صفحات سوريةياسين الحاج صالح

الليبرالية الجديدة والبورجوازية الجديدة في سورية

null
ياسين الحاج صالح
بميله المطرد إلى مطابقة الليبرالية والليبرالية الجديدة، يخطئ النقد الموجه لليبرالية في سورية مرماه بدرجة تنعكس على مقاصده العدالية المفترضة، وتحكم باستحالة صوغ سياسة متسقة حيال «الليبرالية الجديدة». ثمة لبرلة للاقتصاد مؤكدة في البلاد خلال بضع الأعوام الأخيرة. ووزن المشاريع المملوكة من قبل خواص في الناتج الوطني الإجمالي يقترب من ثلاثة أرباع. والمؤشرات المتاحة تظهر أن المستفيدين من التحرير الاقتصادي الجاري هم بالخصوص «البورجوازية الجديدة» التي تكونت في كنف النظام وجمعت ثرواتها بآليات «تراكم أولي» تتجاوز «الفساد» إلى وضع اليد والنهب المباشر للموارد الوطنية والتهريب العلني وتصنيع قوانين على قياس متمولين نافذين والاطلاع المسبق وغير المشروع على معلومات ثمينة (قرارات حكومية، مشاريع قوانين…). البنوك الجديدة والشركات الكبرى الجديدة (منها شركتا طيران مثلا) والاستثمارات المجزية وسرعة الدورة الاقتصادية والمردود كلها مملوكة لبورجوازيين جدد (سبق أن سميناهم «الجيل البعثي الثالث») وشركاء محليين وأجانب لهم. أما «القطاع العام» فيتدهور مردوده وأداؤه بعد أن كان متدهورا قبل ذلك.
الشيء الصحيح في التحرير الاقتصادي في سورية أن القطاع الحكومي ليس مؤهلا لأن يكون قائدا للتنمية، خلافا لما يفضل أن يعتقد نقاد اللبرلة. لقد آل الاقتصاد السوري إلى الركود تحت قيادته، وازدهر الفساد والمحاسيبية، وارتفعت البطالة والفقر، وتمعن عقلانية الاقتصاد في التدني دون تعويض اجتماعي موازن، هذا فضلا عن تخلف تكنولوجي متراكم.
فهل يعني ذلك أن «اقتصاد السوق» هو الحل؟ هذا ما يبدو أن القائمين على السياسة الاقتصادية يعتقدونه. وهو ما يبدو أن المنددين بالليبرالية الجديدة يرفضونه. لا أحد يتساءل عن الشروط الاجتماعية والسياسية للبرلة الجارية. يبقى الجميع أسرى مقاربة اقتصادوية وإيديولوجية، تقع الدولة والسياسة والطبقات خارج متناولها.
الواقع أن السياسة الاقتصادية المعتمدة في البلاد تعرض سمات ليبرالية جديدة بالفعل (تحرير التجارة الخارجية ورفع الدعم عن السلع المدعومة وتشجيع الصادرات وتوحيد أسعار الصرف والتقشف وتقييد الإنفاق العام…) لكن ليس لأن كل تحرير اقتصادي هو لبرالية جديدة، بل لأن التحرير يجري بينما المجتمع السوري مقيّد سياسيا وممنوع من الدفاع عن مصالحه. بعبارة أخرى، يجري تحرير الاقتصاد بينما «البورجوازية الجديدة» حرة ومحمية من قبل الدولة بالذات، وفيما مجتمع العمل مغلول اليدين واللسان. ومن البديهي في ظل موازين قوى اجتماعية كهذه أن تكون نتائج التحرير محابية بإفراط للأقوياء بقدر ما هي مقوضة لمواقع الفئات الاجتماعية الأضعف والأدنى حماية. وتتكفل الموازين ذاتها في تحقيق مفاعيل الخصخصة دون خصخصة، أعني تقوية الخواص الموسرين وإضعاف العوام. وإنما لذلك تغيب الخصخصة من قائمة مفردات البرنامج الليبرالي الجديد التي ذكرنا للتو.
وعليه فإن الليبرالية الجديدة ثمرة محتومة لتحرير اقتصادي في ظل التسلطية، ومقاومتها ممتنعة دون تمكين مجتمع العمل من تنظيم نفسه والدفاع عن مصالحه. وهذا ما يسكت عنه النقد الدارج، مفضلا تنديدا سهلا بالليبرالية الجديدة.
وإذا كان من المفهوم أن تتكتم الجهات الحكومية المشرفة على السياسة الاقتصادية الجديدة، ما يسمى «الفريق الاقتصادي»، على البعد السياسي لأنها طرف في النظام ذاته (يفضل كثيرون، بعثيون و»جبهويون» ومن في حكمهم، أن يركزوا نقدهم على «الفريق الاقتصادي» كأنه صاحب قرار مستقل في هذا الشأن)، فليس مفهوما أن يسكت عليه محسوبون على المعارضة، مركزين نقدهم على الدفاع عن «القطاع العام» بدل الاعتراض المتسق على مركب التسلطية/ البورجوازية الجديدة.
قبل سنوات أظهر جوزف ستيغلتز، الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2001 والناقد اللاذع للسياسات الليبرالية الجديدة ووصفات صندوق النقد الدولي، أن تحرير الاقتصاد يمكن أن يكون مواتيا للتنمية والعدالة في توزع الدخل الوطني ضمن شروط ثلاثة: أولها تنافسية كاملة، وثانيها حرية متساوية في الوصول إلى المعلومات بشأن العقود والصفقات، وثالثها نظام قضائي مستقل وقادر على البت بنزاهة في النزاعات بين الفاعلين الاقتصاديين. أي بالضبط إذا اندرجت لبرلة الاقتصاد في لبرلة أوسع. ستغلتز لم يخرج من دائرة الاقتصاد، والحريات التي دافع عنها حريات موصولة بالاستثمار والمشاريع الاقتصادية، لكنه طور تصورا متسقا ضمن هذه الدائرة.
لا شيء من عناصر هذا التصور متاح في سورية. التنافس مقيد بشدة، في مستوى المشاريع الكبرى بخاصة؛ حرية المعلومات مقيدة بشدة، ومن المرجح أن بورجوازيين جددا يحوزون نفاذا تفاضليا إليها؛ النظام القضائي كارثي، لا يستطيع شراء العدالة منه غير الأثرياء. في الحصيلة مجتمع العمل مقموع، ومجمع الملكية والسلطة طليق. هذه هي الليبرالية الجديدة. إنها نتاج الفصل بين إصلاح اقتصادي بالمعنى الضيق للكلمة، تستفيد منها البورجوازية الجديدة ومن والاها، عن إصلاحات سياسية واجتماعية وقضائية تحمى مجتمع العمل، وتعدل ميزان القوى النسبي بينه وبين البورجوازية تلك المتحصنة بالسلطة العمومية. هناك واحد من خيارين متسقين حيال هذا الوضع. إما وقف تحرير الاقتصاد والعودة إلى اقتصاديات «القطاع العام»، وهو الخيار الذي يعي ذاته عبر هجاء الليبرالية الجديدة (وتخصيص «الفريق الاقتصادي» الشرير بالنقد، بعد فصله عن النظام السياسي الخيّر)، والذي يكشف اجتهاده في إلحاق الليبرالية بالليبرالية الجديدة عن انحيازه للتسلطية؛ أو بالعكس إدراج تحرير الاقتصاد في تحرير أوسع للمجتمع السوري يمكنه من تنظيم قواه والدفاع عن نفسه، وهو ما ننحاز إليه. الخيار الأول هو خيار دولتي أو أبوي، مقترن في كل مكان بالتسلطية ومتعارض مع الديمقراطية. الخيار الثاني تحرري، يرهن حريات البورجوازيين بحريات العاملين، أو يجعل من هذه شرطا لتلك. وهو بذلك مؤات للديمقراطية. فكلما تمكن مجتمع العمل من حشد قواه وعبّر عن نفسه كانت فرص الديمقراطية أكبر وآفاقها أوسع. غير أن الخيار السائد اليوم هو ذاك الذي يجمع بين تحرير الاقتصاد والاستمرار في مصادرة السياسة. وهو خيار يرجح أن يعالج عدم اتساقه بالتوسع في وسائل الإكراه في وجه أية احتجاجات اجتماعية ممكنة. إنه خيار البورجوازية الجديدة الذي يتعذر تطوير نقد متسق له دون الخروج من الاقتصادوية من جهة، ومن التعمية الإيديولوجية التي ترفض التمييز بين الليبرالية والليبرالية الجديدة من جهة ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى