ما يشمل الجميع حتى القرى الجيران
وعندها ذاكرة قوية عجيبة
وتزخر بالقصص الغريبة
قسم جرى أمامها منذ دهور في صغرها
وما رأته بعينها
وكذا روايات سرت لأذنها من الرواة وقتها
حكت لنا في ذات يوم قصة عن حاكم
كان اسمه عبد الحميد
وعنده في العاصمة قصر فريد
سماه يلدز باسم جارية له جميلة
أخذها لنفسه محظية خليلة
وكان ذا السلطان طاغيا شريرا وحكمه يعم في الأرجاء
وبطشه الأموات والأحياء
ويقتل الرجال ويقتني الكثير من النساء كالأشياء
وبعدها فان ذا السلطان كغيره من الطغاة
قد انهزم ثم انطرد وعاش في الهوان
لكن من هم  أشرس , حلوا في المكان
ودخلوا الحروب ضد بلاد في الجوار
وانهزمت جنودهم فبرروا هروبهم
بأن شعب الأرمن الرازح تحت بطشهم
قد ساندوا عدوهم
فأعلنوا القرار بالوبال أو الأنفال
وصدر الفرمان بالانتقام
فدمروا القرى وهدموا البيوت في المدن
وأحرقوا الأشجار ونهبوا المؤن
وقتلوا الكثير من الرجال الأبرياء
وهجّروا الشيوخ والأطفال والنساء
فمات منهم الكثير من قهر وجوع في الطريق
وذات يوم انهمرت دموعها مثل المزن
لما رأت أما من الأرمن
أبعدت طفلتها بالضرب عنها
فمجرم من الرعاع قد اشتراها لنفسه
ثم أراد فصلها عن بنتها الصغيرة التعيسة
والأم تضرب نفسها تستنجد مثل الغريق
لا تعرف أين المعين
والطفلة المنكوبة مدهوشة رعبا وضيق
لم تستطع وسّو الجريئة
أن تطيق ما حصل , دون عمل
فواجهت ذاك الذي شبه البشر
تأمل أن يتركها لبنتها ويخجل من نفسه
فكيف تشترى البشر
لم يفهموا ماذا تقول
فضربوا جبهتها
ليفسحوا المجال كي يهرب الذئب بالضحية
لم تبتئس أو ترتعب أو تنهزم
فطاردت وقاومت وشتمت
فكيف يفعل ذلك من كانوا من جنس البشر
وبعد يأسٍ قدمت سوار عرسها
كرشوة أو كثمن
حماية لمريم الصغيرة
لتحظى بالرعاية في دارها
بجانب صغارها
والجرح في جبهتها يشير
أن امرأة عزلاء
ضعيفة كما يقال
قارعت الطغاة وحدها
من دون خوف أو وجل

*هذه الحكاية كتبتها منذ حوالي العشرين عاما لابنة أخي في باريس وكانت طفلة صغيرة , ردا                                           على أسئلتها الكثيرة كما هي عادة الأطفال , أجريت عليها بعض التعديلات , للنشر
** نوع من الأحصنة باللغة الكردية

الحسكة في 12/06/10
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى