صفحات ثقافية

المثقـــف العربـــي.. مــن يعلّــم ومــن يؤثــر

null
عباس بيضون
في ملف لمجلة النوفيل اوبسرفاتور الفرنسية حول «السلطة الثقافية» نفهم من افتتاحية جان دانيال أن لدينا مثقفين (في فرنسا بالطبع) ولكن ليس لدينا معلمو فكر. نفهم من جاك جيليار الذي يميز بين المثقف بمعنى المتدخل والفنان (فنان الفكر) بمعنى المؤلف، أن الفنان بهذا المعنى هو المفقود في حين ينخفض مستوى المثقف، يخالف القائلين بأن كان لمثقفي الأمس سلطة أكثر مما لديهم اليوم. كان سارتر وكامو وبارت وفوكو وليفي ستروس ودولوز كباراً في أنفسهم وكانوا بحد ذاته سلطة لكن لم يكن لهم التأثير الذي لمثقفي اليوم الأقل نفوذاً. استطاع امثال هنري برنار ليفي وآلان فنكيالكروت ان يؤثرا في حرب البوسنة واستطاع ليفي مع لانزمان ان يحبطا انتخاب فاروق حسني مديراً للاونسكو. ليس التأثير هو الذي يقل بل القيمة، الميديا التي أمنت لهؤلاء نفوذاً تفضل المثقف الصخاب على العميق. العملة السيئة هكذا تطرد العملة الجيدة، ومثقف الميديا هو الآن نجم لكنه نوع آخر من المثقفين. انه المثقف «الإعلامي» الذي هو في نظر بيار نورا بقيه من عصر ماض وليس لديه محمول ثقافي حقيقي يقدمه فيما يعاني المثقفون الذين لديهم ما يقدمونه من عزلة فعلية. هذا غيض من فيض الملف ولا يهمني التوسع فيه. يهمني أكثر فتحه على المثقف العربي.
يومئ غياب عبد الكبير الخطيبي الصامت نسبياً بالمقارنة مع ما أثاره غياب الجابري بأن المثقف «الفنان» بالعودة الى جيليار غير ملحوظ في ثقافتنا، اهتمّ الخطيبي بالإرث الثقافي والشعبي، لكنه لم يتدخل في السجال العام الذي عنوانه من اين نبدأ ولم يرسم تخطيطة عامة للفكر العربي لذا كان تأثيره جانبياً، فيما كان الجابري الذي كما قال يزاول السياسة بالفكر عظيم التأثير في حقبة كاملة، لا اعرف اين نضيف الجابري، لكن كل محاولة لإيجاد تخطيطة شاملة متناسقة تبدأ، من حيث الأساس، من خطة ايديولوجية او سياسية، كما قال الجابري الذي لم يتجنّب السياسة المباشرة وتورط في مواقف إشكالية منها، مع ذلك يمكن القول إن الجابري وأمثاله لا يؤثرون قليلاً وكثيراً في صياغة رأي عام او في دعم سياسة ما او خدمة قضية من أي نوع، يجيب هو والآخرون على اسئلة انطولوجية. يقولون من أين نبدأ لكن جواباً كهذا يبقى اقتراحاً ايديولوجياً معلقاً فيما مواقفهم السياسية، إذا وجدت، لا تفعل سوى التشكيك في مقدماتهم.
هل يمكن القول إننا بلا معلمي فكر اليوم وليس لدينا امثال طه حسين وسلامة موسى والريحاني وقسطنطين زريق والقصيمي (أيا كانت القيمة الحقيقية لأي منهم). لم يكن هؤلاء معلمي فكر الا بالقياس الى التاريخ البسيط الذي عاشوه في نهايات الاستعمار وبدايات الاستقلال. كان الزمن ما يزال للتأسيس ولهياكل رئيسية وللحوار في نخبة قليلة وللدعوة والإصلاح، لقد كانوا نافذين نسبياً بهذا المقياس. الآن تعدينا تماماً هذه الفترة. ليس التأسيس بعد أمامنا بل المعالجة العقيمة لما تراكم على الأسس وللأسس الهجينة ذاتها، ليس الحوار بعد في النخب ولا المتعلمين ودعواتهم وخططهم. هناك فنانون ومثقفون بل فنانون مثقفون لكن تأثيرهم يتضاءل باستمرار. إذا كان لنا ان نضع خطاً بيانياً لمسارنا في هذا المجال فهو طرد العملة السيئة للعملة الجيدة وبمقياس تاريخي. طرد التلامذة المتعصبين للأساتذة المتوسطين. ثم طرد الفلهوي للتلميذ. قد يكون هذا ما جرى في انظمة «المثقفين» وفي أحزاب المثقفين التي رغم هذا الاسم، كانت الكابح الأساسي للتفكير والعمل الثقافي. من هذه الناحية كان المسار ينحطّ من تخطيطات سياسية وايديولوجية الى رطانة شعبوية. ليس لنا امام هذا الخط الانحداري ان نتحسر على فقدان معلمي الفكر. الواضح ان الثقافة الوحيدة القائمة هي ثقافة المعسكرات. ليس هنا وهناك سوى معلم واحد هو الزعيم السياسي او قيادات الجماعات او الرئيس القائد. ليس هناك سوى جملة «رواسب» هي التي تشكل الثقافة العامة، هذا الكلام المستمر عن الثوابت لا يعني سوى الرجوع الى نعرات مشتركة. في النهاية لا يبدو المثقف من أي نوع كان مهماً، المهم هو «الكادر» والكادر يحلّ محلّ عنايته بالأفكار، يمكن القول إن «الأفكار» هي نهائياً خارج اللعبة.
المثقف الإعلامي هو تقريباً الكادر المفوه الفلهوي، المثقف الإعلامي في الحد الذي يعني حضوراً للشخص ودرجة من الاستقلال لم يوجد بعد عندنا. ثمة قانون بسيط للنقاش التلفزيوني تبعاً للحالة اللبنانية هو ان الإغراق فيه يزداد بالنسبة نفسها تبسيطاً وكليشيه وقسمة ثنائية أي تطبيعاً كاملاً للنقاش نفسه. ما من معلمي فكر بهذا المعنى فمن الواضح ان المثقفين عديمو التأثير وحتى العضويين منهم لا يملكون إزاء جماعاتهم وتنظيماتهم أي سلطة فليسوا هم الذين يصوغون او يبرمجون او يصنعون أفكاراً. انهم ألسنة للمواقف والصياغات فحسب.
ذكرنا الجابري ويمكننا ان نذكر ايضاً أدونيس. الاثنان، على نحو ما، معلما فكر، الاثنان قدّما، وبدرجة من التضاد، معادلة فكرية شاملة. الاثنان، سلباً أم إيجاباً، عالجا السؤال الانطولوجي، من أين نبدأ. وقدّما، سلباً أم إيجاباً، جواباً يخترق التاريخ والثقافة العربيين. الاثنان لعبا دوراً «إعلامياً» في توصيل أفكارهما: التبسيط والشرح والندوات والصحافة والتلفزيون، الاثنان لا يمكننا ان نهمل ما يقولانه وثمة تردّدات متفاوتة لكلاميهما، مع ذلك فإن المشكلة أن الاثنين يطرحان سؤالاً فات تقريباً. هو سؤال التأسيس. من أين نبدأ سؤال هام، لكننا بدأنا وما زلنا نتخبط في عواقب البدايات، نحن فيما بعد التأسيس وأسئلة الواقع أكثر جزئية وتركيباً ولا تستطيع تخطيطة فكرية او ايديولوجية شاملة ان تفعل في هذا المجال.
من هو المثقف الاعلامي عندنا إذاً. المثقف الذي قد يجد زحاماً نسبياً على قراءة آرائه وكتابته. اشارات غير قليلة تؤكد انه أبعد ما يكون عن تضاعيف واشكالات الحياة الجارية، انه الضد البسيط للاستغراق اليومي والسياسي بوجه خاص، القراء الذين يعانون عقم الواقع وانسداده بحاجة الى عزاء روحي. من هنا يأتي المثقف المعزي الذي يحشو كتاباته بما يشبه الكلام المأثور. تعاليم في الرثاء للنفس والبكاء على الزمن الذهبي فضلاً عن تعليم الحكمة والحب. هناك مقابل المثقف المعزي المثقف الغاضب وهذا، في الغالب، لا يحدّد ولا يعني فالغضب أسمى وأقدس من أن ينحصر ضد هدف واحد. انه غضب شمولي وجاهز ومطلق، هذه أنماط من المثقف الإعلامي. من الواضح ان ليس لهذا صلة بالإعلام نفسه ولا بالتدخل ولا بالتأثير المباشر، انها تقريباً العودة الى النبع الجبراني الذي يتحوّل هكذا الى غبار للكلمات.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى